نشرت الصحافة العالمية ريبورتاجات مثيرة حول الوضع الشاذ الذي فرضته الحرب في أوكرانيا على مدينة كاليننغراد وكلّ إقليم الجيب القصيّ التابع لروسيا سياديّا ولكن المنقطع عنها جغرافيّا لأنه مكتنف بين بولندا وليثوانيا. إذ ليس من صلة بين كاليننغراد وبقية روسيا القارّية إلا رحلتان بالقطار تمران عبر مئات الكيلومترات من أراضي بيلاروسيا وليثوانيا. وقد كان السماح بمرور هذه الرحلات من الشروط التي أمليت على ليثوانيا لما قبلت عضوا في الاتحاد الأوروبي. إلا أن الأصوات أخذت تتعالى الآن مطالبة فيلنيوس بمنع الرحلات وبإدراج الجيب الروسي تحت طائلة العقوبات الأوروبية. ومن غرائب هذه الرحلات أن القطار يتوقف في محطة فيلنيوس فلا ينزل منه ولا يصعد عليه أحد، ولا ينشأ بين سائقيه وركابه (وكلهم من الروس) وبين عمال النقل الليثوانيين أي تخاطب أو تواصل. لهذا ذكّرتني قطارات الصمت هذه بأعجوبة “المقايضة البكماء” التي أخبرنا أستاذنا المؤرخ الممتع بغزارة علمه محمد حسين فنطر أنها كانت أسلوب التجارة السائد في القديم بين الأقوام التي لا يعرف بعضها لغة بعض. هذا يأتي مثلا بأكياس القمح، فيأخذها الآخر ويناوله لفائف القماش أو أواني الخزف. ثم يمضي كل في سبيله. لا سلام ولا كلام.
وقد كان لي مع كاليننغراد هذه قصة تدخلت فيها ضغوط الإنتاج “وتعطلت لغة الكلام” والمونتاج. إذ كنت قد اتفقت مع زميليّ الإنكليزيين الباحث القدير لورنس سمولمان والمصور المخضرم ستيف سوندرسون على ضرورة أن يشمل جدول التصوير التلفزيوني، أثناء إنجازنا لوثائقي “الحرب العالمية الأولى في عيون العرب” بنسختيه العربية والإنكليزية، مشاهد من بروسيا الشرقية لأنها تعرضت للغزو أثناء الحرب العالمية الأولى ولأن اقتطاعها من الجسم الألماني، بموجب معاهدة فرساي، كان أحد أسباب انتشار الشعور بالغبن لدى الألمان والرغبة النازية في الانتقام. وكان لعاصمة بروسيا الشرقية، كونيغسبرغ، مكانة في وجدان الألمان، حيث ظل ملوكهم يتوجون على مدى القرون في كاتدرائيتها وكان كبار ضباطهم العسكريين يتدربون في أكاديميتها. كما كانت كونيغسبرغ مركز إشعاع ثقافي بفضل جامعتها ألبرتينا وبفضل ابنها الأشهر والأنبل الفيلسوف الفذ إمانويل كانط. وكان رأي صديقي لورانس أن كونيغسبرغ تختزل مفارقات الحروب. أولا، لأنها مدينة ذات جنسيّتين وتسميتين: فهي كونيغسبرغ لما كانت ألمانية، ثم هي كاليننغراد لما صارت، بنهاية الحرب العالمية الثانية، روسية. وثانيا، لأن فيلسوفها العظيم الذي ولد فيها ودفن ولم يغادرها البتة، هو الذي ألهم الإنسانية، بفضل كتابه عن “السلام الأبدي”، فكرة الاجتهاد السياسي في محاولة إحلال السلام العالمي الدائم بالاحتكام إلى القانون بدل القوة: فكان ذلك أساسا لإنشاء عصبة الأمم بعيد الحرب العالمية الأولى، ثم منظمة الأمم المتحدة بعيد الحرب العالمية الثانية.
الروس “نجحوا” في جعل مدينة كانط نقيضا، بسلاحها النووي، لسلامه الأبدي! وقد نشطوا أخيرا في ترويج الأباطيل زاعمين اعتزام ليثوانيا غلق سكك الحديد
كان جدول العمل مكثفا، حيث شمل حوالي عشرين بلدا، فلم يسعفنا الوقت للتصوير في كاليننغراد. لكننا ظللنا متشوقين لزيارتها خاصة بعد أن علمنا أن السوفييت كانوا يعتزمون هدم كاتدرائيتها لولا أن أنقذها كانط! فقد تراجعوا لما علموا أنه كان دفينا فيها قبل أن ينقل رفاته عام 1924 إلى ضريح أقيم بين الكاتدرائية وجامعة ألبرتينا (التي تسمى الآن جامعة إمانويل كانط الحكومية الروسية). وسرّ عملية الإنقاذ الكانطية هذه أن لنين كان من المعجبين بفيلسوف كونيغسبرغ وكان يرى، محقّا، أن ماركس وإنجلز مدينان له بقدر دينهما لهيغل. ويتجلى ذلك مثلا في دعوة ماركس إلى سلام دائم قائم على اتحاد عمالي عابر للحدود والقوميات، وفي نبوءة إنجلز، منذ عام 1888 (أي قبل ربع قرن!)، بحتمية اندلاع الحرب العالمية الأولى (وقد علق لنين عام 1918 على نص إنجلز باستفاضة وأشاد بهذه النبوءة العبقرية). فلا عجب إذن أن يجمع البلاشفة على إكبار كانط، وأن يبقى كتابه “نقد العقل الخالص” يشرح ويدرّس في الجامعات السوفييتية.
أما اليوم فليست كاليننغراد سوى مصدر خطر على السلام الأوروبي الغربي الذي دام 76 سنة كاملة لا نظير لها في التاريخ، والذي تحققت به أطول فترة أمن أممي على الإطلاق وأقرب محاولة إنسانية لتجسيم التصور الذي وضعه كانط، عام 1795، بعنوان “مشروع فلسفي في سبيل سلام دائم”. مدينة كانط اليوم معسكرة إلى أكبر حد، وهي تؤوي ترسانة نووية قد يستخدمها بوتين لو قرر شن حرب عالمية، أي أن الروس “نجحوا” في جعل مدينة كانط نقيضا، بسلاحها النووي، لسلامه الأبدي! وقد نشطوا أخيرا في ترويج الأباطيل زاعمين اعتزام ليثوانيا غلق سكك الحديد ومطالبين بالاستباق وأخذ ممر سوفالكي الليثواني المتاخم لبولندا بالقوة، تماما كما هم يفعلون الآن في أوكرانيا حيث يسعون، في معركة ماريوبول، إلى الوصل البري بين القرم ودومباس
٭ كاتب تونسي
مقال رائع ? شكرا لكم…
شكرًا أخي مالك التربكي. لكن تخلل هذه ال ٧٦ سنة من الهدنة أيضًا أحداث إن لم تكن حروبًا بالمعنى التقليدي بين جيشين، كمذابح الصرب في البوسنة، أليست هذه أوربا أيضًا! الهدنة كانت في أوربا الغربية وفقط! ومازالت أيضًا والفارق يكمن في أنظمة القمع والتسلط والإستبداد والدكتاتورية التي يمثل بوتين رأسها اليوم!
“.. والذي تحققت به أطول فترة أمن أممي على الإطلاق .. ” العراق، رواندا ، الصومال، افغانستان ، الشيشان .. عبارة اممي هنا مع هذه الحروب يشوبها استفهام .. استاذ مالك.
مقال جد مفيد .. شكرا