يعتبر درس المؤرخ المعماري نزاد الصياد واحدا من الدروس المهمة في تاريخ العمارة والتغير الحضري خلال العقود الأخيرة. ولعل ما يميز هذه التجربة، أن صاحبها لم يحصر نفسه كما فعل بعض المؤرخين بدراسة تاريخ المدينة الإسلامية التقليدية، إنما كان دائما ما يفاجئ طلابه وقراءه باهتماماته ومداخله الجديدة في قراءة تاريخ المدن. فبعد سنوات من اهتمامه بتاريخ المدينة الإسلامية ما قبل الحديثة، وجدنا الصياد وهو يبدي اهتماما أوسع بتاريخ المدينة المعاصرة، وهو ما بدا من خلال كم كبير من الأبحاث والكتب التي حاولت تتبع واقع المدن القديمة مع الحداثة.
كان عددا من الباحثين قد اعتقدوا أن الحداثة، بقدر ما أنها أخذت تهدد المدن والأحياء القديمة، إلا أنها في المقابل أفسحت المجال أيضا لإعادة ترميم هذه المناطق، والحفاظ عليها. إلا أن فريقا آخر من الباحثين في التغير الحضري، ومن بينهم الصياد، وجدوا أن هذا الاهتمام الحداثوي بالمدن القديمة، هو أيضا اهتمام ليبرالي في بعض جوانبه، فهو لا يسعى لإحياء التراث بالضرورة والحفاظ عليه، بقدر ما أنه يحاول تطويع التراث لصالح أفكاره التسويقية. من هنا يغدو إحياء التراث مشروعا اقتصاديا، أكثر منه ثقافيا وتاريخيا. وبموازاة هذا النقد، ربما كان الصياد من المؤرخين الباحثين العرب القليلين في تخصصهم، ممن حاولوا تجاوز الأدوات القديمة، والتركيز أيضا على إعادة تخيل المدينة وتصويرها من خلال السينما. ولعل هذا الأمر بدا من خلال كتابين صدرا له مؤخرا، الأول بالعربية حول القاهرة السينمائية، الذي حاول فيه مع مجموعة من الباحثين الجادين دراسة المدينة كما تظهر في أفلام السينما. والطريف في هذه المقاربات أنها جاءت لا لتقول إن المدن السينمائية هي مدن غير واقعية، ولا يمكن اعتبارها نموذجا لدراسة واقع المدينة العربية المعاصرة، بل على العكس من ذلك، فإن معظم المشاركات كانت ترى أن أفلام السينما باتت تعتبر اليوم مدخلا مهما لقراءة واقع مدننا، ما يعني فسح المجال أمام الباحثين والقراء لتنويع مصادرهم ورؤيتهم لهذه المدن.
«مدن سينمائية»
أما الكتاب الثاني «مدن سينمائية»، فيمكن القول إنه الكتاب الأساس للصياد في موضوع المدينة والسينما، وهو كتاب تولدت فكرته في عام 1999، عندما قرر صاحبه ابتداع مادة جديدة في منهج تاريخ العمارة سماها «تاريخ المدن السينمائية». كانت فكرته بسيطة، وكان التحدي الأساسي الذي طرحه على طلابه في جامعة بيركلي الأمريكية مباشراً: «تخيلوا لو اختفت فجأة نيويورك الحقيقية أو لوس أنجلس الحقيقية، أو أنه لم يتبقَّ أي أثر منهما، وأن الشيء الوحيد الذي بين أيدينا هو الأفلام التي تصورهما أو تستخدمهما خلفية، أي نوعا من التاريخ».
يحاول هذا الكتاب، الذي ترجم مؤخرا للعربية، ترجمة هالة حسنين، دار العين، تقديم سرد تاريخي يتناول حداثة المدينة وما بعد حداثتها في القرن العشرين، من خلال ما تعكسه وتعبر عنه الفضاءات العمرانية التي نشاهدها في عالم السينما في هذا السياق. وبدلا من تقسيم المدن إلى فضاءات واقعية وأخرى سينمائية، حاول الصياد تطوير فكرة أن الفضاءات السينمائية لم تعد أساسا تمثل واقعا محددا، بل تحولت في واقع الأمر إلى أداة منتجة لفضاءات حقيقية.
