مدينة سبيطلة الأثرية التونسية ملتقى الحضارات وتعاقب المعابد والديانات

روعة قاسم
حجم الخط
0

تونس ـ «القدس العربي»: تعتبر سبيطلة من أهم المدن الأثرية التاريخية في تونس بالنظر إلى ثراء معالمها وتعددها وهو ما جعلها مرجعا هاما للباحثين في تاريخ تونس لمرحلة ما قبل ميلاد المسيح وما بعدها وصولا إلى عهود الإسلام وحتى عصرنا الحديث. فوجود الإنسان في سبيطلة قديم قدم الحضارة القبصية التي نشأت في مدينة قفصة التونسية القريبة من سبيطلة وذلك في العصور الحجرية، والتي يعتبر كثير من المؤرخين أن الحضارة القرطاجية والنوميدية هما امتداد لها وإن أثرت فيهما الهجرات الكنعانية الفينيقية من المشرق.

وتقع سبيطلة بالوسط الغربي لتونس غير بعيد عن مدينة القيروان، حاضرة الإسلام الأولى في المغرب الإسلامي وعاصمته التي كانت مقر والي بلاد المغرب في العصرين الأموي والعباسي ثم أصبحت عاصمة الأغالبة، وعاصمة مرحلة من عمر الدولة الفاطمية، وعاصمة الدولة الزيرية الصنهاجية. وتبعد سبيطلة أو سُفيْطلة عن مركز ولاية القصرين التابعة لها قرابة 30 كيلومترا، وعن تونس عاصمة البلاد 260 كيلومترا باتجاه الجنوب وباتجاه الداخل وبعيدا عن ساحل البحر.

