«مدام مجنونة»

قبل أيام ارتفعت موجة من موجات الحزن الكثيرة التي تمر علينا في الحياة، ثم انهمرت لتغمرني ضاربة قلبي بأسواطها اللاذعة. حين تنتابني موجة ألم، أهرع إلى ورشته الصغيرة التي تحتل قلب البيت، هذا المشروع الرائع الذي مركزناه في منتصف بيتنا كخطة ما بعد التقاعد فور أن قرر زوجي أن يقلب صفحة العمل، ويبدأ صفحة حياة جديدة. أراه اليوم أسعد بكثير، أريح نفساً وأهدأ بالاً وقد انتهى من الالتزام الزمني والبدني للعمل متجهاً قبْلَة عشقه القديم المتجدد: النجارة. كل يوم تتهادى أصوات القطع والطرق والنشر من وسط بيتنا حيث الورشة الصغيرة رائعة الجمال، المليئة بالأدوات الغريبة العجيبة، المتناثرة الأغراض بفوضى مرتبة، المغطاة أرضيتها دائماً بنشارة خفيفة محببة، لتسري الإزعاجات كالموسيقى الخلابة في أذني، ولتتسرب كوعد أمان ومحبة إلى روحي، أنْ«كل شيء كما هو، وأنا هنا في منتصف بيتنا دائماً»، فتستقر نفسي ويغمرني شعور عارم بالدفء والرضا.
ومنذ أن حوطنا غرفة الطعام بالحيطان لنخلق هذه الغرفة في منتصف البيت، تحولت هي إلى ملتقى العائلة ومستقر لحوارات أفرادها. من يريد أن يتناول قهوته ينزل«عند بابا في الورشة»، من يريد أن يحكي قصته يلتقي بالآخرين«عند بابا في الورشة»، من يريد أن يتناول غداءه سريعاً قبل المغادرة لإتمام مشاوير العصرية، يأخذ سندويتشته إلى«عند بابا في الورشة». أصبحت الورشة مستقرنا ومكان لقائنا، حيث يؤجل هو، فور هجومنا، مشاريعه نصف المكتملة حباً وكرامة ليفسح لنا المساحة، نعبث بأدواته، نتلهى بمشاهدة التلفاز المعلق الذي يعرض تواصلاً صور ذكرياتنا، نستمع للأغاني المنبعثة من كمبيوتره المتصل، بما يبدو لي أعجوبة تكنولوجية، بتلفازه، نحكي ونضحك وأحياناً نصنع مشاريع خشبية فاشلة نرميها«لبابا» ونغادر في دروبنا. هو العامل المشترك الذي يجمعنا، هو الأمان في منتصف بيتنا، عموده الذي لم يترك وقفته القوية الثابتة التي ترفع السقف فوق رؤوسنا في يوم.
آسفة، كلما حاولت أن أكمل قصتي، تأخذني قصة الورشة والحديث عنها. في ذلك اليوم، حين صخبت موجة الحزن، ركضت طبعاً إلى الورشة. حكيت له وبكيت. منذ زمن لم أبك، أنا لا أبكي كثيراً، والحقيقة أنني لا أحترم البكاء كثيراً، وتلك سقطة في طريقة تقييمي لردود الفعل البشرية أعترف بها. كانت دمعة أو اثنتان انتظر حتى جف ماؤها ثم قال:«لا تحزني، لا تحتاجي أحداً أبداً، أنا وأنت لآخر يوم في الحياة». ورغم أنه قال هذا المعنى سابقاً بكلمات مختلفة، ورغم أنني أستشعره كل يوم، من تصرفاته، من وجوده، مع صوت مطرقته ومنشاره، ومع روائح الأصباغ والأصماغ التي يستخدمها، إلا أن شيئاً ما علق من هذه الجملة لتمسك كلماتها بأطراف قلبي مهدئة روحي بشكل فوري. بقيت أتذكر هذه الجملة وأذكّر نفسي بها كل يوم، بكلماتها، بطريقته في إلقائها، بتعابير وجهه وحركة يده ونفثة دخانه وقت نطقها وكأنها جزء من مشهد سينمائي مؤثر لذيذ.
من يومها، كلما شدت الدنيا استحضرت المشهد الرقيق بكلماته:«أنا وأنت لآخر يوم في الحياة»، فيهدأ قلبي وأذكر نفسي بالرائع الثابت في حياتي رغم كل المتغيرات. ولأن لي طريقتي الخاصة في تعقيد أمري وإقلاق نفسي، خلقت هاجساً مع مرور الوقت، ومع طول التفكير في الجملة وعصابية استحضارها حول فكرة«آخر الحياة»، حول الفراق المحتوم الذي تفرضه هذه الحياة بكل سخفها وعدميتها ولا مبالاتها، حول حقيقة وقتية وجودي معه ووجوده معي، فحتى وعده، ولطالما آمنت أن لا شيء أقوى من وعوده، ستغلبه الدنيا بوجوديتها الباردة الحارقة. حين أخبرته بهواجسي التي خَلَقتْها جملته، ضحك عالياً ومطولاً:«لا شيء يريحك، وكل الكلام يأخذ بعداً آخر عندك، هلا توقفت عن هذا التحليل العصابي وأمسكت بيد المنشار؟» آخذ يد المنشار، وأقنع نفسي أن اللحظة كافية، ولكنها حقيقة غير كافية، فهو أكبر منها وهي أصغر من أن تستوعب وجوده.
لا شيء أكثر، ليس لدي -حقيقة- ما أقوله في هذا المقال. إنما حين تعب هو من تحليلي لتحليل التحليل، وبات يضحك على هواجسي وتفنيدي حتى لكلمات الطمأنينة ومعاني السلام، قررت أن أعتقه لبعض الوقت مستديرة نحو قرائي لأفضفض لهم. هذا ما أريد: أريده في مكانه، يدخن سيجارته، يشرب قهوته، يرتب عدته المعقدة الرائعة، يدق المسامير ويلصق قطع الخشب الدقيقة، يدندن لأبو بكر سالم، يضاحك صغيرته الغائبة عنه تلاحق مستقبلها الدراسي، يمازح صفية، مدبرة وربة المنزل،«مسراً» لها بصوت عال ليُسمِعُني:«مدام مجنونة»، ملمعاً سيارته الحمراء القديمة المولع هو بها والراقدة في«كراج» بيتنا الصغير. أريده كما هو بتفاصيله وروتين يومه ودشاديشه البيضاء المعلقة بانتظام في دولابه، وعطره الذي لا يضعه أبداً في مكانه خالقاً معركة يومية بيننا، لا أريد شيئاً أكثر أو شيئاً آخر، أريد أن تتركني الدنيا في حالي وتتركه لي إلى أن أغادرها أنا أولاً. وشكراً لقراءتكم وسعة صدركم، هذا كل شيء.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    أصبحتي أديبة يا دكتورة!
    ستكون لي ورشة يوم السبت لتغيير إطارات السيارات الموجودة عندي!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    في كل أول يوم بشهر نوفمبر قوم بتغيير إطارات السيارات من الإطار الصيفي إلى الإطار الشتوي!
    هناك نوع فيه مسامير هو الأفضل للجليد والثلوج, ونوع بدون مسامير!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول الكروي داود النرويج:

    أما ورشة النجارة عندي فهي تبدأ بالشهر الخامس (مايو) وتنتهي بالشهر الثامن (أغسطس)!
    ورشة النجارة عندكم للتسلية وكهواية, لكنها عندي ضرورة لإصلاح وترميم وصيانة وصبغ البيت الخشبي الكبير الذي أسكن فيه!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  4. يقول الكروي داود النرويج:

    ” ثم قال:«لا تحزني، لا تحتاجي أحداً أبداً، أنا وأنت لآخر يوم في الحياة». ” إهـ
    أنا أقول لزوجتي: أنا وأنتِ معاً في الحياة الدنيا والحياة الآخرة!
    حين يحج الزوج مع زوجته في الحياة الدنيا, فإنهما يدخلان الجنة معاً بإذن الله, لأن أحدهما يشفع للآخر!!
    هذا الإستنتاج مني لأن أحدهما سيسامح الآخر, كما كانا يسامحان بعضهما في الحياة الدنيا!!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  5. يقول أمير العواشر:

    ولكن بما أنك تؤمنين بحتمية المغادرة، اما سألت نفسك الى اين ستذهبين؟ وهل كل ما نعيشه عبثا وأننا سنصبح هباء، غبارا او حتى قطرات نفط كما قلت مرة؟ الحمد لله على نعمة الايمان ففيها السكينة والطمأنينه والاعتقاد بحتمية الالتقاء بين المتقين في الحياة السرمدية الاخرى. فما هذه الحياة الا كالمسافر المستظل في ظل شجرة. وخير زاد ياخذه في فترة الاستراحةتلك هو التقوى ليقوى بها على طول المسير بعد الرحيل الى الله رب العالمين. ستكتمل الحكاية بعدها للمتزودين بخير الزاد والمؤمنين بالعلي القدير في بيوت من قصب، لا ضجر فيها ولا خوف ولا موت ولا مرض ولا تعب. فيا ليت قومي يعلمون
    :(

  6. يقول قارئ متجول:

    موهبتك رهيبة في كتابة الرواية الكلاسيكية .