يرى الصياد في الفصل الأول من الكتاب أن العلاقة بين المدينة والسينما، رغم عمرها الذي لم يتجاوز إلا قرناً من الزمان، قوية وراسخة، إذ إن الصور والأصوات التي تجسدها الأفلام تنقل إلى جمهورها وبشكل مباشر تجارب العيش في مدن بعيدة ربما قد لا يتسنى له يوما زيارتها. كما أن الأفلام تلتقط أيضا عقلية المجتمعات المختلفة؛ لتكشف لنا عن الكثير من حياتها. ورغم أن الملامح التي تربط بين المدينة «الواقعية» والمدينة «المصورة» قد تكون غير مباشرة ومعقدة، فإن كثيرا من المتخصصين ممن درسوا ثقافة المجتمعات، أدركوا أن هناك نقطة التقاء بين ما هو «واقع» يحدث في الحياة اليومية، والطريقة التي «نرسم بها صورة» هذه الحياة اليومية، حتى إن الفيلسوف الفرنسي جان بودريار، وهو من مُنظِّري القرن الماضي العشرين الرئيسيين في موضوع الصورة، يذكرنا بأن المجتمعات المعاصرة تتعرف على نفسها بشكل انعكاسي فقط، من خلال الصور المتدفقة التي تعكسها عيون الكاميرا.
يدور محور الفصل الثاني حول المدينة الصناعية الحديثة، تحديدا حول مدينتَيْ برلين ونيويورك، كما صورها فيلمَا «برلين: سيمفونية مدينة كبيرة» و»مودرن تايمز». يحاول كلا الفيلمين، إلى جانب محاولاتهما الأخرى، أن يتناولا بشكل جاد أساليب تنسيق الإنتاج الصناعي في المصانع التي انتهجت منهج تايلور (النظرية التيلورية)، وأنماط الاستهلاك التي أصبحت ممكنة بسبب أساليب التسويق التي تبنتها شركة فورد وأدت إلى تسريع الحياة بشكل دراماتيكي.
في المقابل قدم فيلم تشارلي تشابلن «مودرن تايمز» نقدا لاذعا لسلطة هذه الأنماط الإنتاجية. ففي ذلك الوقت كان تخصص العامل في أداء حركات معينة وتكرارها بطريقة ميكانيكية في إطار عملية الإنتاج، كما أشار فريدريك تايلور في أبحاثه عن إدارة عملية التصنيع. وسوف نجد هنا أن الفيلم يسخر بالتالي من أوضاع العمل في المصانع في المدينة. كان رأي تشابلن أن الكفاءة التايلورية تجرد العمال من إنسانيتهم بأن جعلت قيمتهم مقصورة على قدرتهم على أداء المهام الميكانيكية بأكبر سرعة ممكنة، ودون تفكير هذه الطريقة التيلورية لم تحدد فحسب العمل الذي يجب على العامل أن يقوم به، بل حددت على وجه الخصوص كيفية القيام بهذا العمل والمدة المحددة المسموح بها لإنجاز هذا العمل.
الحنين للريف:
احتدم الجدل في النصف الأول من القرن العشرين حول مزايا المدينة مقابل مزايا الريف، واعتقد كثيرون أن العلاج المثالي لمواجهة أهوال المدينة هو الانسحاب الجزئي إلى الريف أو الضواحي، مع انسحاب النساء من الأعمال التجارية والوظائف، إن مثل هذه الرؤى وفرت بالفعل الأساس اليوتوبي الفيكتوري.
وفي سياق هذا الازدراء للمدينة، كان لا مفر من أن تنبثق على الساحة صورة الحياة في البلدات الصغيرة. في الفصل الثالث، نرى فيلمي «سينما»(1989) و»إنها حياة» (1946) وهما يتحدثان عن الضغوط التي فرضها التغير الحضري على البلدات الصغيرة في فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي. يصور الفيلمان الحياة في بلدتين تقعان على جانبَي المحيط الأطلسي، إحداهما أوروبية والثانية أمريكية، ونرى البلدات الصغيرة وهي تتحول إلى مكان فاسد، يتمركز حول شارع رئيسي يضم ملاهي ليلية ومكاتب الرهونات وحانات للقمار هذا النمط من الأفلام الذي يمثل النموذج المثالي للحياة الأمريكية.