إشعاع تاريخي

وقد استفادت سبيطلة من إشعاع حضارة القيروان الإسلامية مثلما استفادت من إشعاع الحضارة القبصية في قفصة المجاورة منذ عصور ما قبل الميلاد وهو ما جعلها حاضرة مهمة في زمن قرطاج وفي عهد النوميديين وبعد الغزو الروماني، لترتقي إلى عاصمة لتونس، أو ولاية أفريقية أو أفريكا كما كانت تسمى في ذلك العهد، وذلك عوضا عن مدينة قرطاج خلال السنوات الأخيرة للحكم البيزنطي قبيل الفتح الإسلامي لتونس الحالية. وبالتالي فإن موقع سبيطلة خلال مختلف الحقب، بالقرب من مراكز هامة للحضارة التونسية جعلها تتطور وتنمو وتزدهر وتلعب أدوارا تاريخية هامة خلدتها المدينة الأثرية التي يمكن للباحث في التاريخ أن يلحظ تأثيرات مختلف الحضارات التي تعاقبت هذه المدينة.
لقد كانت سبيطلة مركز الولاية التي تقع بين ولايات القيروان وسليانة والكاف وقفصة وتضم مدنا عديدة منها القصرين وتالة وفريانة وماجل بلعباس وفوسانة وسبيبة وغيرها. لكن بعد الاستقلال تم تحويل مركز الولاية إلى مدينة القصرين فأصبحت سبيطلة، ورغم تاريخها الحافل، معتمدية تابعة لولاية القصرين حسب التقسيم الإداري التونسي الذي ظهر بعد الاستقلال والذي قسم تونس إلى ولايات على رأس كل منها وال. كما قسم نظام تونس الجمهورية كل ولاية إلى عدة معتمديات، ونصب على رأس كل معتمدية معتمدا، وقسم المعتمديات إلى عدة عمادات على رأس كل منها عمدة، وبالتالي فقد عوض الوالي والمعتمد والعمدة في النظام الإداري الجديد، كلا من القايد والخليفة وشيخ التراب وهي المناصب التي كانت سائدة في العهد الملكي.
وبالتالي فإن سبيطلة هي أكبر معتمديات ولاية القصرين من حيث عدد السكان وتضم 14 عمادة هي عمادة سبيطلة المدينة وعمادة حي السرور وعمادة سمامة وعمادة الرخمات وعمادة القنة. كما تضم عمادة الدولاب وعمادة الشرايع وعمادة مشرق الشمس وعمادة الوساعية وعمادة الخضراء وعمادة الآثار وعمادة القرعة الحمراء وعمادة المزارة وعمادة القصر.
ويرى البعض أن سبيطلة هي مدينة قرطاجية وأن أصل تسميتها هو شفيطلة المشتق من اسم الشفط أو السبط أي القاضي أو الحاكم باللغة القرطاجية ذات الأصول الكنعانية، وبالتالي فإن شفيطلة أو سبيطلة هي مدينة القضاة أو الحكام. وبالتالي فإن ما ذهب إليه البعض من أن الحاكم البيزنطي جرجير سماها على إسم ابنته سفيطلة لا أساس له من الصحة والعكس هو الصحيح وهو أن جرجير أحب المدينة فاتخذ منها عاصمة وأطلق إسمها على ابنته تقربا من أهلها ليتم قبوله فيها قبولا حسنا.
لقد ذكر الإدريسي مدينة سبيطلة في كتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» بقوله: «وإذ قد انتهى بنا القول في ذكر بلاد أفريقية (تونس بمساحة أكبر) فلنرجع الآن إلى ذكر بلاد نفزاوة. فنقول أن مدينة سبيطلة كانت مدينة جرجير ملك الروم الأفارقة وكانت من أحسن البلاد منظراً وأكبرها قطراً وأكثرها مياهاً وأعدلها هواء وأطيبها ثرى. وكانت بها بساتين وجنات وافتتحها المسلمون في صدر الإسلام وقتلوا بها ملكها العظيم المسمى جرجيس، ومنها إلى مدينة قفصة مرحلة وبعض، ومنها أيضاً إلى القيروان سبعون ميلاً».
لقد مرت بها أغلب الحضارات التي عرفتها تونس سواء القبصية أو القرطاجية أو النوميدية، إلا أن صيتها ذاع أكثر خلال حقبة الاحتلال الروماني لشمال أفريقيا باعتبار حاجة الغزاة الجدد في ذلك الزمن لتأمين موطئ قدم لهم بعد ثورة تاكفاريناس. فلم يجد حكام روما أفضل من مدينة سبيطلة لدعم سيطرتهم على المناطق الداخلية حيث قاموا بتوسعة المدينة لاستقطاب الموالين لهم من السكان المحليين على وجه الخصوص في وقت أصبحت فيه مدينة قرطاج عاصمة جمهورية قرطاج التي أنهى وجودها الرومان بعد قرابة الألف عام من التأسيس والتأثير الحضاري في المنطقة، عاصمة مقاطعة أفريكا الرومانية التي تضم تونس الحالية وشرق الجزائر والغرب الليبي.
كما أن الحقبة البيزنطية تعتبر هامة في تاريخ سبيطلة حيث تحول مركز حكم والي أفريكا البيزنطية التابعة للقسطنطينية (إسطنبول الحالية) من مدينة قرطاج إلى مدينة سبيطلة وذلك في عهد الحاكم جرجير الذي أدركه الفتح الإسلامي للبلاد التونسية. وقد ازدهرت المدينة كثيرا خلال تلك الحقبة باعتبارها مركز الحكم في الولاية ومستقر الوالي الذي يتم تعيينه مباشرة من القسطنطينية (إسطنبول الحالية) ليحكم مقاطعة تضم تونس الحالية وشرق الجزائر والغرب الليبي.
لقد كانت سبيطلة خلال الفترة البيزنطية في البداية عاصمة ثانية لأكسيزخية قرطاج المسيحية البيزنطية التي تشمل كامل شمال أفريقيا وصقلية وجنوب أسبانيا وكورسيكا والبليار وسردينيا، وذلك بعد مدينة قرطاج التي كانت عاصمة هذه المقاطعة في البداية. وقد انطلق هرقل عظيم الروم الذي كان حاكم غرب المتوسط البيزنطي، وهو محلي من أصول بونيقية قرطاجية من جهة الأب وأرميني من جهة الأم، بجيش كبير من قرطاج وسبيطلة نحو القسطنطينية للقضاء على التمرد الفارسي الساساني و حرر المدينة من الفرس ونصب نفسه أمبراطور الدولة البيزنطية بعد عزله للأمبراطور البيزنطي السابق فاقوس.

العبادلة السبعة

لقد ضم سبيطلة إلى الدولة الإسلامية الناشئة الصحابي عبد الله بن أبي سرح وذلك في غزوة شارك فيها سبعة قادة مسلمين من الصحابة يسمى كل منهم عبد الله فأطلق على تلك الغزوة الهامة في تاريخ تونس الإسلامي حملة العبادلة السبعة. وشهدت تلك الغزوة الشهيرة قيام الصحابي عبد الله بن الزبير بقتل الحاكم البيزنطي لتونس الحالية وما جاورها جرجير ومهدت تلك الغزوة لتأسيس مدينة القيروان لاحقا على يد القائد الإسلامي عقبة بن نافع.
والحقيقة أن الفتح الإسلامي لتونس بدأ في زمن خلافة عثمان بن عفان من خلال حملة العبادلة السبعة المشار إليها والتي سبقتها توغلات استطلاعية لجيوش المسلمين داخل التراب التونسي الحالي. وضمت هذه الحملة سبعة من صحابة رسول الله وهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعبد الله بن الزبير بن العوام، وعبد الله بن العباس بن عبد المطلب، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص.
والحقيقة أن الرغبة في فتح أفريقية (تونس) كانت سابقة لحملة العبادلة السبعة، حيث كانت هناك رغبة من بعض الصحابة في أن يتم فتح أفريقية (تونس) في زمن خلافة عمر الخطاب، لكن الخليفة الثاني أراد إرجاء ذلك إلى وقت لاحق. وبالتالي بدأ الفتح فعليا في عهد الخليفة الثالث عثمان عفان من خلال الإطاحة بحكم البيزنطيين في سبيطلة أو سفيطلة في الغزوة المشار إليها، ثم توقف الفتح مع اندلاع الفتنة الكبرى التي شهدتها الدولة الإسلامية في زمن خلافة علي بن أبي طالب. ولم يُستكمل فتح أفريقية (تونس) إلا في عهد الدولة الأموية حيث أسس عقبة بن نافع في مرحلة أولى مدينة القيروان التي ستتحول إلى عاصمة لبلاد المغرب الإسلامي، ثم استكمل حسان بن النعمان لاحقا الفتح بالإستيلاء على مدينة قرطاج ونقل مركز الثقل في شمال البلاد منها إلى مدينة تونس التي سيبدأ إشعاعها التدريجي منذ ذلك التاريخ.
ذكر الحميري غزوة العبادلة السبعة في كتابه «الروض المعطار في خبر الأقطار» بالقول: «وكان عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما بعثه عثمان إلى أفريقية (تونس) غازياً لقي جرجير صاحب سبيطلة، وقاتله فقتله عبد الله بن الزبير وشن الغارات على سبيطلة. وأصاب الروم رعب شديد، ولجأوا إلى الحصون والقلاع، فاجتمع أكثر الروم بقصر الأجم (الجم) فطلبوا من عبد الله بن أبي سرح أن يأخذ منهم ثلاثمائة قنطار من ذهب على أن يكف عنهم ويخرج من بلادهم، فقبل ذلك منهم وقبض المال، وكان في شرطه أن ما أصاب المسلمون قبل الصلح فهو لهم وما أصابوه بعد الصلح ردوه لهم».
لقد خضعت سبيطلة إلى مختلف الدول الإسلامية التي تعاقبت على تونس والتي اتخذت سواء من مدن القيروان والمهدية وتونس عواصم لها، أي الأغالبة والفاطميين والزيريين والحفصيين والمراديين والحسينيين. كما خضعت في فترات إلى عواصم من خارج تونس أي خلال فترة الأمويين والعباسيين والموحدين والعثمانيين.
كما شهدت المدينة وكذلك محيطها معارك ضارية خلال الحرب العالمية الثانية بين الجيش الأمريكي الذي حل بتونس عبر الجزائر بعد إنزال بالمغرب بقيادة الجنرال لويد فردندال، وبين الجيش الألماني الزاحف من ليبيا بقيادة الجنرال رومل. وقد خلفت هذه المعارك الضارية دمارا هائلا في المنطقة وخسائر في الأرواح والممتلكات تسبب فيها من جاؤوا للإقتتال في تونس دون الإذن من أهلها ومن سلطاتها الرسمية وبمنطق شريعة الغاب.

أنشطة متنوعة

يضم الموقع الأثري بسبيطلة العديد من الآثار ويُعتبر قوس دقلديانوس المعلم الأثري المميز للمدينة وهو قوس النصر، ويوجد كذلك قوس أنطونيوس بيوس والحمّامات العمومية. كما يضم الموقع عددا من الكنائس القديمة على غرار كنيسة بيلاتور وكنيسة فيتاليس وكنيسة جيكوندوس وكنيسة سرفوس وكنيسة القديس جيرفاس، وكنيسة بروتاز وتريفون. كما يضم الموقع الأثري بسبيطلة معابد تعود إلى حقبة ما قبل المسيحية على غرار معابد الكابيتول.
وتوجد في سبيطلة أنشطة اقتصادية وثقافية عديدة، ففيها مصنع للورق يعد المصدر الأول لهذا المنتوج في تونس. كما أن سبيطلة هي إحدى أكبر الجهات المنتجة للنفط، ويوجد فيها حقل الدولاب النفطي. وتنتشر في سبيطلة أيضا الصناعات التقليدية التي ترتكز على الصوف مثل صناعة الزربية والبطانية والبرنوس.
وتعتبر سبيطلة من أشهر المدن الأثرية في تونس وساهم موقعها الأثري بالإضافة إلى مهرجانيها الدولييْن السنوييْن ومركبها السياحي الكابيتول في تنشيط الحركة السياحية وإستقطاب أعداد متزايدة من الزائرين الأجانب. ويتم استغلال آثارها على غرار المسرح الأثري في المهرجانات الثقافية على غرار مهرجان العبادلة الأثري الدولي، ومهرجان ربيع سبيطلة الدولي. كما تحتفل منطقة الوساعية التابعة لمدينة سبيطلة سنويًّا بعيد الرعاة الذي يتم فيه تكريم رعاة المواشي في أجواء احتفالية تتضمن سهرات للعزف على الناي تحت الخيام مع الأهازيج الجبلية الأصيلة مع خروج الضيوف مع المواشي إلى جبل سمامة، حيث يتواصل الإحتفال في الجبل.
وتبدو المدينة الأثرية بسبيطلة اليوم بحاجة إلى مزيد التعريف بها وتثمينها باعتبارها من المدن الأثرية القليلة التي حافظت على أهم معالمها، وباعتبارها وثيقة تاريخية مفتوحة بالإمكان من خلالها كتابة مراحل هامة من تاريخ تونس. ولعل وقوع هذه المدينة في منطقة داخلية بعيدة عن المناطق الساحلية السياحية جعلها معزولة نسبيا ولا تقبل عليها الوفود السياحية بالأعداد المطلوبة مقارنة بمواقع أثرية أخرى على غرار المسرح الأثري بالجم أو قصر الجم والموقع الأثري بقرطاج والمعالم الأثرية الإسلامية بمدينة القيروان وعلى رأسها جامع عقبة بن نافع.
وبالتالي تبدو المدينة الأثرية بسبيطلة ومدنا أثرية أخرى بحاجة إلى مزيد التعريف لجلب فئة راقية من السياح بعيدا عن سياح الدرجة الثالثة والرابعة من المناطق القريبة ممن يتنعمون بالبلد بأبخس الأثمان ثم يشتمونه ويشتمون شعبه في وسائل الإعلام ووسائل التواصل. وتبدو المواقع الأثرية الهامة والمتاحف والمؤتمرات الكبرى والتظاهرات الثقافية الهامة هي القادرة على جلب هذه الفئة وليس سياحة الشواطئ الصيفية التي باتت موجهة لبعض الجنسيات من ذوي الإنفاق المحدود والتشويه المستمر والمقصود للبلد وصورته في الخارج.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية