نواكشوط ـ «القدس العربي»: لعبت المدن الصحراوية وبخاصة المدن التي ظهرت في موريتانيا الحالية، دورا محوريا في التجارة والاقتصاد والثقافة ومختلف مجالات العمران، ضمن التاريخ الحضاري لغرب الصحراء، بل والصحراء الأفريقية الوسطى.
وارتبطت هذه المدن بطرق القوافل، ومسالك التجارة، والمبادلات بين أفريقيا جنوب الصحراء وحواضر الشمال الأفريقي، في تجارة نشطة بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط؛ حيث تلتقي روافد التجارة الآتية من الشرق عبر طريق التوابل الآتية من الهند وطريق الحرير الآتية من الصين، وهي السلع التي ينقلها تجار المدن الإيطالية من مصر والشام نحو غرب المتوسط.
ولقد نشأت حول المتوسط شبكة مبادلات بين المدن الأوروبية والمدن الصحراوية، عبر موانئ مدن الشمال الأفريقي، وبالأخص مدن وهران وسبتة، التي كانت بمثابة الموانئ الأهم لتجارة مدن غرب الصحراء عبر محاور: سجلماسة، توات، تلمسان.
لكن صعود القوى الإيبيرية (البرتغال أولا وإسبانيا لاحقا) غير موازين القوة في حوض المتوسط، وكان اكتشاف البرتغاليين لطريق رأس الرجاء الصالح والوصول إلى الهند، واكتشاف الإسبان للعالم الجديد (القارة الأمريكية) عوامل ساهمت في قتل التجارة عبر المتوسط، وتراجع أهميتها في مقابل ازدياد أهمية الأطلسي.
مدن صامتة ناطقة
عرفت منطقة الصحراء الكبرى التي تشمل موريتانيا الحالية، عبر حضارات مرت في حقب مختلفة، وجود مدن تاريخية تدل على عظمة هذه الحضارات، منها على سبيل المثال لا الحصر المدن الأثرية الموريتانية، وهي: شنقيط، وأوداغست، وكمبي صالح، وولاته، وتشيت، ووادان.
وصنفت مدن شنقيط، وودان، وتيشيت وولاته تراثا بشريا من طرف منظمة يونيسكو لكونها شكلت عبر تاريخ موريتانيا، بؤر تلاق وتمازج بشري ومراكز تبادل تجاري ومنارات إشعاع علمي وفكري.
مدن لها شأن
شنقيط، ودان، وتيشيت، ولاته هي مدن موريتانيا التاريخية الشاهدة على أصالتها وعراقتها، وبعد أن كانت هذه المدن على مدى عقود، حافلة بالنشاط العلمي ومحطة للقوافل التجارية الرابطة بين غرب وشمال أفريقيا، تحولت اليوم إلى مواقع أثرية وتراثية ناطقة بالإشعاع العلمي والثقافي، دالة بمكتباتها الزاخرة بالمخطوطات على أن أرض موريتانيا عرفت حضارة عربية وإسلامية في منتهى العراقة.
تيشيت حاضرة الإشعاع
ظلت تيشيت على مدى قرون، حاضرة علمية ومركز إشعاع فكري؛ وقد أنجبت العديد من الفقهاء والعلماء المتضلعين والمطلعين الذين نذكر منهم على سبيل المثال عبيدة بن احمد بن محمد الصغير والشريف احمد بن فاضل التيشيتي.
ولاته المنارة والرباط
كانت ولاته ولردح طويل من الزمن، مركزا تجاريا عامرا ومنارة علم مشعة وفضاء امتزاج بين مختلف الأعراق، وقد أنجبت العديد من رجالات العلم ورواد الفكر اشتهر من بينهم محمد يحي الولاتي والطالب محمد بن أبي بكر الصديق البرتلي.
وقد زارها ابن بطوطة سنة 1352 للهجرة، ووصف عادات أهلها وتقاليدهم التي قد أدهشه ما كانت تتصف به من تلقائية وانفتاح لا مكان فيه للتزمت والانغلاق والانزواء، كما نوه بالجو العلمي والمناخ الفكري المتميز الذي كان قائما فيها في تلك الفترة.
شنقيط الذاكرة الجمعية
أسست سنة 1226 للهجرة لتظل على مدى قرون متوالية مركزا تجاريا هاما ونقطة تلاقي القوافل التي تحمل الملح والذهب والحبوب والتمور ومختلف البضائع السودانية والشمال الأفريقية، كما شكلت منارة علم ذات إشعاع كبير.
وقد أنجبت فقهاء وشعراء وأدباء ذاع صيتهم وامتد تأثيرهم إلى تخوم السودان ومختلف أرجاء المغرب والمشرق العربيين.
واد علم وواد تمر
وتتصدر مدينة وادان قائمة المدن القديمة المصنفة ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو وضمن المدن التاريخية والأثرية المهددة بالانقراض.
وتضم مدينة وادان مكتبات تزخر بالمخطوطات والمصنفات التي تظهر أن اهتمام علماء موريتانيا لم يكن مقصوراً على العلوم الشرعية واللغوية والإنسانية فحسب، وإنما تجاوز ذلك إلى علوم الفلك وعلم الأنواء والحساب والهندسة والطب والبيطرة وغيرها من علوم الطبيعة.
وتقع مدينة وادان شمال شرق موريتانيا على بعد 93 كيلومتراً شمال شرق مدينة شنقيط، وتأسست عام 536 هجرية، حيث تحولت في ظرف سنوات قليلة إلى نقطة لتلاقي القوافل والتجارة خلال القرن الحادي عشر الميلادي.
وتنقسم حالياً إلى قسمين، حديث مأهول بالسكان وتقع فيه المباني الإدارية، وآخر قديم يسمى المدينة القديمة والتي يعود تأسيسها إلى القرن السادس الهجري والثاني عشر الميلادي، وتقول جل الروايات التاريخية إن أصل كلمة وادان، رغم أنها تلفظ عموماً ودان، هو أن فيها واد من العلم وواد من التمر.
ولعبت وادان دوراً أساسياً على صعيد الإشعاع العلمي والديني عبر التاريخ، خاصة في منطقتي المشرق وغرب أفريقيا، غير أن المدينة التاريخية تعرضت لعدة عوامل أدت فيما بعد إلى تناقص إشعاعها العلمي وأفول رخائها الاقتصادي والتجاري، إذ تعرضت لغزو من عدة جيوش، نهبوا المخطوطات وشردوا العلماء، وشهدت فتناً داخلية كبيرة وتوقفت تجارة القوافل بسبب ظهور وسائل مواصلات أكثر سرعة وأمناً.
الجوهرة المتلألئة
إنها وادان هي تلك الفاتنة المتربعة على عرش الجمال الحضاري، هي تلك الجوهرة المتلألئة على سطح هضبة أدرار الشامخة؛ وادان التي قاومت سطوة الاندثار وأبت إلا البقاء شامخة لتحكي للأجيال أسطورتها التي خلدتها سفر التاريخ ولهجت بها الألسن وطربت لسماعها الأذان وانتشت بصداها الروح فكل ما مررت تحث الخطى في شارع الأربعين عالم ستدب في ذاكرة اللاوعي الحياة وتعود بك في رحلة فانتازيا تعيش فيها بكل الحواس والجوارح مشهدا حضاريا ذا سحر ورونق يحاكي روعة المراحل التي مرت بها وادان منذ التأسيس حتى الآن. فالمدينة هي عبارة عن متحف مفتوح يجول فيه البصر بين شواهد النهضة الثقافية والتطور العمراني والتي كان عمادها الإنسان الواداني المكابد للمشاق الصابر على قسوة الطبيعة المنتج المبدع المبهر، ففي كل زاوية من أزقة تلك المدينة التي تأسست على مبدأ التكامل والتضامن في كل شيء ستقف إجلالا للواداني وكيف اجتهد وثابر وجمع بين العلم والعمل حتى صار أهل المدينة مضرب المثل في العبقرية.
مهرجان وعبق التاريخ
أسدل الستار قبل أسابيع فقط، على المهرجان العاشر لإحياء مدائن التراث الموريتانية المقاومة لعوامل الاندثار، وقد شهد المهرجان فعاليات ثقافية وفنية وندوات تاريخية ومعارض للتراث، عكست حرصا وطنيا على انتشال المدن الأثرية من الإهمال وإيلائها ما تستحقه من عناية بوصفها الشاهد على عراقة موريتانيا وأصالتها العربية والإسلامية.
وضمت معارض المهرجان أجنحة للكتب والمخطوطات والمصنوعات التقليدية الموريتانية بمختلف أنواعها ومنتوج التعاونيات الزراعية ومنتوجات النخيل.
ونظم المشرفون على تراث المدن القديمة الأربع وهي شنقيط، وودان، وتيشيت وولاته المصنفة تراثاً بشرياً من طرف منظمة يونيسكو، معارض خاصة بكل مدينة ضمن المهرجان.
وأظهرت المعارض بما ضمته من قطع تراثية أن هذه المدن شكلت عبر تاريخ موريتانيا مواقع تمازج بشري ومراكز تبادل تجاري ومنارات إشعاع علمي وفكري، كما تعاضدت جهود المشرفين على المدن الأربع في تنظيم قرية ثقافية جميلة زاخرة بالمنتوج الثقافي الوطني.
وأصبح مهرجان مدائن التراث مهرجانا ثقافيا تنمويا: فمن خلال شقه الثقافي الحضاري حافظ المهرجان في ثوبه الجديد على التراث وتثمينه؛ أما في الشق التنموي فقد هيأ ما يلزم لتشجيع السكان المحليين على الاستقرار والإنتاج من خلال مشاريع تنموية لها ارتباط أساسي بحياتهم الاقتصادية ومشاريع الخدمات الأساسية كالصحة، والتعليم والمرافق الثقافية والرياضية.
وقد كان حجم الاستثمار العمومي في هذا المهرجان بالغ الأهمية من خلال التحضير الجيد له وهو ما عكسته نوعية المشاريع التي تم إطلاقها والمبالغ المعتبرة التي تم ضخها لتنفيذها بشفافية ووفقا للمعايير الفنية والعلمية الصارمة ما سيكون له مردود وانعكاس إيجابي على تثبيت السكان المحللين في مدينتهم.
حماية المدن
تسعى المؤسسة الوطنية لحماية المدن القديمة التي هي مؤسسة عمومية ذات طابع إداري، إلى حماية وصيانة التراث المادي واللا مادي في أربع مدن من أقدم المدن الموريتانية هي: شنقيط، ووادان، وتيشيت، وولاته.
وبعيد تأسيسها سنة 1996 قامت المؤسسة بتسجيل هذه المدن الأربع على قائمة التراث العالمي لدى يونيسكو ضمن خطة ذات شقين أحدهما تراثي، والثاني استراتيجي اجتماعي؛ فعلى المستوى التراثي أنجزت المؤسسة بعض الدراسات المتعلقة بإعداد المخططات العمرانية والتراثية فى هذه المدن.
وتعمل المؤسسة الوطنية لحماية المدن القديمة، في الجانب الاجتماعي من نشاطها، على تثبيت سكان المدن القديمة فيها وتشجيع الذين هجروها على العودة إليها مجددا عبر تفعيل الأنشطة التنموية فيها ومن خلال نشاطات عدة بينها دعم الزراعة تحت الواحات.
وتركز المؤسسة كذلك على الجانب الثقافي لهذه المدن، من خلال العناية بالمخطوطات والحرف، والصناعات الجلدية والفخارية، وكذا عبر العادات الاجتماعية وأساليب الطبخ التقليدية، إضافة إلى التراث المادي الشامل لبناء المدن وطرق صيانتها وترميمها وحفظها.
عصرنة المدن القديمة
يشكل الموروث الفكري والمعماري الناتج عن تراكمات تاريخية طويلة والذي تتوفر عليه المدن الموريتانية القديمة الأربع المصنفة تراثا حضاريا بشريا، رصيدا وطنيا هاما بالإمكان توظيفه بعد تأهليه وتفعيله وبلورته ليصبح رافعة اقتصادية ناجعة وعامل إنماء اقتصادي وتطور اجتماعي وارتقاء فني وفكري من شأنه ليس فقط أن يحسن من الظروف الحياتية وأن يرفع من المستوى المعيشي لساكنتها، بل أن ينعكس إيجابا على دفع وتنمية القطاع السياحي الموريتاني بمختلف أنواعه وتجلياته، وصولا إلى ما يتيحه ذلك من مردودية معتبرة تستفيد منها البلاد برمتها.
