طرابلس ـ «القدس العربي»: مدينة ساحلية ليبية صغيرة إلا أنها تخبئ في صفحاتها قصصا حافلة بالأساطير والحكايا القديمة قدم التاريخ، تاريخٌ سجل في جدرانها وفي أحجارها وكهوفها ومعالمها الشاهدة حتى يومنا هذا على ما مرت به هذه المدينة وعلى من كان فيها، وهي التي استطاعت حتى الآن الصمود في وجه كافة الظروف والمتغيرات والحروب والعوامل الجوية.
صبراتة، تلك المدينة الساحرة المحاطة بطبيعة خلابة ومشرقة، تتسم بتاريخ غني وتراث ثقافي يتجلى في كل زاوية. ويعتبر هذا الموقع الفريد مصدر إلهام للباحثين والمستكشفين الذين يسعون لفهم الروابط العميقة بين التاريخ والمكان.
تعد صبراتة واحدة من أبرز المدن الليبية، حيث تنسجم فيها آثار الماضي العريق مع الحياة الحديثة. ويعتبر المتنزه الأثري فيها متحفا في الهواء الطلق يحكي قصة حضارات عدة مرت فيها، منها الفينيقية والرومانية والعربية.
إسمها وموقعها
تقع صبراتة شمال غرب ليبيا وتملك ساحلا طويلا على امتدادها في البحر الأبيض المتوسط، تأسست قديما من قبل القرطاجيين، وكانت مركزا تجاريا مهما، وكان لها ميناء طبيعي صغير ومتواضع من ناحية الإمكانيات، ولكن طوره الرومان عندما أتوا إليها، كما أنها كانت على طريق القوافل التجارية التي تعبر الصحراء، وللمدينة تاريخ قديم وعريق، ففيها الكثير من الآثار والمعالم السياحية التي تدل على قدمها بالإضافة إلى أنها موقع أثري مُدرج في موقع التراث العالمي لليونسكو منذ عام 1982.
تشغل صبراتة ومثلها المدن الليبية القديمة الأخرى مركزا مرموقا في تاريخ الحضارة الإنسانية، فمنذ الألف الأول قبل الميلاد شهدت المنطقة التي أسس عليها أول اتصال مع حضارة الفينيقيين تبادلا تجاريا على أوسع نطاق. ويعود تاريخ صبراتة الأثرية إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، أي الفترة التي تلت إقامة المستوطنات الفينيقية الأولى في شمال أفريقيا وعلى رأسها مدينتا قرطاجنة وعتيقة «أوتيكا» في تونس.
صبراتة كان اسمها قديما أيام حكم اليونانيين لبروتون بولس كاي ليمن، ويبلغ عدد سكانها 85 ألف نسمة وذلك حسب إحصائيات عام 2010م، وتقع جغرافيا في الجهة الشمالية الغربية من ليبيا، حيث تمتد من الجهة الغربية من زوارة، ومن الجهة الشرقية من صرمان، ومن الجهة الجنوبية من الجبل الغربي، ويحدها من الجهة الجنوبية الغربية منطقة العجيلات.
وتحدث المؤرخون عن أن المدينة حملت اسم صبرات «Sabrat» الذي وجد على عملة بونيقية، كما حملت أيضا اسم صبراتن «Sabratan» الذي يعني «سوق الحبوب».
وقد ذكر وبلينيوس الأكبر في كتابه «التاريخ الطبيعي» وكذلك بطليموس في كتابه «الجغرافيا» أن إسم صبراته أُطلِقَ لتحديد منطقتين: الأولى بالداخل، وكانت تدفع الضرائب للثانية الساحلية.
والمصادر التاريخية تذكر وجود آثار رومانية بالقرب من الجوش، القائمة في عمق البر. وهذا دليلٌ على سابق وجود مدينة مهمة، والمصادر التاريخية نفسها تُسمي هذه المدينة صابرية، وهو يشبه إسم المدينة الساحلية «صبراتة» التي نتحدث عنها هنا.
ولا يوجد توافق بين المؤرخين حول تاريخ إنشاء صبراتة، إذ ان البعض يرجح أن تكون أسست في القرن السادس قبل الميلاد ويؤيد هذا الكلام الحفريات التي أجريت حديثا في صبراتة في المنطقة ما بين الفورم والبحر، حيث وجدت فيها آثار فينيقية تتمثل في مصاطب رملية، كان الفينيقيون يقيمون فوقها أكواخا مؤقتة لفترة قصيرة من السنة. وأثناء الحفريات وجدت فوق المصاطب طبقات سميكة من الرمال وهذا دليل على أن الموقع ظل مهجورا لفترة زمنية طويلة. وفي تلك الأكواخ وجدت جرار بونيقية وقدور يونانية ترجع للقرنين السادس والخامس قبل الميلاد.
ولكن تقليديا أسس المدينة مستعمرون فينيقيون جاءوا من مدينة صور وأقدم آثارها الفينيقية تعود للقرن السادس ق.م رغم أن المصادر الكلاسيكية تشير إلى تأسيسها في فترة تسبق القرن السادس ق.م بعدة قرون. وربما ستكشف الأيام عن آثار فينيقية أقدم تعود لتلك المدينة الصورية.
تاريخ قديم
كانت صبراتة قديما جزءا من مملكة ماسينيسا النوميدية، ولكنها لم تبقَ لفترة طويلة، واعيد بناؤها في القرنين الثاني والثالث الميلاديين، ثم تعرضت المدينة لأضرار جسيمة في حوالي عام 65-70 ميلادي بسبب زلزال ضرب المنطقة، وكان ذلك في فترة النفوذ اليوناني، وبعد الزلزال تولت الإمبراطورية الرومانية مهمة إعادة بناء المدينة، وقام بذلك الإمبراطور ماركوس أوريليوس وابنه كومودوس، ولهذا يوجد في صبراتة الكثير من الآثار الرومانية، ولكن أتى زلزال آخر للمنطقة أدى إلى تدميرها مجددا في عام 365 ميلادي، وبعد ذلك استولت عليها الإمبراطورية البيزنطية، ثم احتلها الفاندال، ومن ثم أتى إليها المسلمون.
ولم تزدهر صبراتة إلا بعد أن بسطت قرطاجة نفوذها عليها كبقية مدن طرابلس الثلاث. وكان اسمها عند اليونانيين لبروتون بولس كاي ليمن «ميناء ومدينة لبروتون» وعرفت بعد فترة باسم صبراتة. وقد اشتهرت بتصدريها للقمح من المناطق الداخلية لها كما يعتقد البعض، ويذكر المؤرخ الروماني بليني، أن صبراتة كان إسما لمدينتين الأولى هي الساحلية والأخرى داخلية تقوم بإنتاج القمح وترسله إلى صبراتة الساحلية التي تقوم بمهمة تصديره.
وبعد سقوط قرطاجة عام 146ق.م أصبحت المدينة شبه مستقلة إلى أن استولى عليها الرومان بعد مقاومة عنيفة من النوميديين.
منذ الفترة الرومانية عرفت المدينة رخاء اقتصاديا، حيث أدخل الرومان تحسينات على ميناء صبراتة البسيط وجهزت مع أويا «طرابلس» كمنافذ لتصدير منتجات الصحراء القادمة عن طريق غدامس.
وبلغت المدينة أوج مجدها زمن الأباطرة السوريون في القرن 3 م. ويلاحظ النسق التربيعي في تقسيم الشوارع وتقطيعها وهذا يتفق بل وينطبق على النظام التخطيطي الهيبودامي، الأمر الذي نتج عنه تطابق في تخطيط ورسم المباني والشوارع مع محور تصميم المسرح والمساكن، وتحديدا تلك التي يعود انشاؤها إلى القرن الثاني الميلادي- أي خلال فترة حكم الأمبراطورين انطونيوس بيوس وماركوس اوريليوس (138-180م) ومن المرجح أن يكون وضع صبراتة في هذه الفترة المزدهرة من حكم الأمبراطور انطونيوس بيوس قد آل إلى أنها أضحت مستوطنة رومانية وذلك بسريان نظام الحقوق المدنية الرومانية على سكانها، ويعتقد أن الأسباب التي تكمن وراء ازدهار المدينة تعود إلى النشاط التجاري فيها وليس الأعمال الزراعية. فأرض الضواحي المحيطة بها تعد أقل خصوبة من أراضي المقاطعة لبدة، يؤكد ذلك مقر وكلاء تجار صبراتة، الذي تم العثور عليه في مرفأ أوستيا القديم على الساحل القريب من مدينة روما، حيث تزدان قائمة المقر المذكور بفسيفساء، وصور الفيل. وقد استنتج من هذا أن تجارة صبراتة الرئيسية كانت تقوم على تصدير العاج والمنتوجات ذات الصفة الأفريقية الأخرى وذلك عن طريق فزان وغدامس.
حضارة عريقة
إذا ما غادرت طرابلس وسلكت الطريق الساحلي واتجهت غربا، فستبلغ بعد ساعة تقريبا المدينة الأثرية صبراتة، ولعل أول ما يلفت نظر الزائر أطلال مسرحها الروماني في الجانب الشرقي فيها، كذلك الضريح البونيقي الذي يبرز من خلال قطاعات التنقيب في الحي السكني الممتد جنوب السور البيزنطي.
تتميز آثار صبراتة بتنوعها الفريد، حيث يمكن للزائر أن يشهد آثارا رومانية تمثلت في المسارح الضخمة والأعمدة الفخمة، التي تعكس ازدهار هذه الحضارة القديمة. كما يظهر تأثير الفترة البيزنطية في الكنائس والبنايات الدينية ذات الطراز الفني الراقي.
وتأتي العمارة العربية لتكتمل اللوحة، حيث يمكن للمشاهد الاستمتاع بجمال الأزقة الضيقة والأسوار التي تحيط بالمدينة القديمة. إنها تجسد الجمال الهندسي والفن الزخرفي الذي يحكي قصصا عميقة عن الهوية الثقافية للمكان.
ويغلب الطابع البنائي العربي على المدينة وذلك بعد هجرة قبائل بني سليم إليها، واسم صبراته يطلق على المدينة القديمة الأثرية والمدينة الجديدة، ومن مناطقها وقراها المعروفة سوق العلالقة، ودحمان، والوادي، والنهضة، والطنيبات، وتليل، ومليتة، وقبيلة الرايس، وقبيلة الغرابلية، وقصر العلالقة، والطويلة، وخرسان، والدبابشية.
ومن أهم الآثار الرومانية الموجودة في المدينة معابد الآلهة هرقل، وليبرياتر وسيرابس، بالإضافة إلى المسرح المعمد ذو الثلاثة أدوار الذي يعتبر من نماذج العمارة الرومانية الكلاسيكية الرائعة والفريدة، وساحة القضاء، والساحات الشعبية، والحمامات، والسور الخارجي.
ويحتل المسرح الروماني في صبراتة مكانا بارزا بوسط المدينة ويعود تأسيسه إلى الربع الأخير من القرن الثاني للميلاد، ويتألف من منصة خشبية زينت واجهتها الأمامية بنقوش رخامية بارزة وأعمدة تنتهي بنقوش لدلافين على الجانبين. وتزين واجهة الخشبة سلسلة من الزخارف النافرة ومشاهد تاريخية ومسرحية وسلسلة من محاريب مستطيلة ونصف دائرية، وشخصيات ترتدي ملابس مثل الأمازونيات. وتتألف خلفية المنصة من ثلاثة طوابق محمولة على أعمدة «كورنثيا» تشكل أروقة يبلغ عددها 108 أعمدة مرتبطة بتوزيع وهندسة الصوت، حيث تعمل الفراغات بين الأعمدة كمكبرات للصوت.
ومن المعالم أيضا بازيليكا أبوليوس المعروفة ببازيليكا الفوروم، والتي حولت لاحقا إلى كنيسة مسيحية، وكذلك معبد الأنطونيون والذي بني بين عامي 90-95 م على شرف الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس، وكنيسة جستنيان «بازيليكا جستنيان» البيزنطية التي أشتهرت بفسيفسائها المعروضة في متحف صبراتة.
كما تضم المدينة متحفا يحوي أهم المقتنيات والتحف التي تعود للمراحل التاريخية العديدة التي مرت فيها. ووصف آثار صبراتة الكثير من الرحالة الأوروبيين في القرن التاسع عشر مثل بارت الذي تحدث عن المسرح والأعمدة والأقواس وقد رأى أيضا رصيف الميناء، وتمثالين من الرخام أحدهما لامرأة ذات جسم متناسق. كما تحدث عنها الرحالة فون مالتزان ووصف المسرح الدائري، والتماثيل والميناء وبعض الأبنية البيزنطية المتأخرة.
وسلكت صبراتة مثلها مثل المدن الليبية التي آلت تبعيتها للرومان مسلك التقليد في جميع وجوه الحياة العامة التي كانوا يتبعونها في مدنهم، ومن المعروف أن مركز الحياة في المدن الرومانية كان «الفورم» أي السوق العامة، والتي كانت عبارة عن ساحة واسعة غير مسقوفة وعادة لا تدخلها العربات، والسوق العامة بالمدينة كانت تحيط بها المعابد الرئيسية والتي كانت مكرسة لبعض الآلهة والأباطرة، وتحيط بها أيضا المباني الحكومية العامة والحوانيت وكانت مقر الاقتراع ومنبرا للخطباء، وتعتبر محور الحياة العامة حيث الحكام يدلون بتصريحاتهم ويشرفون على عمليات تقديم القرابين ويقضون بين الناس، وفي رحابها كان يصوت المواطنون ويقومون بالأعمال التجارية وفيها يقضون أوقات فراغهم، يتجولون بين الأعمدة والتماثيل المقامة للآلهة والأباطرة ورجال الخير بقرار من المجلس البلدي. وعلى العموم فإن السوق العامة-الفورم، تضم بداخلها الكثير من أوجه الحياة العامة منها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية.
وفي عام 1923م شرع بأعمال التنقيب والحفر في مدينة صبراتة لأول مرة. ولقد استمرت هذه الأشغال حتى عام 1936م، حيث تم خلال هذه المدة الكشف عن نصف مساحة المدينة القديمة تقريبا بما في ذلك المباني العامة وعدد من المساكن والشوارع. ومن بين المنشآت الهامة التي تم العثور عليها في تلك الآونة مسرح صبراتة، وفي الخمسينات استؤنفت أعمال الحفر والتنقيب واتسع نطاقها فشمل القسم الغربي من المدينة والكائن جنوب السور البيزنطي، حيث اكتشف حي سكني يرجع للفترة الأولى من تأسيس الأمبراطورية الرومانية، ويتميز هذا الأثر المعماري البونيقي بطابعه الليبي الواضح.
صبراتة الحديثة
تعاني المدن والمباني التاريخية في ليبيا من إهمال شديد وعدم اهتمام بصيانتها أو محاسبة من يقومون بتحويرها أثناء الصيانة أو تغيير معالمها أو حتى هدمها، إضافة إلى انتشار مافيات سرقة الآثار وتهريبها عبر البحر نحو الدول الأوروبية.
وبالنسبة لصبراتة فقد عانت من ظروف قاسية، ففي 22 شباط /فبراير2016 سيطر عناصر من تنظيم «الدولة الإسلامية» لساعات على مديرية أمن صبراتة الواقعة وسط المدينة، بعد اشتباكات مع قوات الأمن المحلية المنضوية ضمن تحالف «فجر ليبيا» والتي استطاعت في النهاية طردهم من المدينة.
ويشرف على الأمن في صبراتة مجلس عسكري يضم مجموعات مسلحة محلية موالية لحكومة الوحدة الوطنية، التي تتولى مسؤولية الحفاظ على أمن العاصمة طرابلس منذ 2014.
عاد اسم المدينة إلى واجهة الأخبار في وسائل الإعلام عندما شنت طائرة أمريكية غارة على مقر لتنظيم الدولة بزعامة أبو بكر البغدادي في صبراتة يوم 19 شباط /فبراير2016 استهدفت مسؤولا ميدانيا في هذا التنظيم تونسي الجنسية. ونتج عن هذه الغارة مقتل نحو خمسين شخصا، وقالت حينها وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاغون» إن الغارة حالت دون وقوع هجوم يُرجح أن التنظيم كان يعد لتنفيذه في تونس المجاورة.