مدينة صيدا معالم أثرية تروي عبق التاريخ وعراقة الحضارات

 عبد معروف
حجم الخط
0

بيروت-“القدس العربي”: تعتبر مدينة صيدا اللبنانية من أهم المدن التاريخية العريقة التي ما تزال تحافظ على رونقها وطابعها المعماري التراثي. تبعد عن العاصمة بيروت حوالي 40 كلم جنوباً، وتبلغ مساحتها سبعة كيلو مترات مربعة، حيث كانت تحتلها بساتين الحمضيات حتى بداية السبعينات من القرن الماضي، لكن انتشار العمران والنمو السكاني أديا إلى تقلص مساحة البساتين أمام نهضة المؤسسات التجارية والصناعية.

صيدا مدينة عريقة وغارقة في التاريخ، ومن الآثار التي تروي حكاياتها: المدينة القديمة، والقلعة البحرية، والقلعة البرية، والميناء ومرافئ الصيادين، والجامع العمري الكبير، والكنائس وخان الإفرنج والحمامات الأثرية. كما تتمتع المدينة اليوم بمزايا عدة، فهي مركز محافظة جنوب لبنان، وتتميز أيضاَ بفرادة واجهتها البحرية ومنطقتها التراثية، ومأكولاتها وحلوياتها المتنوعة، كل هذا يجعل منها نقطة جذب سياحية مهمة، وتمتلك أيضاً مقدرات مهمة في حقل الإسكان، بفضل التلال المحيطة بها والمطلة على البحر، والتي شهدت نمواً عمرانياً ملحوظاً.

إسمها باللاتينية واليونانية “صيدون” والإسم مشتق من كثرة السمك في شواطئها، أو أّنّ أهلها الأقدمين عملوا كصيادي سمك. يقول المرحوم الشيخ أحمد عارف الزين في مؤلفه “تاريخ صيدا”: “إنّ صيدا من أقدم مدن العالم واسمها مأخوذ من بكر كنعان حفيد نوح، وكان ذلك سنة 2218 ق.م أو قبل ذلك، وكانت في أيام يشوع بن نون أم المدن الفينيقية”.

وفي لقاء مع المؤرخ الدكتور طلال المجذوب، أكد على أن مدينة صيدا مرت على طول تاريخها بأطوار من الصراع، فقد غزاها الأشوريون واستولوا عليها عام 720 ق. م، وبعدها خضعت للبابليين ومن ثم غزاها الفرس عام 526 ق. م، وظلت تحت أيديهم حتى عام 333 ق. م عندما تمكَّن الإسكندر الأكبر من الانتصار على الفرس والاستيلاء على معظم المدن الفينيقية وعلى رأسها صيدا، وبعد ذلك خضعت لحكم البطالمة ثم الرومان، واستمرَّ وضعها على هذا الحال إلى أن تمَّ الفتح العربي الإسلامي لها عام 45هـ/ 626م وهذا ما جعلها مدينة أثرية بامتياز، حيث تكثر فيها الآثار والتي منها ما يعود لعصور فجر التاريخ.

وأشار الدكتور المجذوب، إلى أن الحفريات والآثار المكتشفة تدل على أن جذور مدينة صيدا تمتد إلى العصر الفينيقي قبل حوالي خمسة آلاف سنة، ولعبت دورا بارزا في التجارة والصناعة واللغة والكتابة وسائر الأنشطة الحضارية، وتعاقبت عليها عشرات القرون فشهدت حركات صعود وهبوط من الإزدهار والتأخر في العصر الفارسي، والعصر الروماني، والعصر البيزنطي، والعصر الإسلامي، والعصر الصليبي، والعصر المملوكي، وصولا إلى العصر العثماني حتى اوائل القرن الماضي.

وتحتفظ صيدا ببعض آثار ومعالم تلك العصور، وما زالت قلعتاها البحرية والبرية، وما اكتشف فيها من نواميس وأدوات وتماثيل فينيقية ورومانية وغيرها خير شاهد على عراقتها التاريخية وإنتاجها الحضاري.

واجهة المدينة

تعتبر القلعة البحرية واجهة بارزة لمدينة صيدا وإحدى معالمها التاريخية، والمخزون الحضاري والإرث الثقافي للمدينة الساحلية، أُطلق عليها “قصر البحر”، وهي أحد أهم المواقع الأثرية والمعمارية في المدينة التي تعود إلى عصور الفينيقيين، والإغريق والرومان والبيزنطيين والعرب، وشكلت الحارس الأمين لمدينة صيدا وسواحلها في وجه المعتدين والغزاة، والحملات التي طالتها على مر العصور وحصناً وذوداً عن الثغور ودفاعاً عن السواحل.

