ولّى دونالد ترامب إيلون ماسك وزارة أطلق عليها مسمّى الكفاءة الحكوميّة.
يتقاسمها ماسك، وهو المولود كآفريكانير (الأقلية البيضاء) في جنوب أفريقيا قبل أن يفد إلى كندا طالباً جامعياً وينال جنسيتها ثم تلك الأمريكية، مع فيفيك رامسوامي، رجل الأعمال المولود من مهاجرين هنديين من التاميل.
يمسك ماسك بشركة تسلا المتخصصة بتصنيع السيارات الكهربائية، وسبايس إكس التي أسسها كشركة تسهيل الملاحة الفضائية والتحضّر لاستعمار المريخ. مؤخراً، في يونيو الماضي منحت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا هذه الشركة عقداً بقيمة 843 مليون دولار لبناء مركبة ستكون مسؤولة عن تحريك محطة الفضاء الدولية خارج مدارها الحالي حول الأرض عندما ينتهي عمرها التشغيلي في السنوات القليلة المقبلة. لماسك أيضاً «الشركة المملة» (بورينغ كومباني) المتخصصة في مجال البنى التحتية وشقّ الأنفاق الفائقة السرعة. وشركة «نويرالينك» لتطوير تقنيات ربط الدماغ البشري بأجهزة الحاسوب ورأب الصدع بين الذكاءين، الإنسيّ ـ العصبي والإلكتروني ـ الشبكيّ. يضاف إلى هذه المملكة منصة التويتر التي بدّل ماسك اسمها بعد أن استحوذ عليها منذ عامين إلى منصة «إكس» لأجل أن تكون «منصة كل شيء» (سوبر تطبيق) محاكياً التطبيقات الصينية المتجاوزة لمدى «التواصل الاجتماعي» إلى سائر الخدمات المتعلقة بالحياة اليومية، من دفع إلكتروني وتسوق وحجوزات ومسح ضوئي للرموز وترفيه.
أما الشركة التي أسسها رمسوامي، وقد سبق له الترشح في تمهيديات الحزب الجمهوري ضد ترامب قبل أن ينسحب ويتحوّل إلى أحد أبرز مروّجي الترامبية، وهي «رويفانت ساينس» فتعنى بالابتكار في مجال تطوير الأدوية والتقنيات الطبية من خلال شبكة شركات صغيرة ترعاها وتنفرد كل منها بمجالات علاجية محددة.
يرتبط كل هذا التفاؤل المتعطّش للتكنولوجيا، أو التكنوفيلي، عند ماسك ورمسوامي، مع رغاب تجسيدي متواصل للخيال العلمي في عالم الواقع، مع إيمان بالطابع الديناميكي الأبدي للرأسمالية، مع تشكيكية حادة تجاه الطروحات المهمومة بحماية البيئة ومواجهة الاحتباس الحراري.
هذا على الرغم من أن شركة تسلا تعمل على التقليل من انبعاثات الكربون، يعبّران عن موقف ممتعض من طروح على غرار «الضرائب الكربونية». يضيق صدر كليهما من السياسات الصحية الحكومية، ماسك من موقع أن الابتكار التكنولوجي هو الأولى، ورمسوامي من موقع أكثر تعصبّاً لمبدأ تحرير السوق، وأن الصحة سلعة مثلها مثل سواها. يشترك الشخصان في مناهضة كل من اليسار المؤسسي، المهموم بالدفاع عن الإنفاق العام الاجتماعي والعدالة الضريبية، و«اليسار الووكي» كثير التحسّس لأشكال التمييز والتهميش الثقافية والجندرية. يشترك كلاهما مع كثيرين آخرين عبر العالم في اختزال كل القسمة بين يسار ويمين، إلى بلادة الأول ولا مسؤوليته، وإلى حركية الثاني وصدقه. يشتركان أيضاً في محاولة بث تصور يوتوبي عن الرأسمالية. بأنها وحدها الثورية. وبأن كل من يواجهها هو بحكم الثورة المضادة. المفارقة في المقابل أن اليسار إذ تحول مع الوقت للتخلي عن مفهوم التقدم، مسلّماً باختزالية كون هذا التقدم إما خطيّاً غائياً يكون أو لا يكون، قد ترك لأمثال ماسك ورمسوامي تمثيل «التقدّم» بشكله التكنوفيلي، الذي لا يفقه أي دور للناس في صنع هذا التقدّم إلا إما كمشاركين في الابتكار، أو كمشاركين في استهلاك الابتكار، أو كمبايعين للمبتكرين، وليوتوبيا تولية المبتكرين السلطة، وإقامة عصر الابتكاروقراطية.
شيء من تعيين ترامب لماسك ورمسوامي يتجاوز كلا من الغايتين المعنوية والإدارية. يوحي بنمط جديد من الاتحاد بين النخب في مركز النظام الرأسمالي العالمي
وقد يكون رمسوامي أكثر محافظة من ماسك في موضوع القيم التقليدية للمجتمع الأمريكي، هذا مع أن أصوله الهندية، والهندوسية-البراهمانية، لم تكن من جملة ما يساعده على خوض السباق الرئاسي.
