تعد مدينة سامراء العراقية واحدة من أقدم المدن المأهولة التي بقيت تمر بأدوار متتابعة من الازدهار والاضمحلال على مدى مئات السنين من تاريخ العراق. وهي اليوم مدينة عصرية، تمثل إداريا قضاءً تابعا لمحافظة صلاح الدين. مساحة المدينة حوالي4500 كم² ويسكنها حوالي 250 ألف نسمة وفيها أغلبية من العرب السنة، وتقع على نهر دجلة شمال العاصمة بغداد وتبعد عنها حوالي 125 كم. تحدها من الشمال مدينة تكريت، ومن الغرب الرمادي، ومن الشرق ديالى.
آثار شاخصة
ما تزال آثار الحقب التاريخية المختلفة من عمر المدينة شاخصة، وأبرزها الجامع الكبير ومئذنته الملوية، وبعض القصور العباسية وأبرزها قصر العاشق. كما تضم المدينة الحضرة العسكرية حيث ضريحي الإمامين علي الهادي (ع) والحسن العسكري (ع) المقدسين لدى الشيعة الإمامية. وقد ضمت منظمة اليونسكو مدينة سامراء عام 2007 إلى قائمة التراث العالمي.
اكتسبت المدينة أهمية استراتيجية منتصف القرن العشرين عندما تم بناء سد سامراء عام 1954 من أجل وضع حد للفيضانات المتكررة التي كانت تهدد بغداد، والتي أدت إلى تشكل بحيرة دائمية هي بحيرة الثرثار. وكمدينة عصرية أفتتح فيها عام 2012 جامعة ضمت الكليات المفتوحة التي كانت تتبع جامعة تكريت، وتضم جامعة سامراء حاليا الكليات التالية: كلية التربية، العلوم الإسلامية، العلوم التطبيقية، الآثار، الهندسة، كلية التربية البدنية وعلوم الرياضة. كما افتتحت فيها الدراسات العليا في أقسام علوم القرآن، اللغة العربية، التاريخ، الكيمياء.
وتضم المدينة اليوم عدة مواقع صناعية ترفدها بفرص العمل والموارد مثل مصنع أدوية سامراء، وهو أحد مصانع الأدوية الرائدة في منطقة الشرق الأوسط، ويتبع للشركة العامة لصناعة الأدوية والمستلزمات الطبية التي تم تأسيسها عام 1959 في العراق على خلفية معاهدة التعاون الاقتصادي والفني بين العراق والاتحاد السوفييتي. كما تضم محطات إنتاج الطاقة الكهربائية، وأهمها محطة سامراء الكهرومائية على سد سامراء ودخلت الخدمة عام 1972.
الاسم وتاريخ المدينة
يذكر الآثاريان العراقيان طه باقر وفؤاد سفر في كتابهما «المرشد إلى مواطن الآثار والحضارة» أن «المرجح كثيرا إن موضع سامراء مشتق من اسم مستوطنة قديمة عرفها الآشوريون والبابليون باسم سومورم Summurim أو باسم سورمارتا Su-ur-mar-ta وكانت موضعا مهما في العهد الفارسي، وقد التقى فيها الجيش الساساني بالجيش الروماني بعد مقتل الإمبراطور جوليان في عام 363 م وتراجع الجيش الروماني. وسجل أخبار هذه المعركة المؤرخ اميانوس مرسيلينوس الذي رافق الحملة وذكر هذا الموضع باسم سوميره، وقد عبر الجيش الروماني عند تراجعه نهر دجلة في مكان ورد اسمه بصيغة دورا، وهو موضع مدينة الدور الآن. ولعل التلّين الترابيين في منطقة سامراء واسمهما تل العليج، وتل البنات هما في الأصل قبران مهمان لقائدين رومانيين قتلا في تلك المعركة».
عاصمة العباسيين
إن قصة إنشاء سامراء العباسية بالسرعة التي اقيمت فيها ثم هجرانها على حين غرة من الأمور التاريخية التي تستوقف النظر، إذ يذكر مقال بعنوان «قصة سامراء» نشر في دورية دائرة الآثار العراقية جاء فيه: قصة مدينة سامراء من أغرب وامتع قصص المدن في التاريخ، قطعة أرض قفراء، على ضفة مرتفعة من نهر دجلة، لا عمارة فيها ولا أنيس بها إلا دير للنصارى، تتحول في لمح البصر إلى مدينة كبيرة، لتكون عاصمة لدولة من أعظم الدول التي عرفها التاريخ، في دور من ألمع أدوار سؤددها. تنمو هذه المدينة وتزدهر بسرعة هائلة، لم ير التاريخ مثلها في جميع القرون السالفة، ولم يذكر ما يماثلها، إلا في القرن الأخير ـ في بعض المدن التي نشأت تحت ظروف خاصة ـ في بعض الأقسام من العالم الجديد. غير إن هذا الازدهار العجيب لم يستمر مدة طويلة، لأن المدينة تفقد صفة العاصمة التي كانت علة وجودها وعامل كيانها قبل أن يمضي نصف قرن على نشأتها، فتأخذ في الاقفرار والاندراس بسرعة هائلة لا تضاهيها سرعة. وبعد أن كان الناس يسمونها «سر من رأى» أضحوا يسمونها «ساء من رأى» وبعد أن كان الشعراء يتسابقون في مدح قصورها، أخذوا يسترسلون في رثاء أطلالها، وفي الواقع ماتت سامراء ميتة فجائية بعد عمر قصير لم يبلغ نصف القرن، وأمست رموساً وأطلالها هائلة تمتد اليوم أمام أنظار الزائر، وتتوالى تحت أقدام المسافر إلى أبعاد شاسعة لا يقل امتدادها عن الخمسة وثلاثين من الكيلو مترات. وعندما يتجول المرء بين هذه الاطلال المترامية الأطراف ويتأمل في السرعة العظيمة التي امتاز بها تأسيس مدينة سامراء وتوسعها من جهة واقفرارها من جهة أخرى، لا يتمالك نفسه من التساؤل عن العوامل التي سيطرت على مقدرات هذه المدينة العظيمة وصيرت قصة حياتها بهذا الشكل الغريب. وقد أقام ثمانية خلفاء عباسيين في سامراء هم المعتصم، والواثق، والمتوكل، والمنتصر، والمستعين، والمعتز، والمهتدي، والمعتمد الذي هجرها في عام 256ھ / 889 م، وعاد إلى بغداد فعم سامراء الخراب وأصبحت قرية صغيرة. وقد أنفق هؤلاء الخلفاء الذين كان أكثرهم شبه أسری بید قوادهم وجنودهم الترك الأموال الطائلة التي يكاد لا يصدقها العقل على بناء القصور وميادين اللعب والصيد.
ويذكر اليعقوبي في تاريخ البلدان سبب هجر المعتصم للعاصمة بغداد وقصة اختيار وبناء العاصمة الجديدة سامراء، فيذكر أن الأسباب التي حملت الخليفة على نقل مقر العاصمة من بغداد إلى سامراء هو أن وجود الجنود الأتراك في بغداد قد خلق مشاكل هناك: «فكان أولئك الأتراك العجم إذا ركبوا الدواب ركضوا فيصدمون الناس يمينا وشمالا، فيثب عليهم الغوغاء فيقتلون بعضاً ويضربون بعضا وتذهب دماؤهم هدراً لا يعدون على من فعل ذلك، فنقل ذلك إلى المعتصم وعزم على الخروج من بغداد فخرج. حتى صار إلى موضع سر من رأى وهي صحراء من أرض الطيرهان، لا عمارة فيها ولا أنيس فيها إلا دير للنصارى، فوقف بالدير وكلم من فيه من الرهبان، وقال ما اسم هذا الموضع؟ فقال له بعض الرهبان: نجد في كتبنا المتقدمة أن هذا الموضع يسمى سر من رأى وأنه كان مدينة سام بن نوح وانه سيعمر بعد الدهور على يد ملك جليل مظفر. فقال أنا والله أبنيها وأنزلها، وقد عوض هؤلاء الرهبان عن أراضي الدير أربعة آلاف دينار».
ويظهر أن المعتصم بنى في مكان هذا الدير القصر الذي عرف فيما بعد بـ «دار العامة» أو دار الخليفة. كما بنى في مقر عاصمته الجديدة قصوراً وبيوتا ومساجد وأسواقاً ودواوين جلب معظم أحجارها وزخارفها من خارج العراق، وقد شيد فيها ثكنات لسكن 250 ألف جندي واصطبلات واسعة لاستيعاب 160 ألف حصان، كما قطع القطائع إلى القواد الذين بنوا لهم قصوراً فخمة، وأنشأ بساتين غناء غرست فيها أشجار مختلفة مثمرة من عدة فواكه. وقد توسعت المدينة على يد أخلاف المعتصم وعلى الأخص منهم المتوكل الذي دام حكمه مدة خمسة عشر عاما.
التنقيبات الآثارية في المدينة
لقد قام عالم الآثار الألماني ارنست هيرتسفيلد المختص بآثار الشرق الأدنى بالتنقيب في سامراء من عام 1910 إلى 1914 ووضع في ذلك كتاب مهم في ستة مجلدات، الخمسة الأولى منها في وصف التنقيبات وتتائجها، والسادس في تاريخ المدينة علـى ضوء نتائج التنقيبات. وتولت مديرية الآثار العامة عمليات الحفر والتنقيب في أماكن مختلفة من خرائب المدينة منذ عام 1936 إلى عام 1940 وكشفت عن مجموعة نفيسة من الآثار وهي الآن في المتحف العراقي في بغداد.
هناك حقبة موغلة في القدم في تاريخ مدينة سامراء، إذ أخبرتنا التحريات الأثرية أن في موضع سامراء كانت هناك قرى ومستوطنات أثرية يرجع بعضها إلى أدوار ما قبل التاريخ من الألف الخامس قبل الميلاد. إذ وجد دور حضاري من عصور ما قبل التاريخ عرف باسم سامراء، يمتاز بصناعة الفخار الذي وجدت نماذج منه في عمليات الحفر التي أجراها هيرتسفيلد في مقبرة من هذا العهد تقع بين بقايا القصر العباسي بيت الخليفة، والسن الصخري الذي بنيت عليه المدينة العباسية. وعثرت مديرية الآثار لاحقا على موضعين من هذه الحضارة أحدهما شمال المقبرة المارة الذكر، والآخر إلى الجنوب على ضفة دجلة في موضع يسمى تل الصوان. وقد عرف العصر الذي تعود إليه مقبرة سامراء بـ «عصر حلف» (5000ـ 4000 سنة ق. م) وهو العصر الذي يلي العصر الحجري الحديث والذي تمتاز آثاره بزخرفة الأواني المفخورة وبرقي أشكالها وتعدد ألوانها.
حضرة الإمامين العسكريين
كان الإمام العاشر لدى الشيعة علي الهادي (ع) يسكن سامراء أيام المعتصم بالله، فلما توفي سنة 254هـ دفن في بيته في سامراء، ولما توفي ولده الإمام الحادي عشر، الحسن العسكري (ع) سنة 290ھ دفن إلى جوار والده. وإلى جانب هذين الضريحين يوجد سرداب يعتقد الشيعة الإمامية أن الإمام الثاني عشر، وهو الإمام المهدي المعروف بصاحب الزمان قد غاب فيه، لذلك يعرف هذا السرداب باسم سرداب غيبة المهدي وفيه باب خشبي جميل يعود إلى عهد الخليفة العباسي الناصر لدين الله 1206 م.
ولمدينة سامراء منزلة دينية جليلة لأنها تحتضن ضريحي الإمامين علي الهادي (ع) وولده الحسن العسكري (ع) في حضرة عظيمة وسط صحن كبير سوّره وطلى قبته بالذهب السلطان القاجاري ناصر الدين شاه في عام 1868 م كما كان مدونا على أركان القبة القديمة التي فجرها الإرهابيون. إذ تعرض هذا المكان المقدس إلى تفجير إرهابي مدمر في شباط/فبراير 2006 نفذه تنظيم «القاعدة» الإرهابي، وكان هذا التفجير الفتيل الذي أشعل الحرب الطائفية في العراق. لكن تأبى مدينة سامراء إلا أن تكون عصية على هجمات الإرهابيين من تنظيم الدولة «داعش» فهي الوحيدة من مدن محافظة صلاح الدين التي لم يستطع التنظيم الإرهابي دخولها عام 2014. واليوم سامراء تنهض مثل طائر الفينيق من رماد الخراب لتحلق في دورة نهوض جديدة.