مقاربة متبصرة
ويرى الباحث محمد الأمين الكتاب رئيس مجلس إدارة هيئة المدن القديمة «أن هذا العمل المتعدد الأبعاد، يتطلب اعتماد مقاربة عقلانية متبصرة، تقوم على التجديد والابتكار والمبادرة سعيا إلى إحداث التغيرات النوعية الضرورية المتمثلة في إعادة هيكلة الواقع القائم على مستوى المدن الأربع».
وأضاف «أن تصور وتحديد الطرق والإجراءات والحيثيات التي يمكن توسلها لتطوير مختلف أوجه الحياة بالمدن القديمة، والارتقاء بالمستوى المعيشي لساكنتها، وتحويلها إلى أدوات تقدم، وعوامل إنماء وطني ناجعة، يستوجب إحصاء كل المجالات التي يمكن تفعليها واستثمار إمكانياتها الكامنة».
وبهذا الصدد، يقول الكتاب، فإنه «من الضروري الدخول في نشاط مسنود يشمل التحديث والتطوير في مجالات وميادين منها الفنون المعمارية والزخرفية، المخطوطات والمكتبات، الصناعة التقليدية، وتنمية وتفعيل الفولكلور والثقافة الشعبية».
وقال «أجل لقد بات من الضروري ومن الملح، إذا أردنا ترقية مدننا القديمة، ومن ثم النهوض بقطاع السياحة، وتوسيع إسهام هذا القطاع في الإنماء الاقتصادي للبلاد، أن يصار دون إبطاء ولا تردد إلى اتخاذ الإجراءات وتعبئة الوسائل والخبرات من أجل تركيز العناية بالفنون المعمارية والزخرفية الخاصة بكل واحدة من المدن القديمة، وذلك من خلال دعم وتأطير ومواكبة المهتمين بهذه الفنون والممتهنين لها، كما يجب تجميع وترميم وإعادة تأهيل المخطوطات وصرف الاهتمام إلى تنظيم المكتبات المحلية وتحديثها ودعم ومؤازرة أصحابها والاهتمام بالكنوز البشرية المتواجدة في كل هذه المدن، وينضاف لهذا تنمية وعصرنة المدارس التقليدية المحلية ورفد التعليم المتوفر فيها بمناهج حديثة تتضمن الحساب ومبادئ العلوم الدقيقة والأعمال اليدوية والحرفية، وذلك لتأهيل تلامذتها لممارسة أنشطة مدرة للدخل ودمجهم في العملية الإنتاجية».
خلاصة القول، يضيف الكتاب، أن بذل الجهود الضرورية من أجل الاستثمار في هذه المجالات من خلال دعم الدولة وتوفير القروض الصغيرة بشروط ميسرة وانخراط الفاعلين الاقتصاديين، وإشراك سكان المدن القديمة أنفسهم بشكل مباشر في تدبير شؤونهم الحياتية، إضافة إلى فك العزلة عنهم، ومساعدتهم في إقامة صناعات محلية لمعالجة منتجاتهم، وصولا إلى خلق قيمة مضافة تعود عليهم بالنفع، وتسهيل تسويق تلك المنتجات محليا ووطنيا ودوليا، كل ذلك من شأنه أن يكفل لهذه المدن تقدما مطردا وارتقاء متزايدا على مختلف الصعد».
وقال «كما من شأن هذا المجهود أن يحول هذه المدن إلى عوامل نمو وازدهار للبلاد، بحيث تستعيد المكانة السامقة التي كانت تتسنمها أيام كانت مراكز تجارية عامرة ومنارات ثقافية متألقة يؤمها الناس من كل صوب وحدب سعيا إلى التسوق والتبضع وإلى التعلم والتضلع».