تعتبر مدينة عنجر واحدة من أبرز المواقع الأثرية في لبنان والمنطقة، لما فيها من معالم تاريخية ترجع لآلاف السنين، تحاكي حضارات قديمة شهدها لبنان على مر العصور.
وعنجر هي الموقع اللبناني الوحيد من العصر الأموي، ومن أكبر الأماكن الأموية كاملة التصميم المتبقي في الشرق، وقد أدرجت من ضمن مواقع التراث العالمي سنة 1984 من قبل منظمة اليونسكو.
تقع المدينة في محافظة البقاع شرق لبنان قرب الحدود مع سوريا، وتبعد عن بيروت 58 كلم وتتمتّع بموقع مميز يربط الساحل اللبناني، بغوطة دمشق وسوريا بشمال فلسطين.
يتميز موقعها بإطلالة رائعة على السهل والجبل، بالإضافة إلى وجود المدينة قرب أهم منابع نهر الليطاني.
العين التي تتفجّر
يعتقد بعض المؤرخين أن إسم عنجر يعود إلى العين التي تتفجّر عند سفوح جبال لبنان الشّرقية القريبة منها، والتي عرفت سابقًا باسم “عين جرّا” وكانت “جرّا” مدينة قديمة من العصر “الهلنستي”.
أنشئت المدينة على يد الخليفة الأموي، الوليد بن عبد الملك، في بداية القرن الثامن الميلادي، مستعيناً بعدد من المهندسين والمعماريين البيزنطيين المحترفين في فنون العمارة والزخرفة المتأثرة بفنون الرومان والإغريق. وقد استعمل المهندسون والمعماريون أعمدة وتيجانا وغيرها من البقايا الرومانية والبيزنطية من المناطق المجاورة. حيث تم الحصول على الحجارة والأعمدة من بقايا الأبنية الرومانية والبيزنطية التي عثروا عليها في الجوار.
ومن أقسام البلدة الأثرية المستطيلة الشكل التي تضمّ سوقاً شعبياً كبيراً وحمامات بخارية والقصر والمسجد والباحة الخارجية.
في عام 744م تعرّضت المدينة للتدمير على يد الخليفة مروان الثاني وذلك بعد انتصاره على منازعه إبراهيم بن الوليد في معركة دارت رحاها بالقرب منها، وفيما بعد وتحديداً في القرن الرابع عشر تحوّلت المدينة إلى تلال من الأطلال والتراب وسط مساحات شاسعة من المستنقعات، وقد ظلت على هذه الحال حتى عام 1943م وذلك عندما بدأت المديرية العامّة للآثار اللبنانيّة مجموعة من الأعمال الاستكشافية.
السور القديم
تضمّ عنجر، مواقع أثرية هامة تعود إلى العصر الروماني والاغريقي والأموي، أبرزها، السور القديم ويبلغ طوله 370 متراً، شكله مستطيل إلى جانب الأسوار الخارجية التي دعمت بستة وثلاثين برجاً نصف دائريّ، كما دعمت الزوايا بأربعة أبراج دائريّة، وتبلغ سماكة هذه الأبراج نحو مترين وارتفاعها سبعة أمتار. ومن المواقع الأثرية في المدينة أيضا، القصر الكبير، والمسجد، والقصر الصغير، والحمامات، والأحياء السكنيّة (يتألّف كلّ حيّ سكني من بيتين أو أربعة أو ستة بيوت، وهي ذات تصميم واحد، بيت غير مسقوف وفيه عدد من الغرف). وتجدر الإشارة إلى أنّ الأبنية بنيت على أسلوب شاع استعماله في العصر البيزنطيّ ويعتمد على تعاقب مداميك الحجر ومداميك طوب الفخار ويشكل هذا الأسلوب وسيلة للتخفيف من ثقالة البنيان ولإعطاء البناء شيئاً من المرونة تمكّنه من مواجهة خطر الزلزال، بالإضافة إلى كونه يعتمد على تقنية بنائيّة سريعة التنفيذ ومتواضعة الكلفة. والطريق الرئيسي (على جانبيه دكاكين) البوابة الرباعيّة، الأسوار منذ أّيّام الرومان والإغريق.
القلعة التاريخية
ومن معالم المدينة الأثرية، قلعة عنجرالتاريخية التي تُشكل واحدة من أكبر المعالم الأثرية الأموية المتكاملة في الشرق، وتُشكل بحد ذاتها واحدة من روائع التصميم الحضاري في العهد الأموي.