  7. يقول آدم:

    تعودين إلى طبيعتك الأنثوية وفطرتك البشرية، وتخالفين النسوية العربية والغربية، وأحاديث الذكورية والتراتبية، وتعيشيت تكامل المرأة والرجل كما شرعه رب العباد.
    أبقى الله لك زوجك وأبنائك ومديرة البيت، والحمد لله فاطر السموات والأ{ض.

  8. يقول غادة الشاويش _ عمان شقيقة القدس:

    صباح الخير د. ابتهال ويوم سعيد على وقع النجارة وأدواتها.. اسمعيني يا صديقتي الحقيقة أنني أكره الاقتناص المؤدلج للمشاعر الإنسانية العفوية البكر حين تندفع للبوح الحر على فطرتها … انا احب هذا … احب العفوية الحرة ..لكن !! الم تلمحي معنى الرجل ! اكانت الحياة سهلة طيبة لو قدناها نحن النساء وحدنا …!! لعلي لم أتزوج وانا اليوم في ال٤٦ .. ولعل كرهي الشديد للظلم يخيم وسيبقى يخيم على حياتي حتى آخر انفاسها… كان هذا في الحقيقة والله يشهد اقوى من حبي لأي رجل في العالم! لكن ربما بعد ضلال البنادق والوقوف على رأس جسد متعب بالطلقات والتحول من الطموحات التي هي جزء من تكويني المعنوي منذ كنت طفلة … اقصد الطموحات العسكرية الطابع … التي كان يصعب علي تخيل الحياة بلاها ولا زلت اعيش بالقصور الذاتي على وجودها بتشبث غير منطقي.. الا أنني لم اتخل يوما عن فكرة الرجل السقف ..يتبع لطفا

  9. يقول غادة الشاويش _ عمان شقيقة القدس:

    الرجل كان أبي وفي حياتك كان زوجك … رغم أنني قضيت نصف عمري تقريبا امرأة وحيدة في غربة تامة وأحياناكثيرة ملاحقة لدرجة انني لا لا اتاقلم مع حضور الناس في حياتي لكن كان هناك دائما رجل هذا الرجل هو أبي ومن ثم اخي لم يحاصرني أحد قيد أنملة لكن وجودهما وفر لي شروطا نوعية لاهدافي الجامحة…
    * اما العاطفة فمن المضحك أنني لم اقع بتاتا في الحب الا بعد الاربعين محققة نبوءتي انا امرأة لا تتزوج ولا تحب الا ان اغلقت الجبهة تماما في وجهها اما اليوم فيبدو الحب بالنسبة لي نكتة مكلفة واعز شيء علي صومعتي!
    غادة

  10. يقول غادة الشاويش _ عمان شقيقة القدس:

    اما العبثية والعدمية فلا اريد التنظير ! أعتقد أننا نلتقي في هذا الركن يا صديقتي منذ سنوات طويلة وكل منا قال ما في جعبة عقله وقلبه بقدر كاف … لكنني ورغم أن فلسفتي العقلية المحضة قادتني الى الإيمان بالآخرة والخلود لدرجة أنني أؤمن بهذا حتى لو لم اتلق دينا اوافق على كل مفرداته بالحذافير … الا أنني استغرب يا صديقتي من شيء ما عندما أقرأ لك ! مثلا كانت معركة الاعتناق في حياتي صعبة وعرة فلا انا شخصية تقليدية ولم اترب على التقليد بل على الحرية المطلقة في الاعتناق وتحمل مسؤولية المعتقدات بشكل كامل لعله روع عائلتي فيما بعد وفرض علي حياة الاكشن التي كانت رغم حزنها وطرقاتها الماطرة الموحشة الا من قرع نعلي لذيذة ! وقطعة من الصورة التي رسمتها للحياة .التي اريد …يتبع لطفا
    .

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية