عندما نزلنا من الباخرة التي تربط بين مدينة طنجة ومدينة طريفة، عادت إلى الذهن الكثير من الذكريات المليئة بالدهشة والانبهار، وكذا عاد بي الحلول بهذه المدينة إلى الوراء، حيث يتبدى تاريخ الأجداد في معالم المكان، كما يعود بك بعيداً إلى أزمنة قديمة. فتتصور كيف أمكن لأولئك الأجداد أن يقتحموا هذا العباب وهذا البوغاز العميق؟ وكيف ارتقوا هذه الجبال وهذه التلال، التي بدت لي صعبة الارتقاء؟
مدينة «طريفة» كانت باب المجهول الذي لم يُقتحَم قبلُ من وراء البحار. هي أول مكان لمسته قدمُ الإنسان العربي المسلم، الطامح إلى اكتناه الأسرار العذرية في الجزائر البعيدة. في هذه المدينة الوديعة، نزلَ شاب عربي اسمه «طريف» ليقرع باب ذلك المجهول، ويفتحَه على مصراعيه لتنفذَ منه أجمل نسائم الحضارة العربية، وَتُضَمِّخَ كلَّ ركن في الأندلس. فأين موطئ قدمك يا طريف على شاطئ هذه المدينة لأطبع على أديمه قبلةَ حب وإكبار؟ أنت الذي عبَّدْتَ الطريقَ لطارق بن زياد. فالمجد لك والمجد لطارق الذي علم العالم كيف ينبغي أن تتخذ القرارات الحاسمة في اللحظات التاريخية الدقيقة.
وأنت تعبر البوغاز بحذاء جبل طارق، ستذكر حتما تلك الأبيات التي جاشت بها نفسه أثناء العبور:
ركبنا سفينا بالمجازمعبرا عسى أن يكون الله منا قد اشترى
نفوسا وأموالا وأهلا بجنة إذا ما اشتهينا الشيء فيها تيسَّـــرا
ولابد أن تتذكر أيضا كلمته الشهيرة: «أيها الناس أين المفر؟ البحر وراءكم، والعدو أمامكم».
لقد أعطى هذا القائد للعالم أروعَ أمثلة الإقدام والشجاعة في اقتحام المجهول، والتصميم على التضحية من أجل الغايات الكبيرة النبيلة، والإيمان العميق بالرسالة الحضارية، حين أحرق سفنه، وتوغل داخل أرض مجهولة ينشر فيها ظلال حضارة أمته الوارفة آنذاك.
أتصور ان كلَّ الزهور، وكلَّ أشجار النخيل والنارنج والصنوبر والزيتون، التي تتزين بها الحقولُ والحدائق في أندلس اليوم، إنما زرعت فسائلها أناملُ عربية، بل كل نبتةٍ أو غرسٍ في الأصص العَطرة التي تزين شرفات البيوت الأندلسية، هي من صنيع الأنامل المبدعة التي كانت كلما لمستْ بقعةً من رخام، أو مساحة في جدار إلا وأصبح هذا كله يموج بالجمال وسحر الإبداع.
«طريفة» اليوم التي اجتزتها في رحلتي في الدخول إلى الديار الإسبانية والعودة عبر مينائها الجميل، مدينة صغيرة، وديعة، يحضنها البحر بحنان، تمتلئ شرفاتُ بيوتها بآلاف الأصص المزهرة، وتتسلق جدرانَها أشجارُ الياسمين، ويعبقُ في شوارعِها عبيرٌ فاغم، لكن أجمل نسمةٍ تسللتْ إلى كل مسامي، وتغلغلت في كل خلية من جسدي بها، هي نفحةٌ عطرة من رداءِ طريف وزياد، ما زالت تتجول في شوارع هذه المدينة.
تذكرت وأنا في طريقي عبر الحافلة رفقة زوجتي في اتجاه «الجزيرة الخضراء»، مدينة إشبيليا، ونهر الوادي الكبير، الذي يحضن خصرها الأندلسي الرخص، ولياليها الساهرة في عز الصيف، والصومعة الذهبية المطلة على مويجات النهر يصل إليها منه رذاذُه المنعش. تذكرت ذلك كله، والشوق جارف إلى جلسة مع المعتمد بن عباد، على هضبة مطلة على الوادي الكبير. إشبيليا يا أيتها الصبية الحسناء، ومن مثلك جمالاً وزينةً في الصبايا؟ فأنتِ تتزينين بأجمل الحلي العربية، وأكثرِها روعةً وجمالاَ: «لاخيرالدا» تلك الحلية النادرة التي يحق لها أن تزهو بها على أجمل مدائن الدنيا.
تذكرت في طريقي بالحافلة في اتجاه مدينة «مالقا»، إشبيليا، بل وكل مدن الأندلس التي زرتها سابقاً، غرناطة ـ قرطبة… وعادت بي الذكرى إلى التاريخ العربي المجيد وحضارتنا العربية الإسلامية، التي كانت ذات شأن. وأثناء هذه الذكرى سيغمرك شعور أخذ يصير غريبا عنك في هذا الزمن العربي الرديء، الذي لا يذوق فيه المرء سوى مرارات الهزيمة والإحباط. لقد رأيت في زياراتك للديار الأندلسية، سواء في غرناطة وأنت داخل أبهاء «قصر الحمراء» وردهاته، أو أمام جدرانه الناطقة، ومياه أحواضه الدافقة، أو في قرطبة، وأنت داخل مسجدها الأعظم، وأمام منبره وتحت أقواسه المخططة، رأيت هنالك أمة التقدم التكنولوجي منبهرة مشدوهة أمام إبداع الإنسان العربي الخالد. هذه العودة بذاكرتك إلى بعض لحظات التاريخ، تبعدك عن الالتفات إلى مظاهر جميلة منبثة هنا وهناك، في هذا الفضاء الجميل المؤثث بحذق أنامل فنان. أجمل هذه المظاهر التي تجتذبك من انغماسك في أغوار الماضي، لتجعلك وجها لوجه إزاء حاضر جميل، لكن هذه المرة من صنع يد الإنسان الإسباني، هي انتشار الحدائق والساحات العمومية الكبرى التي تلقي بظلال أشجارها على الممرات المنسقة، والمقاعد المريحة لتستقبل العابرين، وتقدم إليهم لحظة ظليلة، منعشة، مغمورة برائحة الريحان ورذاذ المياه المنبجسة من نافورة قريبة. تكاد توجد في كل المدن الإسبانية اليوم بفضل هيكلتها الجديدة والمتجددة، بين كل ساحة عمومية وأخرى، ساحة عمومية ثالثة أعدت لتجميل المدينة، وتوسيع ساحاتها لتحس النفس بالارتياح والانطلاق، ولتكون ملاذا ظليلا للسابلة والعابرين المجهدين، خاصة في أيام الصيف الحارة. هنا تحس بأن هناك تفكيرا في المواطن وسهرا على راحته.
في هذه الزيارة للديار الأندلسية، حصل ما لم يكن في حسباننا. كنا نتجول في ظهيرة مشمسة على كورنيش شاطئ مدينة «ماربيا»، والمقاهي المطلة عليه أو على الشاطئ مكتظة بالناس من العديد من الأجناس، راعني منظر فتى جميل الطلعة، يتأبط ذراع فتاة لا شك في حسنها، وإن كانت تغطي محياها بحجاب لا تبدو منه إلا عيناها الباديتا الجمال. كانا الشخصين الوحيدين اللذين يلبسان لباساً غريبا، جميل المنظر مزركشاً وبجوانبه «سفائف» مطرزة بخيوط ذهبية. وقد ارتدى الفتى عمامة ذات لون أصفر زاه. فعجبنا أيما عجب لمنظرهما، والحال أن الناس في هذا اليوم المشمسة جلهم متخففون من الملابس، وبعضهم يلبس لباس السباحة ذكوراً وإناثاً، شيبة وشباباً. تعجبتُ أيما تعجب ورفيقتي من شأنهما. ورغم أن الناس هنا لا يأبهون بمنظر الآخرين وأشكال ملابسهم بالنظر إلى إيمانهم إيماناً راسخاً بالحرية الشخصية، إلا أن منظرهما الغريبَ استرعى نظر بعضهم للحظات. أعتقد أننا ـ نحن ـ كنا من أشد المهتمين بهذين الشخصين غريبي المظهر وهما على كورنيش مدينة الجمال «ماربيا». فتجاسرتُ واقتربت منهما، بل سرت بجانبهما وهما لا يشعران، لعلي ألتقط ما يدور بينهما من حديث قد يكون غريباً مثل لباسهما، فإذا بي يصل إلى مسمعي شعر أندلسي رقيق ينفذ إلى الشغاف. قال الفتى بصوت خافت عذب مخاطباً رفيقته الحسناء :
يا غزالاً جُمِعَتْ فيه ـ منَ الحُسنِ فُنونُ / أنتَ في القربِ وفي البعدِ ـ من النفسِ ـ مكينُ / بهواكَ الدَّهْرَ ألهو، وبِحُبيكَ أَدينُ / مُنْيةَ الصبِّ : أغِثْني .. قدْ دَنَتْ مني المَنُونُ / وَاحْفَظِ العهدَ، فإِنِّي .. لستُ ـ واللهِ أخُونُ/ وارحَمَنْ صباًّ شجياً.. قدْ أذابتهُ الشُّجُونُ/ ليلهُ همٌّ وغَمٌّ .. وسقامٌ وأنينُ/ شفَّهُ الحُبُّ فأَمْسَى.. سَقَماً لا يسْتَبينُ/ صارَ للأشْواقِ نهْبَاً.. فَنَبَتْ عَنْهُ العُيُونُ. فاضطربت الفتاةُ وخشيتْ أنْ يسمع المارة والجالسونَ على كراسي المقاهي هذا الغزل المفعم بمشاعر الحب المبرح المشبوب، وأبدت حركاتٍ تنم عما أحسَّتْ به من خَجَل، وقد «كانتْ من الأدب والظرفِ وتنعيم ِ السمعِ والطرفِ بحيث ُتَخْتَلِسُ القلوب والألباب وتعيدُ الشيبَ إلى أخلاق الشباب» (ابن خلكان)، لكنه لم يَرْعَوِ ـ شأنَ زميله القديم عمر بن أبي ربيعة ـ فأردف يقول شاكياً ما كانت تفعله به حبيبته وملهمته بصدودها ودلالها وجمالها، قبل أن يدبرا معاً أمر فرارهما من قصر أبي الحزم بن جهور الذي تولى حكم قرطبة سنة 422 هـ:
كمْ ذا أريدُ ولا أرادُ .. يا سُوءَ ما لقيَ الفؤادُ
أُصْفِي الوِداد َمدَلَّلاً .. لمْ يصْفُ لي مِنْهُ الوِدَادُ
يقَضِي عليَّ دَلالُهُ .. في كُلِّ حينِ ـ أوْ يَكادُ
كيفَ السُّلُوُّ عن الذي .. مثْواهُ من قلبي السوادُ؟
ملكَ القلوبَ بحسنهِ .. فَلَها إذا أَمرَ انقيــــادُ
ياهاجِري كَمْ أَسْتفيدُ الصَّبْرَ عَنكَ فلَاَ أُفَادُ
ألا رَثَيتَ لِمَنْ يبيتُ وحَشْوُ مُقْلَتِهِ السُّهَادُ؟
فعرفتُ أنهما العشيقان الشهيران الشاعر الوزير الطموح ابن زيدون، وولادة بنتُ المستكفي الأميرة الحسناء سليلة البيت الأموي الكريم، الشاعرة التي يقول فيها ابن بسَّام «وأما ذكاء خاطرها وحرارةُ نوادرها فآيةٌ من آياتِ فاطِرها». وبدون أن أتجاسر على سؤالهما عن سفرهما ومجيئهما للسياحة في مدينة ماربيا وشاطئها الجميل والاستمتاع بشمسه الدافئة، أدركت أنهما هربا من عيون العذال وقهر المتزمتين من أهلهما، وفراراً من التعرض إلى السجن الذي قضى فيه الشاعر الوزير خمسين يوما بسبب دسائس ووشايات الحساد، ناشديْن في هذه المدينة: الحرية والانطلاق والانعتاق من التقاليد وحضور الآخر الصارم الذي يخنق أنفاس الأحرار والعاشقين.
أما أنا، فكنت موزع النفس بين التاريخ العربي المجيد الغابر، والتاريخ العربي الراهن القاتم، مثقلا بهموم الوطن وهموم الإنسان العربي، ألتحم بالشعر وبالتاريخ المكتوبين على صفحة ساحة «لوس نارانخوس» بقلب المدينة، والمنقوشين في كل جدران وأزقة الأندلس. أبحث عن لحظة ظليلة مغمورة بالصفاء والجمال والحرية والفرح البريء.
* ناقد وشاعر من المغرب
Andalucia,it is the Paradise on Earth