ويعود تاريخ بناء هذه القلعة إلى الحقبة الرومانية. ويؤكد المؤرخ اللبناني عمر عيتاني، أن بناء القلعة يعود إلى نهاية القرن الأول الميلادي وهو يتميز بضخامة الحجارة التي تم تشييدها بها وخاصة في الأساسات. ويعود اكتشاف هذه القلعة في عصرنا الحديث إلى الحفريات التي قامت بها الدولة اللبنانية في الستينيات من القرن الماضي وقد أثمرت وقتها عن اكتشاف معالم مدينة رومانية كانت تسمى كالسيس وفي حينه بدأت عملية ترميم هذه القعلة وإعادة بعض الجدران والأعمدة إلى أماكنها وإبراز التيجان المزخرفة أعلى الأعمدة وأسفلها. وأكثر ما يلفت النظر في تصميم هذه القلعة، الدقة في نحت القسم العلوي منها والذي يعد لا مثيل له في لبنان فقد تميز بأشكاله الهندسية المنتظمة الرائعة مما يدل على براعة ومهارة سكان مدينة كالسيس من حيث الدقة في العمل وجودته العالية. كما عثر أيضا على العديد من المسكوكات من أيام ليسيانوس بن بطليموس بن مينا الأيطوري أحد من حكموا مدينة كالسيس في القدم إضافةً إلى نقود ظهرت عليها صور للعديد من الأمراء والملوك منهم الملك أغريباس أحد الملوك الذين حكموا فلسطين في العصر الروماني وتماثيل كثيرة لرؤوس نساء ورجال.
أعاد الخليفة الأموي، الوليد بن عبد الملك، بناء قلعة عنجر بشكلها القائم اليوم، في القرن الثامن للميلاد وبعد وفاته أقدم الخليفة مروان الثاني على تدمير جزء كبير منها أثر إنتصاره في حرب دارت رحاها بجانب القلعة.
ضمّت قلعة عنجر حوالي 600 حانوت، يتمّ الدخول والخروج منها من الأروقة المسقوفة الواقعة على جانبي الطريقين. ويشكّل إلتقاء هاتين الطريقين ما يعرف في تاريخ العمارة بالبوابة الرباعيّة التي استخدمت في إنشائها عناصر بنائيّة قديمة تمّ إستخراجها من إحدى المنشآت الرومانيّة.
حارات الأرمن
عام 1939 نزح إلى منطقة عنجر المجاورة لبقايا القلعة ما يقارب من 5000 لاجئ أرمني، حيث أقاموا فيها البلدة الحالية، وقد سُمّيت حارات البلدة بأسماء القرى التي نزح عنها الأرمن.
صمدت قلعة عنجر، رغم الحروب التي شهدها لبنان طوال العقود الماضية، وتعد اليوم الموقع اللبناني الوحيد الذي يعود إنشائه إلى الحقبة الزاهرة في تاريخ الحضارة العربية، فما أن تدخل إليها وتتجول في أرجائها حتى تشتم في جدرانها عبق التاريخ، وترى في زواياها بصمات عابرة تدور في أروقتها مزهوة بالمجد والفنون والروائع.
وفي أواخر الألفية الثانية بدأت الدولة اللبنانية أعمال البحث والتنقيب عن القلعة وأشرفت على ترميمها حتى أعلنتها منظمة اليونسكو منذ ثلاثة عقود موقعاً من مواقع التراث العالمي.
واستنادا إلى إصدارات وزارة السياحة اللبنانية، فإن قلعة عنجر تختلف اختلافاً أساسياً عمّا سواها من المواقع والمدن الأثرية الأخرى في لبنان، من خلال تصميمها الهندسي الرائع والفريد، كما تتميّز القلعة بجمالها وعراقتها الأمر الذي دفع منظمة اليونيسكو إلى إعلانها في العام 1984 كواحدة من مواقع التراث العالمية.
طريق الأمويين الدولي
في عام 2015 تم إنشاء متحف للحضارة الأموية في مدينة عنجر وذلك في إطار مشروع يسمى طريق الأمويين الدولي الذي يشمل 7 دول عربية وأوروبية والذي يتولى تمويله برنامج التعاون عبر الحدود الذي وضعته الآلية الأوروبية للجوار والشراكة التابعة للاتحاد الأوروبي وتبلغ ميزانيته أكثر من أربعة ملايين يورو يساهم فيها الاتحاد الأوروبي بنسبة 90 في المئة. وهذا المشروع الإستراتيجي يرمي إلى بناء مسارات ثقافية عابرة للحدود تجمع الآثار الأموية في سبع دول هي أسبانيا وإيطاليا والبرتغال وتونس ومصر والأردن ويدخل لبنان في إطاره بعدة مدن منها بيروت وجبيل وطرابلس وصيدا وصور وعنجر بقلعتها وآثارها الأموية وبعلبك بمسجدها الأموي حيث كان لبنان كجزء من بلاد الشام تحت سيطرة الدولة الأموية.
مدينة عنجر التي لجأت إليها كليوبترا وأنطونيو عند هروبهما من مصر واتّخذا من قلعتها الرومانيّة مخباً لهما وبنيت على أنقاضها القلعة الأمويّة، هي من الثوابت التاريخيّة في لبنان والعالم العربي ومن الشواهد على تاريخ لبنان القديم والحضارات التي مرّت عليه.
وعنجر كما كانت ملاذاً للأمويّين من الحرّ بهدف الراحة والاستجمام فهي اليوم ملاذ لقاصدي الراحة بعيداً عن صخب المدن ولمحبّي استكشاف الحضارات القديمة التي مرت على هذه الأرض.
آرام صوبا
إن مملكة صوبا هي المذكورة في المصادر الكلاسيكية اليونانية والرومانية باسم (خلسيس أو (كلسيس)، أي بمعنى (النحاس)، مثل الكلمة الآرامية (صوبا)، ويعرف موقعها اليوم باسم (عنجر) في سهل البقاع إلى الجنوب من مدينة زحلة اللبنانية