الخرطوم ـ «القدس العربي»: كانت نشأتها الأولى كمزار ديني، تجمع فيه طلاب العلم الشرعي ومريدي الشيخ محمد الأمين ولد مدني، الذي اتخذ منها مقاما في العام 1489 فسميت على اسمه واد مدني، واستمر الأمر كذلك حتى نهاية الاحتلال البريطاني، حيث سرى عليها اسم ود مدني والتي تختصر أحيانا بمدني، وتسمى أيضا جزيرة الشيخ لجهة أن الشيخ مالك أبو روف الرفاعي- رجل دين آخر- عاش في القرن التاسع عشر، وكان لديه مريدون في وسط السودان ومناطق أخرى.
وعلى ضفاف النيل الأزرق الغربية، بارتفاع 409 أمتار فوق سطح البحر تقع مدينة ود مدني التي تتوسط السودان، وتربط عاصمته الخرطوم عبر شبكة من الطرق بأنحاء البلاد المختلفة.
وفي محيط قبة واد مدني بدأت تتشكل أحياء المدينة، والتي كان أولها حي المدنيين الذي تجمع فيه المريدون وسرعان ما تمددت وتكاثر سكانها، فأصبحت إلى جانب كونها مزارا دينيا، مركزا مزدهرا للصناعة والتجارة.
اشتهر أهلها تاريخيا، بصناعة المراكب والأسرة التقليدية «العناقريب» ودباغة الجلود، لاحقا شهد القطاع الصناعي تطورا كبيرا، حيث برزت مصانع الغزل والنسيج والصناعات الغذائية والكيميائية. كما ذاعت كمركز تجاري هام، حيث تربط العاصمة الخرطوم وميناء بورتسودان بأنحاء السودان المختلفة عبر شبكة من الطرق التي جعلتها وجهة للتجار والحرفيين.
وتلتقي عندها عدة طرق برية هامة، بداية بالطريق الذي يربطها بالعاصمة الخرطوم، الذي يبلغ طوله حوالي 184 كيلو مترا وصولا إلى الطريق الرئيسي الذي يربطها بشرق السودان، عبر مدينتي القضارف وكسلا وميناء سواكن إلى ميناء بورتسودان المطل على البحر الأحمر بمسافة قدرها حوالي 950 كيلو مترا والذي يعد من أهم وأطول الطرق في السودان.
وكذلك يمتد طريق آخر من مدني إلى مدينة سنار جنوبا بطول 110 كيلو مترات. فضلا عن شبكة الطرق التي تربطها بمدن ولاية الجزيرة الأخرى بما يشمل مدن المناقل ورفاعة والحصاحيصا الذي يعود مرة أخرى إلى الخرطوم.
مشروع الجزيرة
في العام 1900 اتخذ الاحتلال البريطاني مدني عاصمة لمديرية النيل الأزرق، قبل أن تصبح عاصمة لمديرية الجزيرة، حيث أنشئت خطوط السكة حديد ورئاسة الحكومة بالإضافة إلى مستشفى عسكري. بعدها في العام 1925 انطلق مشروع الجزيرة الذي يعد أكبر مشروع مروي في أفريقيا وأكبر مزرعة ذات إدارة موحدة في العالم، تتجاوز مساحته مليوني فدان.
وكان يمد مشروع الجزيرة المصانع البريطانية بالقطن الخام، خلال فترة الاحتلال. في الأثناء تصاعدت المقاومة الشعبية. وشارك مزارعو الجزيرة في الحراك الشعبي والاضرابات التي طالبت بحق تقرير مصير السودان.
في العام 1950 تم تأميم وسودنة مشروع الجزيرة الذي مثل ركيزة اقتصادية أساسية لنهوض السودان بعد استقلاله في العام 1956 لاحقا تمت توسعة المشروع ليشمل بالإضافة إلى القطن محاصيل القمح والذرة وزهرة عباد الشمس فضلا عن الخضروات والأعلاف، ما عزز الاستثمار في الصناعات الزراعية مثل الغزل والنسيج ومطاحن الغلال وصناعة الزيوت وتصنيع الأغذية والجلود والمعامل التي تعمل في خدمات التعبئة والتغليف.
مدينة الفن والثقافة
فضلا عن دورها الاقتصادي والسياسي البارز، ضجت ود مدني ثقافيا وفنيا لعقود، وخرج من رحمها العديد من النجوم الذين أثروا الساحة الفنية في البلاد، أبرزهم أستاذ الأغنية السودانية محمد الأمين الشهير بـ«الباشكاتب» الذي جمعت أغانيه الأجيال المتعاقبة طوال ستة عقود غنى فيها للحب والثورة والوطن. وضاعف رحيله المفاجئ في 12 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي مرارات الشعب السوداني المكلوم بالحرب. ومن نجوم ود مدني العتاة أيضا ابراهيم الكاشف والخير عثمان وعلي المساح وغيرهم من المبدعين.
بعد اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منتصف نيسان/ابريل الماضي، أصبحت ود مدني ملاذا آمنا لملايين النازحين الفارين من الحرب المندلعة في العاصمة الخرطوم ومدن أخرى. كما انتقلت إليها المنظمات الإنسانية والمستشفيات والخدمات الطبية، التي تقدم الرعاية الصحية لمئات الآلاف من المرضى الذين نزحوا من مختلف ولايات السودان، بمن فيهم جرحى ومصابو الحرب والمرضى بأقسام العناية المركزة. لاحقا نقل العديد من المستثمرون ورجال الأعمال أعمالهم إلى هناك في ظل الحراك النشط الذي تشهده المدينة.
حريق الحرب
إلا أن حريق الحرب سرعان ما التهم ود مدني درة خاتم السودان، حيث أعلنت قوات الدعم السريع في 18 كانون الأول/ديسمبر سيطرتها على المدينة بعد أربعة أيام من المعارك المتواصلة على تخومها، وذلك بعد انسحاب مفاجئ لقوات الجيش.
وفي اليوم التالي أكد الجيش السوداني أن قواته انسحبت من المدينة وأنه يجري تحقيقا حول الأسباب والملابسات التي أدت إلى انسحاب قواته من مواقعها. بعدها تصاعدت نداءات الإستغاثة في ظل الأوضاع المأساوية التي تشهدها مدينة ود مدني التي تحولت إلى خراب بين ليلة وضحاها. بينما تواصل قوات الدعم السريع التوغل في مدن ولاية الجزيرة الأخرى.
وقالت لجان المقاومة إن قوات الجيش انسحبت بناء على تعليمات قيادتها، تاركة المدنيين في مواجهة قوات الدعم السريع التي اتهمتها بانتهاك الأعراض وقتل ونهب وترويع المدنيين.
وفيما نددت اللجان بانتهاكات قالت أنها طالت أعراض سكان مدينة ود مدني، في إشارة إلى حدوث إغتصابات وأحداث عنف جنسي، إلا أنها لم تعلن أي إحصاءات بالخصوص.
وحذرت نقابة الأطباء السودانيين من أن اتساع رقعة الحرب وتمددها إلى مدينة ود مدني يضع البلاد أمام واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في ظل الحرب الراهنة. ولفتت إلى أن مدينة ود مدني بعد اندلاع الحرب في الخرطوم ومدن أخرى أصبحت ملاذًا آمنًا لمرضى القلب والسرطان والكلى والحالات الطبية المستعصية، الذين يواجهون مصيراً مجهولاً بسبب إغلاق المستشفيات ونقص الدعم الصحي والموارد الطبية ونزوح الأطباء والكوادر الصحية الى خارج مدينة ود مدني.
ولفتت إلى أن أغلب المستشفيات أصبحت خاوية وغير قادرة على تقديم الخدمات الطبية اللازمة حيث تم احتلال مستشفى الجزيرة للطوارئ والإصابات وخرج عن الخدمة وأغلق مركز مدني لأمراض وجراحة القلب بعد أن أصبح مباشرة في مرمى نيران الاشتباكات العسكرية فضلا عن توقف الخدمة في باقي المستشفيات التخصصية. وأضافت: تزداد الأمور تعقيدا بإغلاق الصيدليات ونقل الأدوية التجارية خارج ود مدني.
وبينما فر سكان ود مدني والنازحون سيرا على الأقدام لساعات طويلة، في مشهد قاتم، نبهت نقابة الأطباء إلى أن السودان يشهد حركة واسعة النطاق للنازحين سعيا لمأوى آمن دون توفر أي شكل من أشكال الحماية والدعم الإنساني، والتي اعتبرتها الأمم المتحدة أكبر أزمة نزوح في العالم.
ووجهت عدد من المنظمات والمجموعات الحقوقية نداء عاجلاً لإنقاذ أطفال دار الأيتام (المايقوما) الذين تم ترحيلهم من الخرطوم إلى مدني. وأبدت خوفها من أنهم في مرمى النيران، حيث يوجد251 طفلاً و91 من الأمهات البديلات العاملات في الدار، جميعهم في وضع خطير ويحتاجون إلى مساعدة فورية. وكذلك توالت نداءات الإستغاثة من أجل إجلاء العشرات من فاقدي البصر العالقين في دارهم منذ تفجر الأوضاع في ود مدني وسط حالة من الهلع.
ونددت لجان المقاومة في ود مدني بعدم التزام الدعم السريع بتعهداتها الخاصة بعدم الإعتداء على المدنيين، متهمة إياها بالقيام بعمليات ترهيب ونهب وسلب المواطنين بالتركيز على (الذهب،المال، السيارات) مشيرة إلى أنه في حال عدم التعاون معهم يتم تهديد المواطنين بهتك الأعراض.
واستيلاء قوات الدعم السريع على مدينة ود مدني التي تعد من أكبر المدن السودانية وأقربها إلى العاصمة الخرطوم، كما أنها منفذ هام للولايات شرق وجنوب السودان، يعني انتقال المعارك في السودان إلى مرحلة جديدة أكثر تعقيدا.