كان شاه إيران محمد رضا بهلوي (1919 ـ 1980) قد سار في خطوات جدية نحو تحديث إيران المعاصرة. وأخذت البلاد تشهد في ظله انتعاشا اقتصاديا كبيرا.
لكن مقابل هذا المشروع الإصلاحي، رفض الشاه أي اجراءات واسعة على صعيد الحريات السياسية في البلاد، وظل مقتنعا بأن بقاء نظامه يعتمد على سعر النفط أكثر من اعتماده على إرادة الإيرانيين. ومع انهيار فكرة تأسيس مجتمع سياسي في إيران، اندفع التجار والمثقفون إلى التحالف مع رجال الدين، وهو ما سيتبلور بشكل واضح مع قدوم الخميني وأعوانه وسيطرتهم على البلاد.
صباحك فل
بدا الخميني وهو يهبط من طائرته المقبلة من فرنسا، وكأنه رجل قادم من القرن الهجري الأول، وفق تعبير الصحافي المصري الراحل محمد حسنين هيكل. مرت أشهر على هروب الشاه، وأخذت الأجواء الإسلامية الجديدة تلقي ظلالها على تفاصيل صغيرة من حياة العائلة وباقي الإيرانيين. فتحت شعار الثورة الدينية، أخذ أفراد من الشرطة الدينية، أو ما عرف بـ»إخوان وأخوات زينب» يتجولون في الشوارع باحثين عمن يعارض قيمهم وتوجهاتهم الدينية.
ستروي لنا الصحافية الإيرانية كاميليا انتخابي فرد في مذكراتها «كاميليا.. سيرة إيرانية» تفاصيل صغيرة ومهمة عن حياة إيران بعد عام 1979. كانت كاميليا قد بلغت قرابة السبع أو ثماني سنوات، عندما وجدت لأول مرة عبارة «مرحبا بالخميني». أخذ أولاد عمها يداومون يوميا على أداء الصلاة في جامع الحي، خاصة أن إعلان الانتماء لما عرف بالثورة الإسلامية الإيرانية، أو القبول بها لم يكن مقبولا إلا في حال أصبح الشخص وجها مألوفا في جامع الحي، وأن يقدم تقارير يومية عن جيرانه. أخذت الشرطة الدينية تجول في شوارع طهران باحثة عمن يخالف قواعد الثورة وقيمها. وفي ظل هذه الظروف الدينية، بدأت أفكار المراقبة الدينية تنتقل إلى داخل المدارس نفسها. إذ جرى تكليف معلمات التربية بمراقبة الطالبات ومعاقبة كل من تخالف ذلك. أصبحت عيون بنات جمهورية الخميني الدينية تحيط بحياة الطالبات في كل زاوية في المدرسة، وحتى الحمامات لم تسلم من المراقبة. تذكر كاميليا الطفلة، أنه عندما فتحت المدارس أبوابها. لم يعد هناك أي أثر للصبيان، إذ قررت الحكومة الإسلامية الفصل بين الجنسين في المدارس.
في اليوم الأول راحت المدرسة تهتف عبر مكبر الصوت «يا طالبات على خطى الإمام .. مرحى لكن». ارتدت الطالبات حجاباً طويلاً يصل حتى المرفق، وكان عليهن أن يطوين إلى الأعلى أطراف الساقين لكي تقوم نائبة المديرة بالتفتيش. فاذا صادف إن كانت إحدى الطالبات ترتدي جورباً أبيض اللون أو بلون الكريم، تؤنبها بعنف وتنال العقوبة. كان على جوارب الطالبات أن تتناسب مع لون الزي القاتم، الذي هو دائما إما بني أو أزرق غامق. حتى اللون الأسود كان مستبعدا. كانوا يعلمون أن اللون الأسود أنيق وجذاب. ولهذا بدا ممنوعا ارتداء السواد حتى في الحداد.
محاربة الفرح
يذكر السوسيولوجي الإيراني آصف بيات، أنه خلال الفترة الممتدة من الثمانينيات وبداية التسعينيات حارب الإسلاميون الإيرانيون المرح في البلاد، فقد تم النظر إلى صور اللهو واللعب والضحك على أنها أمثلة لعدم الأخلاق وإضاعة الوقت والتسيب. ولعل هذا المشهد هو ما تطرقت له كاميليا بشكل تفصيلي في مذكراتها. فالكثير من وسائل الرفاهية التي باتت محرمة في ظل الحكومة الجديدة، كلعب الورق، والتسجيلات الموسيقية، وكل الكتب غير الدينية، وتسجيلات الفيديو. تذكر كاميليا أنهم أقاموا عدة حفلات عائلية في منزلهم، وكان والدها خلال هذه الاحتفالات يلقي نظرة إلى الشارع كل نصف ساعة ليتأكد من أن «أخوات وإخوة زينب» لا يستعدون لشن غارة على منزلهم. وكان يتوجب على النساء في الحفلة أن يبقين مغطيات الرؤوس، وعلى أهبة الاستعداد لارتداء المعاطف على الفور. وكان الأمر يغدو سيئا حقا إذا ألقي القبض على مجموعة متنوعة من الشبان، حينها يجلد الشبان، وترسل الفتيات إلى المشفى الحكومي للتثبت من عذريتهن. والفتيات اللواتي يرسبن في هذا الامتحان يجبرن على قبول خطبة الفتيان الذين يضبطن معهم. وكل من يتم القبض عليه يطرد من مدرسته أو جامعته..