من جانب آخر نرى فيلم «متروبوليس» أول فيلم مستقبلي يتم تصويره داخل استوديو سينمائي. كما كان أيضا أحد أوائل الأفلام التي وثقت انقساما اجتماعيا بين أرستقراطية الرأسماليين المُلاك، وعمالهم الذين تم تجريدهم من إنسانيتهم. هنا، تظهر مدينة العمال كمدينة تعيش تحت سطح الأرض، حيث تهيمن عليها الآلات وأجهزة إدارة الوقت التايلورية، بينما النخبة المالكة تحتل فضاءً عمرانيا فوق سطح الأرض، تنيره الشمس، ويشكل خط الأفق فيه ناطحات سحاب شاهقة.
بطل الرواية في هذا التصور الديستوبي الكابوسي المجسد في الفيلم هو جزء من جهاز بيروقراطي يدير المدينة، ويعتمد بشكل أساسي على الخيال للهروب من الروتين اليومي الذي يعيشه الناس في المدينة في تلك الأثناء. ولأن المدينة الحداثية المثالية ذات الاقتصاد الفوردي (كما يوحي الفيلم) تتطلب (أو تؤدي إلى) سيطرة كاملة للدولة على السكان، تُذكِّرنا المدينة الديستوبية الكابوسية بشكل أو بآخر في هذا الفيلم من ناحية شكل الحيز المكاني، بمشاريع الإسكان الشعبي التي ظهرت في دول أوروبا الشرقية في الخمسينيات من القرن الماضي، عندما كان الوجود الحكومي سائدا في المجالات كافة وغير فعال ومترهلاً.
السينما وظهور الضواحي
يفحص القسم الأخير من الكتاب حداثة الطبقات الاجتماعية العرقية المختلفة، وكيف يتم التعبير عنها في الضواحي التي يقطنها الأثرياء، ويعتمد الصياد في ذلك على ثلاثة أفلام تدور أحداثها في نيويورك هي: فيلما «منهاتن» (1979)و»آني هول» (1977) للمخرج وودي آلن، وفيلم «سائق التاكسي» للمخرج مارتن سكورسيزي (1976) ـ لاستكشاف الحداثة من منظور الطبقات الاجتماعية المختلفة، ولفحص كيف يتم تخيل صورة المدينة وكيف تتم إعادة تفسير هذه الصورة عبر أفراد من خلفيات اجتماعية مختلفة. إذ كانت نيويورك تقوم دائما بدور المدينة المثالية، وأصبحت المدينة السينمائية بامتياز، لكن هذه الأفلام التي تتناول نيويورك تقدم المدينة بعيون مختلفة تماما. في فيلم «مانهاتن»، يتم تقديم المدينة باعتبارها حيزا استهلاكيا، حيث توجد الخدمات والصناعات الثقافية بهدف أساسي، وهو دعم أسلوب حياة حضري متطور يُستخدم أفق المدينة هنا كإطار مرجعي في الفيلم، وكثيرا ما يكون اختيار المكان الذي تصور منه الكاميرا مكانا يؤكد وجود مؤسسات ثقافية تدعم أسلوب حياة حضري متطور. أما في فيلم «سائق التاكسي»، فيتم تصوير المدينة من خلال كاميرا مهزوزة مثبتة على المصد الأمامي لتامسي، أي من خلال عيون سائقها، وهو أحد قدامى المحاربين الذين شاركوا في حرب فيتنام، ومعه تظهر المدينة مظلمة وقاسية وعنيفة. ويشير هذا التناقض بين الصورتين إلى أن الحداثة الجديدة خالية من المواجهات الطبقية، ومن ثم قامت كل طبقة اجتماعية بإنشاء مدينتها الخاصة داخل المدينة، حيث تحدث المواجهات، وهو ما يكشف أن المدن الجديدة باتت مدنا مقسمة ومتفككة، ولعل هذا ما نراه في مدن مثل القاهرة وإسطنبول وغيرها هذه الأيام.
كاتب سوري