خطت القصة القصيرة جدا، خطوات هامة، على حافة القص الوامض؛ من خلال تعميق جماليات هذا النوع السردي الصعب. وهو كذلك، لأنه يقوم بتقضيم عناصر السرد من شخوص و أحداث، فضلا عن الإطارات المؤطرة. أقول تقضيم ذلك،ضمن فضاء مضغوط، قد تتداخل مفاصله،ضمن دائرة صغرى واحدة. و الجميل، أنه بالإمكان الآن الحديث عن خصوصيات في هذا النوع من حيث الصوغ و الطريقة. الباعث على هذا الكلام، كتاب « النرجيلة الرقمية» للقاص حسن برطال الذي صدر مؤخرا في المغرب.
تتكون هذه المجموعة من عناوين عديدة (العصير نموذج آخ، رومانسية، النقد الذاتي، بيض الرماد،طقوس مختلفة،حملة السفر، خارج إطار المؤسسة، بين السماء و الأرض…).وهو بذلك يحيط بمفارقات عديدة تنطلق من مداخل الواقع و المرجع في شكل المخيال و الوعي الجمعيين،. لكن سرعان ما توغل تلك المفارقة في المتخيل. وهو ما يفتح المفارقة على التأول،بعد تمثلها كثنائيات ضدية أو متواليات سردية. فهذه الأخيرة تقدم بنفس سردي مضغوط، إلى حد تشكل القصة الواحدة من سطور معدودة ؛ في تحرر من الحشو و الترهل. لهذا أتصور أن كل قصة في هذه المجموعة، هي محاورة بين طرفين، اعتمادا على عين السارد الذي يربط بين المشاهد. فتبدو كل قصة « حبة» واحدة يرمي بها القاص في بركة الوعي و الواقع العربيين، بركة نائمة على المفارقات و أشكال الغرابة في الحياة و الفكر.
تنكتب قصص حسن برطال من خلال علاقة الناس بالأشياء، طبعا ضمن جري العالم. فالقصص تتجدد دلاليا. لكنها تعرض ضمن مربع قصصي صغير، للتأمل و التأول.بهدف استنهاض قدرات القارىء الفكرية و الخيالية، بغية المشاركة في بناء هذه القصص، و بالأخص ما يتعلق بالنهايات الصادمة التي تقتضي الاضافة من لدن قارىء عارف. وهو ما يؤكد أن هذه القصص مجرد تعلات، لإثارة أفكار تقارع و تخلخل التمثلات.. نقرأ في المجموعة قيد النظر، قصة « النقد الذاتي» ص17:
«حول مائدة الإفطار كان يصب اللعنات على المعصرة التي تطحن الزيتون بلا رحمة و فجأة صمت..لقد انتبه إلى فمه الذي يطحن الحبات واحدة تلو الأخرى…»
يبدو أن الكاتب متشبت بنفس الشكل القصير أو السطور إلى حد التأسيس لجملة قصصية خاصة. فالكثير من هذه القصص يمكن قراءتها كجملة واحدة. جملة واحدة زاخرة بمقامات تواصلية و تداولية، فضلا عن الامتاع، من خلال السخرية السارية في تلافيف كل قصة. ؛ إلى حد يمكنك أن تقرأ هذه المجموعة و أنت تضحك. ومن جانب آخر حضور الاقناع، اعتمادا على أساليب من قبيل النفي، و التعريف، و الاستئناف..هنا يجاور الإخبار الحالة المقامية. فتتحول القصة إلى مربع للشد و الجذب. وفي نفس المضمار، فالربط (بأنواعه) أكثر حساسية في شعرية النص (الواو، ل، الأسماء الموصولة…). وكثيرة هي الأعمال السردية التي لا تلفت النظر لأدوات الربط بأنواعه. أعود، فالوعي الدقيق بالربط، يحول الأداة الرابطة إلى لبنة بانية للنص، لأنها (الأداة) تتلون بمقامات النص. نفتح المجموعة على قصة « حملة السفر» ص25:
«داخل المحطة، المسافرون يتدافعون، أرباب الحافلات يرددون: كوفيد إرحل.. كوفيد إرحل..صعد الوباء مع الركاب و(رحلت) الحافلة…»
خاصية التنصيص على النفس الساخر في هذه المجموعة حاضرة بقوة في كل مجاميع الكاتب حسن برطال. إنها سخرية لصيقة بمفارقات محسوسة جسدا و تمثلا. كما أن النهايات تولد سخرية مؤلمة.كون الثقافة العربية تحيا بالمفارقات دون تغييرات في النظر و التمثل. نظرا للجو و البنية العامة المحكومة بالتقليد و مظاهر الحداثة المعطوبة. إنها سخرية تسوق هذا الجرح العربي، بلمسة تهكمية مثيرة، تلمح و تشير عوض القول و الاستغراق في التفاصيل التي تحجب الرؤية الفكرية. نقرأ في نفس المجموعة قصة « الزنزانة المتحركة» ص77:
« كلما مر عليه يوم داخل زنزانته يرسم خطا عموديا على الجدار..و بينما كان يعد الخطوط وما تبقى له من أيام وجد نفسه أمام قضبان غريبة فصرخ بأعلى صوته :
ـ لماذا تم نقلي إلى زنزانة داخل زنزانة»
سعت هذه المجموعة، إلى تقديم فصل جديد من المفارقات المرتبطة بتحولات و سياقات جديدة. و يبدو أن برطال يكتب بنفس الطريقة التي روادت القصة القصيرة جدا، لتسقر في جملة واحدة، محتشدة من الداخل فكرة و لغة و رؤيا. وما يمنح هذه القصص طراوتها هو تخلقها في خضم الواقع و المرجع دون انعكاس حرفي، بل حضور لمسات الكتابة الأدبية، من خلال انتقاء المفارقة و التشابك معها. في هذه الحالة، تتحول القصة القصيرة جدا إلى أداة تعبير و تأمل أيضا، عبر عين غامزة، مشيرة ؛في تحرر واضح من الزوائد التي تفسد جرة القصة القصيرة جدا.
شاعر و ناقد مغربي