الحجاب بالقوة
في منتصف عام 1981 أجبرت النساء الإيرانيات على ارتداء الحجاب، ووضع أصحاب الدكاكين لافتات على واجهات محلاتهم تقول «اننا نحتفظ بحق رفض خدمة النساء اللاتي لا يرتدين الحجاب». أخذت تظهر سيارات جيب أمنية تتجول في أرجاء طهران لرصد الحشمة العلنية، وسميت هذه المجموعات أولا «يسر الله» ثم تغير اسمها إلى «سلطة تقصي ومكافحة الرذيلة» ثم فرقة «مكافحة الرذيلة» ثم «المرشد». وبدا من الممكن أن تتسامح الشرطيات الدينيات مع ظهور طرف من الشعر، ويقمن أحيانا بتفتيش حقائب النساء المارات للبحث عن أشياء مثل تسجيلات موسيقية، أو صور لنجوم هوليوود أو لمغنيين إيرانيين منفيين. أصحبت كاميليا في نهاية التسعينيات واحدة من أشهر الصحافيات الإيرانيات، وقد كتبت في أحد الأيام تحقيقا صحافيا بعنوان «مدينة الدم والثورة» حاولت من خلاله تتبع قصة الزواج المؤقت في مدينة قم خلال المواسم الدينية. فالكثير من الحجاج الذين يزورون هذه المدينة، يرتبطون بفتيات لمدة ساعات تحت اسم الزواج المؤقت. وقد تبين لها لاحقاً أن هذا الزواج المؤقت لم يكن سوى عبارة عن غطاء لشبكات دعارة كبيرة في المدينة، فبدلاً من ممارسة الفتيات الدعارة بشكل رسمي، كنّ يلجأن إلى فكرة الزواج المؤقت بالشكل الذي يتيح للزبائن إشباع رغباتهم الجنسية، لكن بغطاء ديني.
وعلى أثر كتابتها لهذا التحقيق، ألقي القبض عليها بتهمة العمالة والتجسس لصالح إسرائيل، ولذلك تروي في باقي مذكراتها تفاصيل عن حياة السجن وما عاشته من ظروف قاسية.
ألقي القبض عليها من منزلها، وأودعت في سجن التوحيد، وهناك أخذ المحققون يكيلون لها تهم العمالة والتجسس، بالإضافة إلى تهم ممارسة الجنس مع سبعين رجلا! لمجرد عثورهم على أرقام هواتفهم في دفاترها. ومع استمرار عمليات التحقيق، قررت التظاهر بموافقتها على شروط الأجهزة الأمنية بالعمل جاسوسة لصالح إيران الإسلامية في المؤتمرات الصحافية، مقابل خروجها. تطلبت منها الشروط الجديدة اللقاء بأحد المحققين في الخارج، كي يعلمها بعض فنون الاستخبارات، وأخذت هذه اللقاءات تجري في أماكن مختلفة، مرة في عيادة طبيب، وأخرى في إحدى غرف المشافي، وهو ما يتطلب من المحقق (ابن الثورة) الاختلاء بها بمفرده، ولذلك ولتجاوز ما كان يراه خلوة غير شرعية، اقترح عليها الزواج منها على الورق فقط، كي تكون الأمور شرعية. ما سيحدث لاحقا، أن هذا الضابط الأخلاقي، بدأ يطلب منها وضع مساحيق تجميل من أجله، وأن ترتدي ملابس جذابة. وأصبحت بمثابة العشيقة المثالية، المجبرة على ممارسة الجنس معه. تمكنت كاميليا لاحقا من إقناع زوجها السري بضرورة سفرها لتغطية زيارة ابنة الخميني لأمريكا (زوجة أخ الرئيس محمد خاتمي). بقي العميل مرافقا لها حتى بوابات الطائرة، وهي بالمقابل تحاول إقناعه بأنها لا تستطيع العيش دونه. عندما أقلعت الطائرة، وأدركت كاميليا أنها قد تجاوزت حدود إيران، عندئذ نزعت غطاء رأسها الخميني، وأكملت رحلتها نحو عالم أكثر عدالة وحرية.
كاتب سوري