الرباط ـ»القدس العربي»: قبل سنوات مضت، كانت مدينة سلا تجسد فعلا اسمها، حيث تعيش غبن النسيان حتى من طرف القاطنين بها وأغلبهم قادمون من مدن أخرى أتت بهم الوظائف إلى العاصمة الرباط، فكانت جارتها مرقدا ليليا لهم، ينامون فيها ويعيشون يومياتهم بعيدا عنها، لا يعرفون عنها شيئا سوى المنزل والمحال وقليلا من الرياضة في عطلة نهاية الأسبوع وفنجان قهوة سلاوي على السريع.
هذه المدينة الأصيلة، التي تجسد دور سيدة محترمة وأم عطوف، تحتضن نساء ورجالا من مدن مختلفة، جاءت بهم «الخبزة» إلى الرباط كموظفين أو تقنيين أو عمال.
سلا قبل كل شيء، قلب كبير نابض بالحاضر والماضي والمستقبل، بعد أن عاشت فترة من الزمن مختنقة بالنسيان وعدم الاهتمام، اليوم تنبض بكل تألق وتزهو في حللها الجديدة، وترتكز إلى ماض عريق يعود إلى قرون طويلة خلت، هي صنوة المدن المغربية العتيقة، التي تضرب موعدا متجددا مع الأصالة، ولا تنسى أبدا حظها من الحداثة.
طرفة من وحي حظر التجول
بمجرد الحديث عن مدينة سلا، قفزت إلى واجهة الذاكرة، حكاية قديمة يتداولها سكان العاصمة الرباط عن جيرانهم، بكثير من التنكيت المحبب، وتعود إلى زمن سابق عندما كانت أبواب مدينة الشموع وعاشقة نهر أبي رقراق، توصد عند صلاة العصر، فيبدو التسابق من أجل ولوج المدينة العتيقة مشهدا طريفا.
اليوم، وعلى هامش الإجراءات والتدابير الاحترازية المتخذة للحد من تفشي فيروس كورونا والتي تفرض حظرا للتجول بداية من الساعة التاسعة ليلاً، تشاهد الناس في الشوارع وهم يسارعون الزمن من أجل قضاء ما تبقى من أغراضهم والعودة إلى المنازل قبل حلول الموعد. السرعة التي تكاد تتحول إلى لهفة لدى البعض، أعادت مشهدا لم نعشه لكننا سمعنا عنه، عندما كان سكان سلا يهرولون عند آذان صلاة العصر، تراهم حسب الروايات يسابقون الزمن من أجل دخول المدينة قبل أن توصد أبوابها، فصارت الدعابة تقول إن «ناس سلا يصابون بالجنون بعد صلاة العصر». هي حكاية من تاريخ تليد، عاشته المدينة عندما كان القراصنة يرعبون السكان اليوم ترفل جارة العاصمة في حلة من الوهج وتشع من جديد.
جولة في التاريخ
القادم إلى مدينة سلا من الرباط، يعبر قنطرة مولاي الحسن التي تحولت إلى جسر حديث أعاد للمدينة اعتبارها ونفض عنها غبار النسيان بعد أن جرى تشييدها عوض القنطرة السابقة.
أول ما يقف أمامك وأنت تلج المدينة مجمع سياحي بمقاهٍ فخمة ومطاعم مصنفة، كما ترفل قوارب باذخة على ضفاف نهر أبي رقراق، تحيلك على مدينة أخرى غير التي عهدها السلاويون.
المدينة القديمة تعانقك وتفتح أبوابها أمامك، يجاورها خط سكة الترامواي، وبين السكة والمدينة القديمة فسحة شاسعة عبارة عن حديقة تأوي العابرين وسكان الأحياء المجاورة لتنشق قليل من نسيم أبي رقراق المنعش.
سلا تمنحك الكثير من الاختيارات لولوجها، من خلال أبوابها السبعة، أولها وأكبرها باب المريسة الذي شيده السلطان أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني، والذي يعد من الأبواب الكبرى بالمغرب، وأقدمها.
ثم باب عنتر الذي لا يظهر منه إلا الثلث أما الثلثان الباقيان فهما مطموران تحت التراب.
باب سبتة، أيضا يقف شاهدا على التواصل بين سلا ومدن شمال المغرب، حيث كان يعتبر معبرا رئيسيا نحو مدينة سبتة.
باب بوحاجة بدوره يحيلك على أصالة المدينة، كما هو الشأن بالنسبة لباب شعفة والذي يضم أيضا باب سبع بنات.
أما باب معلقة فهو المطل على المقبرة والبحر، ونصل إلى باب احساين ثم باب دار الصناعة وباب الخميس، وباب قرطبة، وختاما باب جديد.
كل هذه الأبواب وتلك التسميات لا تحيل إلا على شيء واحد وأوحد، وهو قدم المدينة وأصالتها وإزدهارها وقت سابق من التاريخ.
الجولة في سلا على الأقدام متعبة، لأنها جولة طويلة جدا، مسافتها لا تحسب بالأميال بل الحكايات المتناسلة والمتوارثة على ألسن العائلات السلاوية القديمة التي بقي الأحفاد يحفظون منها القليل، والباقي في كتب مؤرخي المدينة.
تأسست مدينة سلا في بداية القرن الثاني عشر على يد الموحدين. وقد تطورت في البداية من خلال المباني الدينية الرئيسية كالمساجد والأضرحة والمدارس العتيقة، علاوة على الرياضات (الدور التقليدية الفسيحة) والأسوار. ومن بين معالمها التحفة المعمارية الموحدية: المسجد الكبير الذي بناه يعقوب المنصور عام 1196 وهو ثالث أكبر مسجد في المغرب بعد مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء وجامع القرويين في فاس. وعمل المرينيون على تطوير المدينة، فكانت لهم لمساتهم المميزة فيها.
أثناء التنزه في مدينة سلا، من المستحيل أن يفوتك مدخل المدرسة المرينية التي يعلوها غطاء من خشب الأرز المنحوت، والتي بقيت صامدة لقرون. الغرفة الرئيسية جميلة بشكل مذهل. الأرضيات مغطاة بالزليج (قطع من السيراميك المصقول) والجدران بالجص وخشب الأرز محفور ببراعة كبيرة. في الطابق العلوي، تقودك الخطى إلى غرف الطلاب. المدرسة تجسيد لروعة العمارة المرينية، فهي مدينة للسلطان أبو الحسن علي المريني الذي بناها بين 1333 و1341م وقد خضعت للترميم خلال السنوات الأخيرة.
برج الدموع
برج الدموع جزءٌ لا يتجزأ من أسوار مدينة سلا العتيقة المطلة على البحر. إنه حصن عسكري تاريخي، ذو هندسة معمارية نموذجية مميزة لمثل هذه الحصون الساحلية القديمة في المغرب، يتشكل من مدافع وجدران وأبراج صغيرة.
زائر هذا البرج يُملِّي عينيه بمشهد آسر، مشهد المحيط الأطلسي وغروب الشمس، ويصغي إلى هدير الأمواج، وهو يستحضر بعض ما يُروى من حكاية أصل التسمية: عُرف باسم برج الدموع، لأن السلطان المريني ذرف دموعا عندما كان واقفا يتأمل لما جرى للمدينة من خراب نتيجة الهجمات التي كانت تتعرض لها من قبل القشتاليين عام 1260م، وهو ما يؤكده المؤرخ الناصري الذي يوضح في كتابه «الاستقصا» أن البرج سُمّي بهذا الاسم، لأن السلطان يعقوب بن عبد الحق المريني حين شارك في بناء سور المدينة، كان يبكي متأثرا مما حلّ بالمدينة وأهلها على أيدي الغزاة.
حياة أخرى على ضفاف التجديد
سلا اليوم، مترامية الأطراف، أحياء عديدة وكبيرة بل مدن بكاملها شيدت على هامشها مثل مدينة سلا الجديدة، وأحياء أخرى كانت هامشية، تمتد وتتوسع إلى ما لا نهاية، بحكم الكثافة السكانية التي تشهدها، وبحكم تحولها إلى مركز أيضا.
فلم تعد سلا تعيش على هامش العاصمة، بل صار لها كيانها الاقتصادي ومراكزها التجارية والحياة تنبض فيها يوميا، لم تعد خالية خلال الأسبوع، فالقاطنون بها حولوا رحى كسب العيش إليها وبها، افتتحوا مشاريعهم وخلقوا مناصب عمل، وتحركت آلة كانت إلى وقت قريب متوقفة تماما.
مشاريع كبرى أخرجت سلا من النسيان، كمشروع تهيئة ضفتي أبي رقراق الذي يعتبر من أهم الوُرَش المهيكلة التي تساهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية لمدينتي الرباط وسلا.
شمعة أصيلة تضيء أفق سلا
لن يكون أجمل وأبهى ضمن هذه الجولة في مدينة سلا، من أن نضيء شمعة من موكب بهيج تعيشه المدينة احتفالا بذكرى المولد النبوي الشريف.
في كل سنة وفي الموعد المحدد، تعلن سلا على الجميع البهجة والفرح بقدوم ذكرى مولد النبي الكريم محمد عليه الصلاة والسلام، كرنفال مشرق يُسمّى «موكب الشموع» يطوف كل أحياء المدينة العتيقة وتستقبل النسوة بالزغاريد والرجال بالتكبير والجميع يغوص في الخشوع.
هي شموع غير التي نعرفها، صغيرة أو متوسطة الحجم، بل شموع من الوزن الثقيل تصل إلى 50 كيلوغراما، ملونة ومزركشة وتحمل بعد صلاة عصر، وينطلق الموكب البهي من السوق الكبير قرب دار صانع الشموع متجولا في أهم شوارع المدينة، وصولا إلى ساحة الشهداء ثم بعدها إلى دار الشرفاء.
تقليد ديني أصيل، يعض عليه السلاويون بالنواجد، ولا ينفكون يبدعون فيه كل سنة مع حلول ذكرى المولد النبوي الشريف، وجرى الاحتفال الأول بالشموع عام 986هـ، لتتواصل الاحتفالات منذ ذلك التاريخ إلى اليوم كموعد سنوي تستعد له مدينة سلا، بما يليق بهذه المناسبة.
صناعة شموع المولد النبوي ليست متاحة أمام الجميع، فهي تقليد يتبارى فيه أمهر الصناع المنتمين لأسر عريقة في المدينة ومعروفة بهذه الصنعة وهي على التوالي عائلة بنشقرون، وعائلة حركات، وعائلة بلكبير.
وبذلك تضيء سلا شمعة من تاريخها العريق، لأفقها المفتوح على المستقبل..
مهن تقاوم الزمن والحداثة
في مقابل حفاظ مدينة سلا على تقليد موسم الشموع، نجد تقليدا آخر قيد الاندثار، إن لم يكن قد انتهى أمره بفعل التغييرات الكبيرة التي شهدتها المدينة.
هي قوارب العبور بين ضفتي نهر أبي رقراق، والتي كانت جسرا مائيا ينقل المواطنين بين سلا والرباط، وعلى هامشه كانت تجارات بسيطة تنتعش لكنها صارت في طي النسيان اليوم، لم تستطع مقاومة الحافلات وسيارات الاجرة، كما أن الترامواي أنهى كل أمل لها في العودة إلى سابق مجدها.
فقط بعض القوارب لعاشقي الزمن الجميل والعودة إلى ماضٍ تفوح منه عطور الأجداد، هي مراكب صغيرة وقليلة الآن تكاد تختفي نهائيا، لولا تلك الرومانسية الحالمة لبعض المتجولين الذين يرغبون في معانقة نهر أبي رقراق عن قرب، فقد صارت سياحة وترفا، ولم تعد حاجة للتنقل.
الحسن السلاوي معلمة فنية
بكل بساطة لا يمكن الحديث عن مدينة سلا دون الحديث عن نسائها ورجالها في مجالات الثقافة والفنون، أسماء بصمت حضورها الإبداعي والفكري بقوة في المشهد المغربي، ومن بينهم ينتصب الفنان الحسين السلاوي الذي يعتبر ميزة زمانه بحكم التجديد الموسيقي الذي تمكن من إدخاله على الموسيقى المغربية.
الحسين السلاوي وجه أسمر تغنى بحاضره بنغمة مستقبلية وجاور الكبار في اللحن والكملة، أعماله في البداية رفضت من قبل المحافظين في المجال الموسيقي، لكنه فرض وجوده بعد أن صارت أعماله حديث الرأي العام ويتردد صداها في كل منزل ودكان وصار ضيفا مرغوبا فيه في الأعراس والمناسبات الكبيرة.
ترك هذا الفنان أعمالا خالدة، تغنت بمواضيع اجتماعية، من بينها «يا غريب ليك الله» و»ياموجة غني» و «سبحان الله على من يقرا» و»احضي راسك»… وأغانٍ أخرى ما زالت تحتفظ برونقها وطراوتها الإبداعية.
وقد فارق الحسين السلاوي الحياة في سن مبكرة، سنة 1951 ولمّا يتجاوز عقده الثالث، رحل وبقيت أعماله تدل عليه وتدل على مرحلة من تاريخ مدينة سلا والمغرب بشكل عام.
بين الأصالة والحداثة، تقف مدينة سلا شاهدة على التطور، وتحكي تاريخها للعابر فوق قنطرة مولاي الحسن وهو يستقل الترامواي، باتجاه أحيائها الحديثة وفي خلفية الصورة تمر لوحة المدينة القديمة ويفتح باب الخميس وباب شعفة حضنه لنظرة عابرة تختصر مسافات زمنية من تاريخ تليد وأفق يعد بالكثير.