تبلغ مساحة القلعة أربعة آلاف متر مربع، بناها الصليبيون فوق معبد فينيقي قديم للإله “ملكارت” عام 1228م على بعد حوالي 80 مترا من الشاطئ، ويربطها به جسر صخري مبني على تسع ‏قناطر وجعلوها حصنا لهم واهتموا بصيانتها وزخرفتها.

تحيط بالقلعة المياه من جوانبها كافة، وترتبط بالشاطئ بوساطة جسر صخري أوله أحجار ضخمة ثابتة ونصفه الآخر القريب من بوابتها متحرك، وواجهتها ذات شكل نصف إسطواني، بها مجموعة من النوافذ الصغيرة ومرامي السهام للمراقبة والدفاع.

مدخل القلعة مزين بأحجار سوداء منحوتة، بها مجموعة من الأبراج المحصنة والمتصلة ببعضها عبر ممرات ومسارب، تمت توسعتها وأضيفت إليها بعض الجدران والدعائم، لها برجان أحدهما شرقي صليبي والآخر غربي إسلامي بني في عهد الممالك، يجمع بينهما جدار متين البنيان، الأول في الشمال الشرقي مستطيل الشكل ويقابل مدخلها الرئيسي، جدرانه من حجارة صلبة ومزخرفة، يعلوه شرقاً أطراف جذوع الأعمدة الغرانيتية الرومانية الممددة عرضياً داخله، تدعيماً للبناء ومضاعفة متانته وتحصينه، والصعود إلى سطح البرج بوساطة أدراج حلزونية داخلية.

البرج الثاني في الجهة الجنوبية الغربية ويمثل مرحلتين تاريخيتين، الجزء الأسفل منه بُني في العهد الصليبي من حجارة قديمة، بينما أعيد بناء الجزء الأعلى في العهد المملوكي، به لوحة رخامية منقوشة فوق نافذة البرج المطلة على البهو الداخلي للقلعة مدون فيها تاريخ البناء، كما يوجد في الناحية الشمالية الشرقية من القلعة ركن من بقايا كنيسة قديمة، جدارها داعم للمسجد الصغير المرتفع بقبته تم بناؤه في العهد العثماني في العام 1840م.

ضربتها العواصف الهوجاء فلحقها الضرر وتهدم قسم من جدارها عند الطرف الشمالي الشرقي وبات يهدد بانفراط العقد الحجري المتصل بالقلعة إضافة إلى تشققات في جدران أخرى.

آثار قلعة لويس

القلعة البرية “قلعة القديس لويس” هي قلعة قديمة طبيعية تعود إلى العصور الفينيقية الأولى تم ترميمها في العصر اليوناني والروماني وأقاموا فيها مراكز للمراقبة والدفاع وقد تهدمت بتأثير الحروب والزلازل. ولما احتل الصليبيون صيدا عمدوا إلى ترميمها وإقامة سور حولها ليقيها الهجمات، وأشهر من تولى تحصينها لويس التاسع ملك فرنسا الذي اتخذ مركزاً له في حصنها أثناء إقامته في صيدا بين سنة (1250 – 1254م) وترك للفرسان الهيكليين أمر حمايته بعدئذٍ ولا تزال آثار قلعة لويس باقية حتى اليوم.

والباحث في معالم مدينة صيدا لابد له من زيارة معبد أشمون على مسافة 3 كيلومترات شمال شرق المدينة، وعلى مرتفع يشرف على نهر الأولي ويعود للإله أشمون، وقد بُني أيام الملك عشترت بن عازر ملك صيدا في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد الذي بناه لإلهه أشمون الأقدس، وتعمل مديرية الآثار اللبنانية على إظهار معالم هذا الهيكل الرائع إلى عالم الوجود، إذ تجري عمليات التنقيب في المكان المشار إليه، وقد ظهر للعيان الآن، باحة الهيكل بأعمدته الضخمة وحجارته البيضاء الجميلة.

وتزخر صيدا وجوارها بعدد كبير من المساجد والكنائس بالإضافة إلى مقامات الأولياء والقديسين التي ترجع إلى عصور مختلفة على حد سواء.

خانات أثرية

وفي صيدا ثمانية خانات أثرية لم يبق منها إلا خان الإفرنج وخان الرز وخان الشاكريه وخان اليهود وخان الصابون وخان الحمص (القشلة) وخان أباظة والخان الصغير.

