تكشف أزمة المياه الحالية في مدينة الباب طريقة تعامل نظام الأسد مع المشاريع الممولة من الخارج، واستثماره لها في الضغط على المناطق الخارجة عن سيطرته.
للعام الثامن على التوالي تتصدر أزمة مياه الشرب المشهد في مدينة الباب بريف حلب الشمالي، حيث يعتمد سكان الباب والقرى والبلدات التابعة لها على مياه الآبار الجوفية التي استهلك معظمها بسبب الحفر الجائر لآبار المياه من جهة، ولارتفاع نسبة الحاجة للمياه بسبب الكثافة السكانية في المدينة وريفها من جهة أخرى.
الأزمة دفعت الحكومة السورية المؤقتة للتواصل مع الأمم المتحدة وعقد اجتماعات طارئة في مقر الحكومة في مدينة الراعي لإيجاد حلول سريعة للأزمة، وحسب بيان للحكومة المؤقتة فإن رئيس الحكومة عبد الرحمن مصطفى التقى برئيس المجلس المحلي لمدينة الباب ومدير المياه في المدينة وبعض الوجهاء، وتناول اللقاء أزمة المياه التي يعاني منها سكان المدينة واستعرض رئيس الحكومة مع الحضور حلولا مؤقتة وإسعافية لضخ المياه للسكان، كما أشار مصطفى إلى أن الحكومة المؤقتة على تواصل مع منظمة الأمم المتحدة «لحل أزمة مياه الشرب في مدينة الباب، واستجرار المياه لها» وخلص الاجتماع الطارئ إلى تشكيل لجنة مشتركة من مديرية شركة المياه في الحكومة المؤقتة ومديرية مياه مجلس الباب المحلي لـ «البدء بالعمل الفوري على اتخاذ الإجراءات السريعة لتغطية نقص المياه في المدينة» حسب ما ورد في بيان الحكومة.
وكان المجلس المحلي في مدينة الباب قد كشف في بيانٍ نشره على صفحته الرسمية في منصة التواصل الاجتماعي «فيسبوك» عن النقص الحاد في منسوب مياه الآبار الجوفية التي تغذي المدينة بمياه الشرب، داعياً السكان لترشيد استهلاك المياه، وجاء في البيان «بعد الكشف على محطات المياه في منطقة سوسيان، الراعي، صندي، شمال المدينة، نحيطكم علماً أن كمية المياه في آبار محطات ضخ المياه أصبحت منخفضة جداً عما كانت عليه سابقاً» وأوضح البيان نسبة الانخفاض في آبار المياه الرئيسية المغذية لمياه الشرب، وخروج بعضها عن الخدمة، حيث خرجت ثلاثة آبار عن الخدمة من أصل خمسة في محطة الراعي، وانخفض منسوب المياه فيها من 300 متر مكعب إلى 88 مترا مكعبا، كما خرج 11 بئرا من أصل 18 عن الخدمة في محطة سوسيان، وانخفض منسوب المياه من 250 مترا مكعبا، إلى 42، وتراجع ضخ محطة صندي إلى 300 متر مكعب بعد أن كانت المحطة تضخ 800 متر مكعب خلال 12 ساعة.
وختم المجلس بيانه بعد عرض نسب الانخفاض في منسوبات المياه، بقرار تقنين المياه لساعة تشغيل واحدة كل أسبوعين، وفق جدول مرفق مع البيان لضخ المياه لأحياء مدينة الباب.
ويقول بعض الأهالي الذين تواصلت معهم «القدس العربي» إن الأزمة الحالية في المياه مستمرة منذ أكثر من ثمان سنوات، في ظل عجز تام من الحكومة المؤقتة والمنظمات الإنسانية والفعاليات الشعبية عن توفير حلول جذرية للمشكلة، وعلى الرغم من توقيع حكومة النظام السوري على بروتوكول مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسيف» لإعادة تأهيل محطة «عين البيضا» والتي تقع تحت سيطرة قواته، والتي تغذي مدينة الباب بالمياه القادمة من محطة الخفسة على الضفة الغربية للفرات، إلا أن المشروع لم ينجز بعد، وحسب تقرير تفصيلي داخلي لمديرية خدمات البلدية في مدينة الباب وحصلت عليه «القدس العربي» يظهر جهوزية خزان المياه في المدينة والشبكة لاستقبال المياه من محطة عين البيضا، وجاء في التقرير بيان لأهم مشاريع المياه المنفذة من قبل منظمة إحسان للإغاثة والتنمية في المدينة ومنها «تجهيز خزان جبل عقيل بالكامل بعد أن كان خارج الخدمة، وهو الخزان الرئيسي الذي يغذي مدينة الباب بالمياه بعد استجرارها من محطة عين البيضا الواقعة تحت سيطرة النظام» كما كشف التقرير كمية المياه الشهرية الواردة من محطات الآبار المذكورة أعلاه لمدينة الباب تبلغ 108000 متر مكعب، كما أوضح تقرير مديرية الخدمات البلدية سلامة خط المياه الرئيسي والواصل لخزان الشيخ عقيل ضمن المناطق التي تسيطر عليها فصائل الجيش الوطني السوري المعارض.
الجدير بالذكر، أن محطة عين البيضا تبعد عن الباب 15 كم جنوبا، وتحتوي على خزان مياه تجميعي يتسع لألف متر مكعب مخصص لتغذية مدينة الباب. حيث يتفرع الخط من الخطوط الرئيسية الواصلة بين نهر الفرات وحلب والتي تضخ المياه من محطة الخفسة الواقعة في أقصى ريف حلب الشرقي.
إلى ذلك، لا يمكن الحديث عن أزمة المياه المزمنة في مدينة الباب بمعزل عن سياسات وممارسات نظام الأسد، ومساهمته بشكل واضح في تفاقم الوضع ووصوله لمراحل كارثية، فبعد سيطرة قوات النظام على منطقة الخفسة ومحطتها المائية الواقعة على الضفة الغربية للفرات في آذار (مارس) 2017 قطع المياه عن كافة المناطق القريبة الخارجة عن سيطرته، والتي تعتمد بشكل رئيسي على محطة الخفسة المائية في تلبية حاجاتها من المياه، والتي عادت للعمل بكامل طاقتها الإنتاجية نهاية عام 2019 بعد تأهيلها، وأعلنت حكومة نظام الأسد حينها عن عودة عمل محطة مياه الخفسة وتأمينها 100 ألف متر مكعب من المياه لمدينة حلب، مشيرة إلى أن المحطة قادرة على ضخ 325 ألف متر مكعب في المستقبل، ليتبين لاحقًا في آب (أغسطس) 2022 أن مشروع تأهيل محطة مياه الخفسة والمحطات الفرعية التابعة لها، بما فيها محطة عين البيضا المغذية لمدينة الباب من المياه تم تأهيلها من خلال مشروع نفذه ورعاه الاتحاد الأوروبي والصليب الأحمر الدولي، علمًا أن نظام الأسد لم يتطرق لذكر الجهات الممولة للمشروع في 2019 وعرض في إعلان إعادة تشغيل محطة الخفسة جهود الحكومة السورية فقط، وبالتحديد وزارة الموارد المائية وكلفة المشروع المقدرة بنحو 4 مليارات و100 مليون ليرة سورية، إلا أن زيارة البعثة الأوروبية للمحطة في صيف 2022 كشفت تمويل تأهيل المحطة من قبل الاتحاد الأوروبي والصليب الأحمر ضمن ما وصفته البعثة حينها بدعم مشاريع التعافي المبكر واستثمار القدرة على الصمود، ولتكشف أزمة المياه الحالية في مدينة الباب طريقة تعامل نظام الأسد مع المشاريع الممولة من الخارج، واستثماره لها في الضغط على المناطق الخارجة عن سيطرته.
تفاقم أزمة المياه في صيف هذا العام تنبئ بمستقبل إنساني كارثي في المنطقة، زادت حدته عن الأعوام السابقة بسبب الانخفاض الكبير في مناسيب المياه من جهة، وزيادة الكثافة السكانية من جهة أخرى، وعلى الرغم من المبادرات المحلية السابقة للتوعية ولفت الانتباه لمشكلة المياه في المدينة إلا أن الأزمة في تفاقم، فحملة «الباب عطشى» التي أطلقتها الفعاليات المدنية ونشطاء من الباب في صيف 2021 لم تسعف بالحلول.
وعلى هامش الخوف من العطش، فإن مياه الشرب لم تكن الوحيدة المقطوعة من مناطق سيطرة النظام، فقد توقفت محطات الري عن العمل وهو ما أثر سلبا على الزراعة في منطقة الباب والتي كانت تعتبر السلة الغذائية لمحافظة حلب والشمالي السوري حيث كانت تزود الملايين بالخضروات. كما تسبب توقف خط الري عن قرابة ستة آلاف هكتار بجفاف المنطقة وهو ما دفع المزارعين إلى اقتلاع الأشجار المثمرة ويُعتبر الرمان أشهرها من أجل الاعتماد على الزراعة الشتوية فقط والتوقف عن زراعة الخضروات الصيفية الأمر الذي انعكس في ارتفاع أسعار الخضروات والفواكه بشكل كبير. ويضاف عامل التغير المناخي ونقص الأمطار وعدم وجود سدود في المنطقة أو خطوط استجرار للمياه من نهر الفرات إلى جملة العوامل التي تؤدي للشعور بالهلع خلال الصيف المقبل، ويبقى مئات الآلاف في مدينة الباب وجوارها تحت رحمة التزام النظام بضخ مياه الشرب ومياه الري إلى المنطقة للحيلولة دون موتها عطشاً.