في رواية الفرنسيّ «فرناند سيلين» «من القصر الآخر» 1957، والتي تحكي عن الغربة التي انتابت كلبة نقلها البطل من الدانمارك إلى فرنسا، يعجب «ميلان كونديرا» كثيراً بمشهد موتها، الهادئ والجليل: «تمدّدت ببهاء، بدأت بالحشرجة، كانت النهاية… لقد ماتت على اثنتين، ثلاث حشرجات صغيرة، أوه، كتومة جدّاً، دون أيّ شكوى…رأيت كثيراً من المحتضرين، هنا، هناك، في كلّ مكان، لكنّهم عن بعد ليسوا بهذا الجمال، كتومين، مخلصين. إنّ الذي يؤذي في احتضار الإنسان هو التباهي…».
تسحرالعبارة الأخيرة «كونديرا»: «إنّ الذي يؤذي في احتضار الإنسان هو التباهي!»، إنّها عبارة معجِبة جداً لأنّها حقيقيّة. لقد استطاع كلّ من «سيلين» و»كونديرا» العثور على الجمال في هدوء الاحتضار، فما بال كتّابنا يتحلّقون حول الضجيج، ويتباهون بالموت، وقد صار كلّ منهم مخلب قطّ لفصيل سياسيّ، يعدنا بجنازات جماعيّة صاخبة!
أتجوّل في معارض الكتب، أمرّ بروايات رائعة لروائيين أمتعونا كثيراً بنصوصهم، فتؤذيني كتبهم الأخيرة عن السياسة، والثورة، والحرب، وأتساءل ما الدافع الذي يدفع أرباب الفنّ لينغمسوا في درك السياسة، لماذ يصرّ كتّاب أُخذنا حتى بجماليّات قبحهم على أن يتحوّلوا إلى سياسيّين، فينتقلوا بخطوات فجائعيّة من الأخلاقيّ إلى اللاّ أخلاقيّ؟! أعتقد أن لا شيء يشفع للانحدار، ولا عزاء في فقد الجمال، إنّ الأدب يخسر لصالح المتعاليّات، لصالح اللاّ أدب.
يحدث أن يوهمنا الكاتب بتحرّره، مثلما أوهم نفسه، إذ يبدأ مع الناس، يكتب عن الحياة ضدّ الموت، يصل إلى سرّ الصنعة، فنحبّه، ويحقّق أعلى نسب للمبيعات، ويحصل على أهمّ الجوائز، ثمّ تخذله قدرة تحمّله على الوصول إلى الجوهر، إلى الصدق، فيقع أسيراً للطمع البشريّ، يطمع في رئاسة دائرة، أو كرسي وزارة، أو رئاسة حزب، فينحاز إلى الموت المنمق، من أجل المال والسلطة، وهذا ما يحوّله إلى مخلب قطّ لا للايدولوجيا، بل لتشكيلات سياسيّة مهيكلة تعتريها فوضى عارمة.
قرأت عدداً من تلك الكتب، وتصفّحت بعضها، فلم أجد من يقاتل الاستعمار، ولم أجد ذكراً لفلسطين، كان الناس من البلد الواحد يتقاتلون بعضهم مع بعضهم الآخر، لذا ليس هناك من مسوّغات نجترحها مثلما فعلنا مع «كامي»، و»سارتر»، وغيرهما، والذين وقفوا في غالبيّتهم ضد الحرب، وضد الموت الذي فرضته بلادهم على الآخر، بل ما أحوجنا إلى «كونراد» لينقذنا من «قلب الظلام».
لا تعني السياسة، العربيّة تحديداً، سوى القتل، ويدور الصراع حول من يقتل بشرعيّة أكثر. لقد كفّ الفنّان الحقيقيّ، منذ هوميروس، عن منازعة السياسيّ على دوره، مذ ذاق طعم الجمال، وما زال بعض روائيّينا لا يستطيع تجاوز العتبة بين الفنّ بوصفه المظهر الجماليّ للثقافة، وبين السياسة التي هي مظهر الثقافة الأنثروبولوجيّ. يريدون أن يقولوا إنّهم يعرفون، لكنّ العالم كلّه يعرف، وهذا هو السبب الرئيس الذي يحملنا على أن نطفئ التلفزيون، إذ لم تعد هذه المعرفة شرط الوجود، إنّ شرط الوجود هو الحقيقة، ومن سيتصدّى لقولها عليه أن يقولها كاملة، بنصفيها، لا بنصف واحد، بنصفيها، الذي ينفع مصالحه، والذي يضرّ بها! والفنّ وحده يتيح قول الحقيقة كاملة، بلا مواربات، لا التعبير السياسيّ.
إنّ الفنّ صورة جامحة من صور الشجاعة، لأنّه يمتلك حريّة الاستعارات من الحياة، وممّا وراءها، في حين تتخفّى السياسة وراء العبارات المسطّحة، وغير المكتملة، ووراء المغامرات القوليّة، التي تعوّل على المرجعيّة الإديولوجيّة للمتلقّي.
لقد نزّهت السماء الروائيّ عمّا في أيدي الناس، فلم يصرّ على منازعتهم إيّاه؟! سئل عمر بن عبد العزيز عن فتنة عليّ ومعاوية، فقال: تلك دماء طهّر الله منها يدي، فلم أخضّب بها لساني! ليس لزاماً على الثوريّين أن ينظّروا للثورة، ولا على المتحرّرين أن يدعوا إلى الحرب، لكن يبدو الأمر وكأنّه قد اختلط على متتبّعي خطى «رامبو»، لقد تاهوا بين رامبو (آرثر) الفرنسيّ، الشاعر صاحب «إشراقات» و»فصل في الجحيم»، والذي ذهب والده إلى الحرب في الجزائر، وغاب، وبين رامبو، المخلّص بنسخته الامريكية في أفلام سلفيستر ستالون، والذي يحمل العبء التاريخيّ للرجل الأبيض. نحن لا نعيش اليوم في الحرب الجزائريّة الفرنسيّة، ولا في الحرب الفيتناميّة الامريكية، إنّنا نعيش «عمى» ساراماغو، ونحتاج إلى عينين، يفترض أن تكونا عيني الفنّان، لكنّكم تصرّون على أن تكونوا مثل نزلاء المصحّة الأشقياء، تتقاتلون على الطعام، والشراب، والحمّام، والسرير…
هل أتكلّم مثل «أوشو»! لاضير، فليس ثمّة أجمل من الصدق، إنّه شقيق الحقيقة، التي هي فقط هويّتنا، وأمّا الهويّات الأخرى، لاسيّما الجمعيّة منها، فهي خيال!
الموت حالة لا تدعو للتباهي أبداً، ونحن، في هذا الجزء من العالم، نحتضر جميعاً، فلماذا تكتبون الكتب لتتباهوا بموتنا! دعونا نموت بسلام، وبتواضع، وبلا ضجيج ايديولوجيّ. دعونا نموت عاجزين عن الدفاع عن أنفسنا، أو عن تسويغ خطايانا الصغيرة،علّنا نحظى بفنّان مثل كونديرا، يرى في موتنا جلالاً، كما استطاع رؤيته في موت صاحبة فرناند سيلين!
٭ روائية واكاديمية سورية
شهلا العجيلي
تعجز الكلمات عن وصف وصفكم للحال الذي وصلنا إليه، فليتغمدنا الله يا سيدتي برحمته ويسكننا فسيح جناته.