في كتابه الجديد بعنوان «السكين: تأملات بعد محاولة قتل» يتحرر الكاتب البريطاني سلمان رشدي من النهج التقليدي لأدب المذكرات والسيرة الذاتية، التي عادة ما يستهلها المؤلفون بمقدمات تتضمن في جل الأوقات تفاصيل شخصية وخلفيات تاريخية ووقائع ماضية وتوفير السياقات والمعلومات الأساسية عن تجارب حياتية ممهدة للأحداث التي يرغبون في عرضها. وقد تتضمن أيضا الدوافع والأغراض، إضافة إلى ذكر التحديات والعقبات التي تكون قد اعترضت سبيلهم وهم يسعون لنشر تفاصيل تجاربهم وتوثيق ذكرياتهم.
بخلاف ذلك تماما، نرى رشدي يستهل مذكراته منذ الأسطر الأولى مباشرة بسرد حي مؤثر لمحاولة الاغتيال التي تعرَّض لها في نيويورك عام 2022. نراه يغوص في جوانب تحليلية للحدث بدقة مذهلة وتفاصيل مثيرة: «في الساعة الحادية عشرة والربع يوم 12 أغسطس/آب 2022، وفي صباح يومِ جمعةٍ مشمسٍ في شمال ولاية نيويورك، تعرضت لاعتداء كدتُ أن أفقد فيه حياتي بعدما هاجمني شاب بسكين عند صعودي على خشبة المسرح في مدرج تشوتوكوا للحديث عن أهمية حماية الكُتاب من الأذى».
لا مكان آمن للمفكرين الأحرار
يأتي حادث الطعن هذا بعد عقود من التهديدات، أجبرت سلمان رشدي على الاختباء لحقبة طويلة. بدأ المسلسل الدرامي في عام 1988 بعد نشره كتابه المثير للجدل «الآيات الشيطانية» ما دفع الزعيم الإيراني آية الله الخميني إلى إصدار فتوى تدعو إلى قتله في يوم 14 فبراير/شباط 1989. كان من نتائج التهديدات الحتمية اضطرار رشدي إلى أخذ كل الاحتياطات الأمنية والابتعاد عن الجماهير والاختفاء عن الأنظار، لكنها لم تستطع أن تصده عن مواصلة مشواره الأدبي. ففي العام الموالي 1990، نشر كتابا جديدا بعنوان «هارون وبحر القصص» ويندرج ضمن أدب الأطفال. وفي عام 1991، أصدر كتاب «أوطان خيالية» وهو مجموعة من المقالات والنقد. وبعد ذلك، نشر مجموعة قصصية بعنوان «شرق، غرب» (1994)؛ ثم رواية «تنهيدة المور الأخيرة» (1995).
بقيت الفتوى قائمة لسنوات طويلة. وفي عام 1998، بعد مرور ما يناهز عقدا من الزمن وبعد ضغوطات دولية كبيرة، سحبت الحكومة الإيرانية رسمياً دعمها لفتوى قتل رشدي. لكن تأثير قرار التخلي عن الفتوى هذا بدا شكليا، فالمواقف المعادية لرشدي بقيت راسخة في الأذهان، والخطر قائما يتربص به في كل مكان. ولم تسلم من التهديدات والأخطار حتى الأماكن التي كان يُعتقد أنها آمنة مثل معهد تشوتوكوا الذي كان يستعد فيه رشدي لإلقاء كلمة يطلع من خلالها الجماهير الحاضرة عن مشاركته في «مشروع مدينة اللجوء بيتسبرغ» ، وهو مبادرة تهدف إلى توفير مكان آمن لكتاب ومفكرين أحرار يعانون من البطش والاضطهاد في أماكن متفرقة في العالم. لم تُتح لرشدي أبدا فرصة الحديث بعدما تعرض للاعتداء بالسكين، وقد اتضح الآن أنّ المكان الذي خُصِّص للحديث عن الأمن، لم يكن في الواقع مكانا آمنا.
يريده قتيلاً ولا يعرف عن أدبه إلاَّ قليلاً
من الأسئلة التي تتبادر إلى أذهاننا عند شروعنا في قراءة هذا الكتاب: ما مقدار المعلومات الشخصية المتعلقة بالمعتدي التي يوفرها لنا رشدي من خلال مذكراته التي طال انتظرها؟ الجواب المختصر: ليس كثيرا. فمع أن الأمر يتعلق بمذكرات ترتكز أساسا على حادث الاعتداء بالسكين، إلاَّ أن رشدي يحكم على المعتدي بالبقاء مجهول الهوية. رشدي يمضي أبعد من ذلك إلى حد الامتناع عن ذكر اسم المعتدي، إذ نراه يكتفي بالإشارة إليه بالحرف الإنكليزي «أي» ونراه في مواضع متفرقة يشير إليه بألفاظ وعبارات مثل «قاتلي المحتمل» أو «مهاجمي» أو «مسافر عبر الزمن» أو «شبح قاتل من الماضي». فلا يمكننا في واقع الأمر الحصول على معلومات شخصية عن المعتدي وخلفيته، إلاَّ باللجوء إلى مصادر أخرى متعددة أشارت إلى الحادث بتفصيل على منوال المواقع الإخبارية ووسائل الإعلام والتصريحات الصحافية والتحليلات الأكاديمية. عندئذ ندرك أنّ المعتدي، الذي تم الكشف عن هويته بعد إلقاء القبض عليه، يدعى هادي مطر، يبلغ من العمر 24 عاما، من فيرفيو، نيوجرسي. وحسب بعض التقارير، فإن تحقيقا أوليا لنشاطاته في مواقع التواصل، كشف عن تعاطفه مع التطرف الشيعي والحرس الثوري الإسلامي الإيراني. بدلا من ذلك، يركز رشدي في مذكراته على سلوك المعتدي والقصد الجرمي. فالمعتدي كان يعرف مكان رشدي، بل كان حاضرا إلى جواره، يتربص به، ينتظر الفرصة المواتية للانقضاء عليه وطعنه وتحقيق ما لم يستطع أن يحققه أحد خلال عقود من الزمن، «كان حاضرا في المكان لبضع ليالٍ، يتجول، وينام في العراء، وكان يقوم بفحص المكان تحضيرا للهجوم الذي كان يعتزم القيام به، ورسم خطته». من المفارقات العجيبة أن مطر اجتهد للوصول إلى رشدي وخطط لقتله، وهو في الواقع لا يعلم شيئا يذكر عن أدبه. كان الدافع إلى الضغينة ومحاولة الاغتيال الفتوى التي أصدرها آية الله روح الله الخميني عام 1989 بعد صدور كتاب «الآيات الشيطانية» التي يبقى أثرها راسخا في نفوس كثيرين، رغم الإلغاء الرسمي. يقول رشدي عن المعتدي: «مثلما جاء على لسانه، لم يقرأ سوى صفحتين مما كتبته ولم يشاهد إلاَّ مقطعي فيديو لي على اليوتيوب، وهذا كل ما كان يحتاجه (لسعيه لقتلي)».
موقف رشدي من الإيمان والأديان
اللافت للانتباه في مذكرات رشدي الجديدة، اعترافه الصريح والجريء بعدم اقتناعه بأي شكل من أشكال العقيدة الدينية، وعدم إيمانه بالدين المنظم، ورفضه كل ما كان غير مرئي، أو افتقر إلى أدلة واقعية يقبلها العقل والمنطق. يقول في هذا السياق، «سأعبر هنا، للمرة الأخيرة، عن وجهة نظري في الدين ـ أي دين كان، وكل الأديان. فإني، عن نفسي، لا أؤمن بالأشياء التي لا ترى. أنا لست متدينا وقد نشأت في عائلة جل أفرادها من غير المتدينين». ومع إقراره بعدم حاجته إلى الدين في حياته، يعبّر رشدي عن إدراكه اهتمام البشر من حوله بالأديان وتقديره أهمية المعتقدات في حياتهم، «لم أشعر قط بالحاجة إلى الإيمان الديني لمساعدتي على فهم العالم والتعامل معه. ومع ذلك، فأنا أفهم أنّ بالنسبة لكثير من البشر، يعدّ الدين ركيزة أخلاقية ويبدو شيئا ضروريا». وفي هذه المذكرات، نرى رشدي يؤكد الطبيعة الذاتية للإيمان، داعيا إلى احترام خصوصية المعتقدات الشخصية. يقول رشدي، «ومن وجهة نظري، فإن إيمان الفرد لا يخص أحدا عدا الفرد نفسه». ويؤكد أنه لا يرى مشكلة في الدين إن لم يخرج عن إطار المعتقد الشخصي، ولم يسع الفرد إلى فرضه على الآخرين.
منظور متوازن حول التطرف الديني
أحد أسباب الموقف العدائي تجاه رشدي في العالم العربي والإسلامي الإيمان بأنه مناهض للإسلام، ما يدعونا إلى التساؤل عما إذا كانت كتاباته تنزع على وجه التحديد إلى مهاجمة الدين الإسلامي دون غيره. نلمح ردا على السؤال في مذكراته الجديدة التي تعكس نظرة متوازنة إلى التطرف في كل الأديان. وإننا إن فحصنا كتاباته السابقة، ومن جملتها مقالاته، وجدنا فيها ما يدعم هذا التوجه. نرى رشدي ثائرا على كل المعتقدات، منتقدا كل أشكال التعصب والتطرف فيها. ولا نراه بالضرورة يعيب دينا دون آخر، أو يدعم دينا على حساب آخر، أو يفضل أحدا على الآخر.
وفي مذكراته الجديدة بالتحديد، نراه يحذِّر من خطر تسييس الدين وتسليح المعتقد وما قد ينجر عن ذلك من سلبيات وأضرار. فالمشكلة ليست في الدين وإنما في المتدينين. فالدين يمسي مشكلة، حينما يعتقد المؤمن أنه يملك الباقين، ويسعى لفرض معتقده على الآخرين، والإساءة إلى غير المؤمنين. نراه – في نظرته المتوازنة للأديان – ينتقد استخدام المسيحية في الولايات المتحدة لتبرير أجندة سياسية، ما أدّى إلى «استمرار معركة الإجهاض وحق المرأة في الاختيار». وبالمثل ينتقد استغلال القيادة الهندية الحالية التطرف الهندوسي في الهند، ما آل بهذا البلد إلى «مزيد من الاضطرابات الطائفية وحتى العنف» وبشكل مواز، نراه ينتقد التطرف الإسلامي الذي أدى إلى قيام أنظمة رجعية مثل طالبان وآيات الله، والهجوم بالسكين على نجيب محفوظ، والاعتداء على الفكر الحر واضطهاد المرأة في العديد من الدول الإسلامية.
الآيات الشيطانية بمنظور مختلف
ما يشد انتباهنا أخيرا في مذكرات سلمان رشدي روحه القتالية ورغبته القوية في الصمود ورفع التحدي ومواصلة المشوار الأدبي والفكري، على الرغم من كل التهديدات والأخطار. وفي تحدٍ لأولئك الذين يتهجمون على أعماله، لاسيما كتاب «الآيات الشيطانية» يقول رشدي بصراحة وجرأة، «اسمحوا لي أن أقول هذا بشكل صريح: أنا فخور بكل الأعمال التي أنجزتها، والتي تتضمن بشكل خاص «الآيات الشيطانية» ويؤكد أنّ من فوائد مرور الزمن زيادة عدد القراء الشباب الذين يحسنون التعامل مع رواية «الآيات الشيطانية». ينظر هؤلاء إلى هذا الكتاب على أنه مجرد رواية قديمة وليس صنفا من أصناف العقيدة أو اللاهوت.
وخلاصة القول، كتاب «السكين: تأملات بعد محاولة قتل» ليس مجرد سرد لحدث خطير مؤثر في حياة المؤلف، بل هي تذكير بالتحديات التي يواجهها الأدباء والمثقفون والمفكرون الأحرار في عالمٍ مليء بالجهل والتعصب والقمع والاضطهاد. والكِتاب تذكيرٌ أيضا بأنّ أسلوب التهديد والعنف لن يفلح في قتل حرية التعبير، أو كسر إرادة المثقف ورغبته في محاربة التخلف والسعي للإصلاح وإحداث التغيير. وعلى الرغم من التأثير الهائل للاعتداء بالسكين والتحديات التي واجهها أثناء تعافيه، يظل رشدي صامدا، مصمما على مواصلة المشوار، مذكّرا العالم بأهمية الدفاع عن حرية الفكر والتعبير في مواجهة الشدائد. كتاب «السكين» ليس مجرد مذكرات شخصية، بل رسالة أمل وتحد وصمود في وجه الظلامية والتطرف.
كاتب جزائري