هل يتعدى الهدف من تعيين ترامب لماسك ورمسوامي ضمن حكومته، بالمعنى الأمريكي لكلمة حكومة، أي جمع من كبار المستشارين يحيطون بالرئيس الإمبراطوري، ترصيع الإدارة الجديدة برجلي أعمال «كاريزماتيين في نطاقهما»؟ شخصان يرمزان إلى الرأسمال الكبير النشيط، المرتبط بالابتكار العلمي – التكنولوجي، وإلى اجتراح شكل جديد للحوكمة أكثر اعتماداً على مجالات الذكاء الاصطناعي، وأكثر ضبطاً للإنفاق الحكومي، هذا في وقت أن ماسك يرمز بحد ذاته، ولو على سبيل المبالغة، بشيء من الكاريكاتورية هنا، إلى شخص يوقع عقوداً مع وكالات حكومية لتمويل أعمال ستتولاها شركته بما يقارب المليار دولار، ويتبرع بأكثر من مئة مليون دولار لحملة ترامب – وهناك من يورد الرقم مضاعفاً، في الآونة نفسها، ثم يجعله الأخير مدماكاً في وزارته، لا بل تجد ماسك يباشر التحادث مع الإيرانيين، وليس الخوض في اهتماماته المشتهر بها حتى الآن؟
شيء من تعيين ترامب لماسك ورمسوامي يتجاوز كلا من الغايتين المعنوية والإدارية. يوحي بنمط جديد من الاتحاد بين النخب في مركز النظام الرأسمالي العالمي.
يمكن الاستدلال على ذلك بمقارنة التطور الحالي بنظرية البولياركي التي اقترحها عالم السياسة الأمريكي روبرت دال قبل أكثر من نصف قرن.
سعى دال إلى تقديم تصور غير مثالي للديمقراطية التمثيلية. فقال بأن الديمقراطية الواقعية المتاحة والقابلة للتطوير أكثر فأكثر لا يمكن أن تعني حكم الغالبية إلا في الشعار، وإنما المطلوب هو تكريس وصَون معايير أساسية منها التعددية التنافسية والمشاركة الواسعة والحريات الأساسية وحق الوصول إلى المعلومات ودور القضاء في فصل النزاعات سواء بين الأفراد أو بين المجموعات كالشركات أو الأحزاب.
لكن المعيار الأهم بالنسبة إلى دال فهو أن لا يتركز كل الاقتصاد والمال وكل السياسة وكل الثقافة في نخبة واحدة. فُيحافظ بالتالي على حيّز واضح من الاستقلال بين النخب.
وبناء عليه وصف روبرت دال الديمقراطية الوحيدة المتاحة والتي تستأهل النضال من أجلها بالبولياركي، أو «التعدد الحاكمي»: تعدد «مراكز القوى». في حالة ماسك ورمسوامي نحن في المقابل أمام جنوح إلى «التركّز الحوكمي». بحيث تكون النخبة هي نفسها في الاقتصاد والمال والأعمال والتجارة والثقافة والأفكار وفي السياسة. طبعاً نحن هنا أمام منحى، ولسنا أمام معطى شامل يذهب في هذا الاتجاه. إنما المنحى يقتبس من الفكرة من تعديل اسم تويتر إلى «إكس» كي يقترب أكثر من دلالة أن تكون منصة لكل شيء، وتنسجم أكثر مع طموحات ماسك التي تتعدى «فلك القمر» إلى استعمار المريخ. إكس هنا تعني في مقام واحد تجاوز حدود التواصل الاجتماعي إلى شبكة تسييرية واحدة لكل معاملات البشر، وتجاوز الحدود الأرضية للوجود، بل ربط قدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على صدارتها الأرضية لمرحلة طويلة بقدرتها على الخطو الواسع في اتجاه استعمار كل ما أوتي خارج كوكب الأرض. ننتقل اذاً من «البولياركي» إلى «الإكس – مالية». يتماشى ذلك مع تفاؤل آخر بإمكانية بلورة نظام مالي عالمي «تواشجي» بين الدور «العسكري» للخزانة الأمريكية، من خلال الدولار وبين وظائف وآفاق العملات الرقمية. السيطرة على الدولار كعملة احتياطية دولية أعطت الولايات المتحدة قدرة شبه مطلقة على تمويل إنفاقها العسكري والتحكم إلى حد كبير بمسار الاقتصادات العالمية، بصرف النظر عن تراجع حجم اقتصادها، واقتصاديات الغرب من مجموع الاقتصاد العالمي. كما وأن ارتباط الدولار بالنظام الاقتصادي العالمي يجعل كلفته تتحملها بقية الدول، لا الولايات المتحدة فقط. في المقابل انتقل ترامب من التحفظ على العملات المشفرة في ولايته الأولى إلى رفع لوائها في مرحلة يبدو فيها أن من مصلحة «الإكسمالية» هذه إدماج منظومة البيتكوين بها، من بعد بلورة النظام القانوني المناسب للتشريعات الأمريكية لها، وبشكل يصب في مجال تطوير التكنولوجيا المالية (الفاينتك) لمواجهة الصين في هذا المضمار بشكل أوثق. ويأتي ذلك أساسا كصدى لما عمدت اليه الصين نفسها من تطوير للعملة الرقمية لمصرفها المركزي، أو ما بات يعرف باليوان الرقمي.
يحدث كل هذا في عالم يمكن أن تسمع فيه في مجرى دقيقة واحدة خبراً عن طموحات ماسك استعمار الفضاء، وآخر يناقش نية إدارة ترامب بالمصادقة على ضم تتحضر له إسرائيل لأجزاء من الضفة. المسخ «الإكسمالي» أقل ما يُقال إن الشاجبين للرأسمالية لم يتعرفوا بعد بالشكل الكافي على خصائصه في عالم اليوم. ربما أيضاً لأن عددا من هذه الخصائص ما زالت تظهر بشكل احتمالي إرهاصي كمنحى.
كاتب من لبنان