من أبلغ ما قيل في ضياع الأندلس، قصيدة «مرثية الأندلس» لأبي البقاء الرندي، فهذا شاعر يحدثنا من قلب المأساة بصوت زمانها، لكن المأساة مستمرة لا تتوقف، والصوت لا يزال صوت كل الأزمنة. فلنستمع إذن إلى ذلك الشاعر القديم الذي عايش عصر الاضمحلال والزوال، وكان شاهداً على سقوط معاقل الإسلام، وفقدان المدن الأندلسية الواحدة تلو الأخرى، قرطبة وبلنسية وجيان، وشاطبة ومرسية وحمص (إشبيلية) وأخذ يكتب كلماته وينظمها شعراً، أثناء وجوده في مدينته رُندة التي ينتسب إليها ويلقب باسمها، وهي إحدى مدن البقية الباقية من الأندلس، التي كانت تنتظر دورها في الموت والفناء مع مالقة وغرناطة وغيرهما من المقاطعات.
عاش أبو البقاء الرندي في الفترة من سنة 1204 حتى سنة 1285، أي أنه جاوز الثمانين من عمره وعاصر جزءاً كبيراً من مسلسل السقوط، الذي امتد لسنوات طوال واستمر بعد موته، إلى أن تم القضاء نهائياً على فردوس الحضارة الإسلامية. يرجح أن الرندي ألف قصيدته سنة 1266، وطوال العقود الأربعة السابقة على كتابة القصيدة، كانت الأندلس التي هو وطن الشاعر، تتهاوى وتتفكك، ويتلاشى مجدها ويضيع في الهواء، ينهار تحت طرقات معاول النصارى والمسلمين على حد سواء، الكل يهدم ويزيل ويمحو. صحيح أنه ينتمي إلى مدينة رُندة التي تقع جنوب إسبانيا، لكنها كانت جزءاً من الوطن الأندلسي الكبير الجامع، وقد انتهى الحكم الإسلامي في رُندة سنة 1485، بعد مرور قرنين على وفاته.
كان أبو البقاء الرندي من أدباء الأندلس المعتبرين، وكان فقيها في الوقت نفسه، كتب الشعر والنثر، وله مؤلفات ومصنفات في الأدب والدين، أرخ له بعض المؤرخين وذكروا فنونه، ويقال إنه كان شاعراً مفضلاً عند الغالب بالله السلطان محمد بن الأحمر الكبير مؤسس مملكة غرناطة، إلا أن سيرته الحياتية تعد مجهولة إلى حد ما، فلا يُعرف إذا كان يعيش مأساة خاصة مثلاً إلى جانب مأساة الأندلس العامة، أو كان يخوض صراعاً من نوع ما. حتى أشعاره الأخرى تبدو غير متداولة بشكل كبير، فقد نظم الرندي الكثير من القصائد، إلا أن هذه القصيدة التي تناول فيها المحو والفناء، كانت سبب بقائه، وحققت له الشهرة والصيت الذائع بعد مرور كل هذه السنوات.
شهرة القصيدة النونية
تتكون القصيدة نونية القافية من اثنين وأربعين بيتاً، فيها يبكي الشاعر وطنه ويرثي حال أمته، يسجل بالكلمات واقعاً مؤسياً، ويرسم صوراً من الحزن الأليم. تحظى مرثية الأندلس بشهرة واسعة، ومن أبياتها ما هو محفوظ يتردد على الألسنة لما فيه من حكم ومواعظ، خصوصاً، أن الشاعر كتب قصيدته بلغة واضحة المعنى والتعبير، سهلة التلقي غير مرهقة للقارئ، تكاد تخلو من الغموض والكلمات المتحفية، والتشبيهات الغريبة غير المعروفة في زمننا الحالي، فلا يشعر القارئ أنه أمام قصيدة تُعجزه، كتبت منذ عدة قرون بلغة لا تخاطبه. لذا هي قصيدة قريبة إلينا من ناحية اللغة، وقريبة كذلك من ناحية موضوعها، وكل ما أثار شجون الشاعر وانفعاله ودفعه إلى تسجيل كلمته، ومشاعر ناظمها التي يختبرها الكثيرون منا اليوم، عندما رأى بعينيه المحو والفناء الذي تعرض له وطنه، إما بالاعتداء الخارجي أو بالخراب الداخلي والفساد والفرقة. وما أقسى ضياع الأوطان، أن ينهدم كل شيء ويزول ويفنى، أن تتغير الملامح وتتبدل، فلا يعود المرء يتعرف على وجه الوطن، ويصير غريباً دون أن يفارقه، فالأرض قد اغتربت عن أصحابها. القصيدة من فنون الرثاء في الشعر، لا رثاء الأشخاص، وإنما رثاء الوطن والأمة، والكثير من القيم الإنسانية والإسلامية، وفيها كذلك الجانب السياسي والتاريخي والاجتماعي.
خلال القصيدة ومقاطعها المختلفة، يبدأ الشاعر بالتعميم ثم يتجه بعد ذلك إلى التخصيص، فينطلق في مطلع القصيدة من الحقيقة الكبرى التي لا شك فيها، وسر الدهر الرهيب، الذي يعجز الإنسان عن إدراك كنهه والإمساك به والتحكم فيه، متجرعاً هزيمته الأبدية أمام الزمن الذي لا يستطيع حتى مقاومته، حيث حتمية الفناء وتقلب الأيام ودوران الزمان وعدم دوام الحال، ووهم البقاء الذي يوهم به نفسه رغم تيقنه من استحالة الخلود. فكل حي وكل شيء إلى زوال ولو بعد حين. يفتتح الشاعر قصيدته قائلاً: «لكل شيء إذا ما تم نقصان.. فلا يغر بطيب العيش إنسان». قد يكون هذا البيت الأول من القصيدة، الذي يمهد به الشاعر لموضوعه أشهر أبياتها، حيث ذاع وانتشر كحكمة عامة مستقلة، تسري على جميع أمور الحياة، ويمكن أن يتم استدعاؤها في مواقف مختلفة. يستمر الشاعر في تمهيده التعميمي الواسع، وينسج على منوال الفكرة ذاتها، فيقول: «هي الأمور كما شاهدتها دول.. من سره زمن ساءته أزمان.. وهذه الدار لا تبقي على أحد.. ولا يدوم على حال لها شان.. يمزق الدهر حتماً كل سابغة.. إذا نبت مشرفيات وخرصان.. وينتضي كل سيف للفناء ولو.. كان بن ذي يزن والغمد غمدان». للمزيد من تأكيد الفكرة يضرب الشاعر أمثلة تاريخية، ويطرح في ثلاثة أبيات متتالية عدة أسئلة، فيقول: «أين الملوك ذوو التيجان من يمن.. وأين منهم أكاليل وتيجان.. وأين ما شاده شداد في إرم.. وأين ما ساسه في الفرس ساسان.. وأين ما حازه قارون من ذهب.. وأين عاد وشداد وقحطان».
في ما يلي ينتقل الشاعر إلى فكرة أخرى ويمهد لها بالتعميم أيضاً، من خلال حكمة شاملة تستطيع أن تحيا خارج القصيدة إن اقتطعت منها، وذلك في بيت يقول: «يا غافلاً وله في الدهر موعظة.. إن كنت في سنة فالدهر يقظان».
ثقل الفاجعة وهول المصيبة
في الأبيات اللاحقة يأتي الشاعر بالجواب، ويرد على ما طرحه من أسئلة، فيقول: «أتى على الكل أمر لا مرد له.. حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا.. وصار ما كان من ملك ومن ملك.. كما حكى عن خيال الطيف وسنان.. دار الزمان على دارا وقاتله.. وأم كسرى فما آواه إيوان.. كأنما الصعب لم يسهل له سبب.. يوماً ولا ملك الدنيا سليمان». مع البدء في التخصيص، يمهد الشاعر أيضاً للإفصاح الأول عن المصيبة التي حلت بالإسلام، فيقول: «فجائع الدهر أنواع منوعة.. وللزمان مسرات وأحزان.. وللحوادث سلوان يهونها وما.. لما حل بالإسلام سلوان». في البيت الأول يذكر فجائع الدهر بشكل عام، وفي البيت الثاني يعلن أنه يتحدث عن فاجعة ألمت بالإسلام، لكن في أي قطر من أقطار الإسلام؟ هذا ما يعلنه في البيت الثالث حين يقول: «دهى الجزيرة أمر لا عزاء له.. هوى له أحد وانهد ثهلان.. أصابها العين في الإسلام فارتزأت.. حتى خلت منه أقطار وبلدان» هنا يدخل الشاعر إلى جزيرة الأندلس، ويذهب نحو المزيد من التخصيص والتفصيل، فيذكر مدن الأندلس التي بادت واندحرت، ويعود لإطلاق الأسئلة في ثلاثة أبيات متتالية أيضاً، فيقول: «فاسأل بلنسية ما شأن مرسية.. وأين شاطبة أم أين جيان.. وأين قرطبة دار العلوم.. فكم من عالم سما فيها له شان.. وأين حمص وما تحويه من نزه.. ونهرها العذب فياض وملآن». يذكر الشاعر تلك المدن الأندلسية بما كان لها من منزلة سامقة، حيث كانت كل مدينة منها درة على جبين الحضارة العربية الإسلامية.
يجيب الشاعر عن هذه الأسئلة في الأبيات اللاحقة، ويرسم صوراً أكثر تفصيلاً لبعض وجوه المصيبة، فيقول: «قواعد كن أركان البلاد فما.. عسى البقاء إذا لم تبق أركان.. تبكي الحنيفية البيضاء من أسف.. كما بكى لفراق الإلف هيمان.. على ديار من الإسلام خالية.. قد أسلمت ولها بالكفر عمران.. حيث المساجد قد صارت كنائس.. ما فيهن إلى نواقيس وصلبان.. حتى المحاريب تبكي وهي جامدة.. حتى المنابر ترثي وهي عيدان».
طلب الغوث وتخاذل المسلمين
في ما يلي ينتقل الشاعر إلى فكرة أخرى ويمهد لها بالتعميم أيضاً، من خلال حكمة شاملة تستطيع أن تحيا خارج القصيدة إن اقتطعت منها، وذلك في بيت يقول: «يا غافلاً وله في الدهر موعظة.. إن كنت في سنة فالدهر يقظان». بعد أن عرض الشاعر المصيبة، وشرح بعض تفاصيل ما وقع، يبحث عن الحل ويطلب العون والمساعدة، فقد قام في البيت الأول الذي يفتتح به هذه المجموعة من الأبيات، بمخاطبة كل غافل في هذه الدنيا، ثم ذهب إلى التخصيص وخاطب الغافلين عن مصيبة الأندلس، المفترض فيهم أن يكونوا أول من يهبوا لإنقاذه وغوث أهله، نظراً لاعتبارات مهمة سيذكرها الشاعر في ما بعد.
يخاطب أبو البقاء الرندي المسلمين الآمنين المستقرين في أوطانهم قائلاً: «وماشياً مرحاً يلهيه موطنه.. أبعد حمص تغر المرء أوطان.. تلك المصيبة أنست ما تقدمها.. وما لها مع طول الدهر نسيان.. يا راكبين عتاق الخيل ضامرة.. كأنها في مجال السبق عقبان.. وحاملين سيوف الهند مرهفة.. كأنها في ظلام النقع نيران.. وراتعين وراء البحر في دعة.. لهم بأوطانهم عز وسلطان». يصف الشاعر في هذه المجموعة من الأبيات، القوة العسكرية والقدرة المالية للدول الإسلامية الأخرى وما تعيش فيه من رغد وترف، ليؤكد أن التخاذل ليس آتياً عن ضعف أو قلة حيلة، إنما هو تخاذل صرف لا عذر له.