يقع خان الإفرنج في المدينة القديمة مقابل المرفأ وقرب القلعة البحرية، هو أحد معالم صيدا التاريخية. بُني في أواخر القرن السادس عشر في عهد الأمير فخر الدين المعني الثاني، من الحجارة الرملية، وهو مؤلف من طابقين و24 غرفة وقاعات كبيرة. وذكر مؤرخون أن الخان كان شاهدا على الانفتاح التجاري للمدينة في عهد الأمراء المعنيين، وكان مقصد الرحالة والتجار الغربيين للاستراحة، وتحديدا الفرنسيين من مدينة مرسيليا الذين كانوا يحمّلون سفنهم بالبضائع لينقلوها عبر طريق الحرير إلى أسواق الشرق الأقصى، ويعودون محملين بما تنتجه هذه الأسواق لبيعها في القارة الأوروبية.

وقد استقطب الخان الفنانين التشكيليين الذين دوّنوا سيرته بالريشة والألوان الزيتية. ولا تزال أعمالهم تدل على التفاعل الاجتماعي بين الشرق والغرب في تلك المرحلة.

رُمم الخان لأول مرة عام 1809 من قبل الدولة الفرنسية إلا إنه تعرض لزلزال عام 1838 فأصيبت بعض جدرانه بالتصدع فجرى ترميمه للمرة الثانية. وفي سنة 1982 وبسبب الاجتياح الإسرائيلي أُهمل وتصدعت بعض جدرانه بعد أن هجره سكانه، فأعيد ترميمه وتأهيله بموجب اتفاق مع الدولة الفرنسية، وفي 15 أيار/مايو 2002 أُعلن أن خان الإفرنج قد أصبح مركزاً لبنانياً فرنسياً للتراث والثقافة الأوروبية المتوسطية العربية.

قصور وأسواق ومتاحف

يعود تاريخ بناء قصر آل دبانة، إلى أيام الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير في أوائل القرن السابع عشر، ويملكه جورج دبانة.

ويعتبر هذا القصر الذي ما زال يحتفظ بطابعه الشرقي الجميل المزين بالزخارف، من أجمل القصور القديمة وهو مفتوح للزوار، وتعمل الحكومة اللبنانية حاليا من أجل تحويله إلى متحف لتاريخ مدينة صيدا.

مصبنة عودة أو “متحف الصّابون”: يعود تاريخ المتحف “مصبنة عودة” إلى القرن السابع عشر؛ ويروي حكاية الصّابون في المنطقة الممتدة من حلب إلى نابلس، كما يبرز المراحل التي تمر بها عملية التصنيع، انطلاقا من زيت الزيتون، فضلا عن تنوع أشكال الصّابون وخصائصه.

والمتحف نادر في منطقة الشّرق الأوسط، وله مثيل وحيد للصابون في فرنسا، ويحتوي على معروضات تتضمّن منتجات الصّابون، وكل ما يتعلّق بلوازم الحمّام التركيّ.

وتشتهر مدينة صيدا بوجود حمامات شعبية، مثل حمام المير وحمام الجديد وحمام الشيخ وحمام الورد وحمام السبع بنات.

ويعتمد سكان مدينة صيدا على الصناعة الحرفية والتجارة والزراعة وصيد الأسماك وصناعة الحلويات لمعيشتهم، وأصبحت المدينة تشكل مركز الثقل الاقتصادي لمحافظة جنوب لبنان، وتضم أكبر التجمعات الاقتصادية، وصارت مركزا ماليا وتجاريا وصناعيا وخدماتيا وصحيا للمنطقة بكاملها.

التجوال في أسواق صيدا العتيقة تجربة فريدة من نوعها، فالمتاجر ذات الأبواب الخشبية والجدران الحجرية تعرض أجمل التذكارات المشغولة يدويًا، والباعة فخورون بما يعرضون من زخارف وصناعات لبنانية. ويذكر المؤرخ اللبناني الدكتور طلال المجذوب، أن مدينة صيدا القديمة تضم العديد من الأسواق، أبرزها، سوق الذهب والبازركان والنجارين، التي يقصدها الزوار من جمع أنحاء العالم لجمالها وغناها، وتتوزع في دكاكين تنتشر على الجانبين. أبوابها الخشبية القديمة تم تجديدها وزينت ببعض النقوش، وذلك في إطار مشروع “الإرث الثقافي والتنمية المدنية” لترميم أسواق صيدا القديمة وتأهيل بنيتها التحتية والأماكن العامة فيها.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية