توفيق رباحي
مقولة أن الحقيقة هي أول ضحايا الحرب قد تنطبق على كل الحروب إلا التي تخوضها إسرائيل.
في حروب إسرائيل، الأخلاق هي الضحية الأولى، والمروءة والقيم الإنسانية.
وعندما تقضي الحروب على الإنسانية والقيم والمروءة، يصبح الحديث عن الحقيقة مجرد لغو.
هذا هو حال الحرب الحالية على غزة. اللوم هنا ليس على إسرائيل، فهي طرف في الحرب وجرائمها الوحشية تُحتّم عليها الدفاع عن نفسها بالكذب أولا وأخيرا.
المشكلة أن قاتلي الأخلاق والمروءة في حروب إسرائيل غربيون بعيدون عنها آلاف الكيلومترات، لكنها تسكنهم في الأعماق لتجعل منهم عبيدا.
أنصح بمتابعة جانب من تغطية الإعلام المرئي في الدول الغربية، خصوصا الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا (أتوقّع أن ألمانيا أسوأ من الكل لكنها خارج دائرة إلمامي باللغة) ليأخذ فكرة عن فداحة الأمر.
أكثر الذين فقدوا كرامتهم اليوم، مذيعو النقاشات التلفزيونية وشركاؤهم في الحديث الذين يُفترض أنهم يقدّمون أفكارا إضافية ويُـثرون النقاش، سياسيا كان أو ترفيهيا (وجود من يسمى chroniqueur طريقة فرنسية في النقاشات التلفزيونية أكثر منها بريطانية أو أمريكية).
هناك مواقف كثيرة صارخة من المفروض أن تجعل أصحابها يشعرون بالعار.
المطرب الفرنسي (من يهود الجزائر) أنريكو ماسياس، دعا في نقاش على قناة «سي نيوز» الموالية لإسرائيل وله (زيتنا في دقيقنا) إلى «محو» اليساريين الفرنسيين من حزب «فرنسا الأبية» بقيادة جون لوك ميلونشون.
ـ المذيع مقاطعا: تقصد محوهم سياسيا؟
ـ أنريكو: لا، أقصد محوهم.
ـ المذيع: يعني ااا.. انتخابيا؟
ـ أنريكو: حتى بدنيا.
يرتبك الحاضرون ويبلع كلٌّ منهم لسانه ولا يعرف أحد ماذا يجب أن يقول أو يفعل.
يحاول المذيع استدراك الموقف متلعثما: أرجوك أنريكو، دعنا لا نقل هذا الكلام. أاا.. أنا أسحب هذه الجملة التي أعرف أنك لم تقصدها.. إلخ.
إذا لم يكن ما قاله أنريكو ماسياس إرهابا، فما هو الإرهاب؟
وإذا لم يكن تلعثم المذيع والحاضرين ذلا إنسانيا وإعلاميا، فما هو ذلّ الإنسان والمذيع؟
للعلم، ميلونشون ليس قاطع طريق أو زعيم ميليشيا انفصالية أو صديقا لأسامة بن لادن. هو سياسي صاحب باع طويل يقود حزبا له قرابة 80 مقعدا في الجمعية الوطنية (البرلمان) وتيارا سياسيا ضاربا في النسيج السياسي والاجتماعي في فرنسا.
أكثر الذين فقدوا كرامتهم اليوم، مذيعو النقاشات التلفزيونية وشركاؤهم في الحديث الذين يُفترض أنهم يقدّمون أفكارا إضافية ويُـثرون النقاش، سياسيا كان أو ترفيهيا
لو أن أحدا غير أنريكو تفوّه بذلك الكلام في استوديو تلفزيوني بحق شخصية سياسية فرنسية نافذة، لعُلّقت له المشانق في ساحات فرنسا.
لنقلب الصورة ونتخيّل مصير ميلونشون لو أنه قال الكلام نفسه عن أنريكو ماسياس بما يمثله من رمزية عرقية ودينية.
في نقاش آخر في يوم آخر على القناة ذاتها والمذيع ذاته. أحد الضيوف بيار كونيسا، وهو مسؤول متقاعد من وزارة الدفاع الفرنسية.
ينجح كونيسا في توجيه النقاش نحو التطهير العرقي الذي تمارسه إسرائيل من خلال دعوتها سكان شمال قطاع غزة للنزوح إلى جنوبه (فقط لتقصفهم في منتصف الطريق).
ـ كونيسا سائلا: ألا يجب أن تسمي هذا تطهيرا عرقيا؟
ـ أحد الحضور: عموما، هم لا يزالون في بيوتهم.
ـ كونيسا: عندما تطلب أذربيجان من الأرمنيين النزوح تسمونه تطهيرا عرقيا.
ـ ضيف آخر متواطئ في النقاش: لكن إسرائيل تطلب ترحيلهم لتفادي إصابتهم في القصف.
ـ كونيسا بثقة وهدوء: نعم، هذا هو التطهير العرقي، مثلما تُعرِّفونه في كاراباخ.
بلا جدوى يجتهد المذيع والضيوف المتواطئون معه في إقناع الرجل من خلال ادعاءات واهية عن حرص إسرائيل على المدنيين وتفادي الخسائر بينهم.
أمام حفاظ كونيسا على هدوئه وإصراره على موقفه، يرتبك الجميع بعد أن أطلقوا كل ما لديهم من مسوّغات كاذبة.
في تلك اللحظات السريعة تلتقط الكاميرا نظرات يتبادلها الشركاء في الكذب تقول ما تعجز عنه آلاف الكلمات.
رافق تلك النظرات ثوان معدودة من الصمت المخزي كانت كأنها سنوات من الزمن (5 ثوان من الصمت غير المبرر على الشاشة خطيئة لا تُغتفر في العمل التلفزيوني) أعلن المذيع بعدها الهروب من الحرج بفاصل إعلاني.
في تلفزيون هيئة البث البريطانية (بي بي سي) يتكرر المشهد التالي مرات في اليوم: تستضيف نشرات الأخبار أحد أقارب الرهائن الإسرائيليين لدى حماس. تسأل المذيعة ضيفتها أو ضيفها أسئلة إنسانية والدموع تكاد تنهمر من عينيها. ثم تنتهي المقابلة بتأثر بالغ يحرص كل المذيعين على إبدائه على ملامحهم والتعبير عنه: سيّد فلان، أتفهم جيدا تأثرك وحزنك وأتعاطف معكم. أتمنى أن يعود قريبكم بسرعة سالما معافى.
ثم تستضيف النشرة ذاتها ضيفا يُصنَّف قريبا من الفلسطينيين (نادرا ما يُستضاف فلسطينيون) فتغيب فورا الملامح الحزينة وعبارات التضامن لتحل محلها الحدَّة والاتهامات.
عجيب كيف أن كل الحروب التي خاضها الغرب في منطقتنا خلال العقود الثلاثة الماضية، عرّت المذيعين و«المحللين» قبل الجيوش وأكثر مما فعلت بالسياسيين.
أصبح واضحا أن المذيعين في الحرب الحالية مكلّفون بمهمة. الخبر والتحليل وتنوير الجمهور آخر ما يهمّهم من تلك النقاشات الطويلة والكثيرة. مهمتهم تحويل تلك الاستوديوهات إلى ميادين رماية يمارسون فيها اصطياد مَن يشكك في أكاذيب إسرائيل أو يتعاطف مع سكان غزة. إنهم مجرد وكلاء يزاودون على بعضهم في تسويق الكذب الإسرائيلي وشيطنة مَن يرفضه.
اختبار غزة جعلهم يمارسون الأبارتيد الإعلامي في أبهى صوره حتى أن الصحافة الإسرائيلية بجرائدها وتلفزيوناتها تخجل من أدائهم.
لهذا لا غرابة أن هناك قطيعة هائلة بينهم وبقية العالم. لو كان لهذه الاستوديوهات تأثير يُذكر على الرأي العام، لَما خرج الملايين في العواصم الغربية للتعاطف مع غزة والتنديد بجرائم إسرائيل.
لا يمكن اتهام هؤلاء المذيعين وشركائهم في التدليس بالافتقار للكفاءة. ففي الظروف العادية يُبدعون في إدارة النقاشات وأداء مهامهم، لكن ما أن يتعلق الأمر بإسرائيل وحروبها ينتقلون تلقائيا إلى نسق آخر يُجرّدهم من حريتهم وحتى من إنسانيتهم.
كاتب صحافي جزائري