يمضي الشاعر في مخاطبة هؤلاء المسلمين مستنكراً قعودهم وتخاذلهم، فيقول: «أعندكم نبأ من أهل أندلس.. فقد سرى بحديث القوم ركبان.. كم يستغيث بنا المستضعفون وهم.. قتلى وأسرى فلا يهتز إنسان». يتوقف المرء أمام هذين البيتين، وتختلط عنده صور الماضي بصور الحاضر، ويتأمل حال أمة لا تتغير ولا يتغير واقعها على مر القرون، أمة مكللة بالعار والهوان، يسري الضعف والوهن في جوانبها، وإن اكتنزت أموال الدنيا، وامتلكت أسلحة الشرق والغرب، أمة تحمل أمراضها المزمنة في أحشائها، وتتشبث مستميتة بعناصر فنائها. يستمر الشاعر في مخاطبة من يرجو غوثهم ويأمل نجدتهم، فيقول: «ماذا التقاطع في الإسلام بينكم.. وأنتم يا عباد الله إخوان.. ألا نفوس أبيات لها همم.. أما على الخير أنصار وأعوان». هنا يُذكّر الشاعر المسلمين بدينهم وتعاليمه ومبادئه، التي تحث على غوث الملهوف ونصرة الضعيف، فما بال نصرة الأخ لأخيه في مواجهة العدو والدفاع عن بلاد المسلمين. يكشف هذان البيتان عن وجه قاس من وجوه المأساة، فالعدو لا يُنتظر منه سوى الشر والغدر ولا يجيء إلا بالموت، إنما الألم كل الألم في خذلان الأخ وتبلد مشاعره وموت إنسانيته، عندئذٍ تنهدم معاني الرجولة والنخوة، وتموت قيم الشهامة والمروءة، ويصاب الإسلام في جوهره، وتضيع تعاليم التعاون والتعاضد. يخاطب الشاعر بشراً كالجماد، يبحث في نفوس ميتة عن أثر أو بقية من همة وإباء، يقول ويرسل كلماته عله يحيي ميتاً أو يوقظ ضميراً، أو يحرك قلباً بعد أن صار حجراً. يبحث عن أناس لا تزال فيهم حياة، عن بقايا من خير في هذه الأمة، كما يضعهم أمام مسؤوليتهم وواجبهم، فمن يغيث المسلمين إن لم يكونوا إخوانهم في الدين.
في الجزء الأخير من القصيدة، يتعمق الشاعر في وصف المزيد من الصور المؤلمة، والأهوال التي يشيب لها الولدان، فيقول: «يا من لذلة قوم بعد عزهم.. أحال حالهم كفر وطغيان.. بالأمس كانوا ملوكاً في منازلهم.. واليوم هم في بلاد الكفر عبدان.. فلو تراهم حيارى لا دليل لهم.. عليهم من ثياب الذل ألوان.. ولو رأيت بكاهم عن بيعهم.. لهالك الأمر واستهوتك أحزان.. يا رب أم وطفل حيل بينهما.. كما تفرق أرواح وأبدان.. وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت.. كأنما هي ياقوت ومرجان.. يقودها العلج للمكروه مكرهة.. والعين باكية والقلب حيران.. لمثل هذا يذوب القلب من كمد.. إن كان في القلب إسلام وإيمان». أنطق الألم هذه النفس الشاعرة بتلك الكلمات الحزينة، والأبيات التي تغشاها الكآبة، فقال أبو البقاء الرندي كلمته، ووثق رسالته لكل من يأتي من بعده. كان الشاعر يعيش في ذلك المحيط المضطرب، يشهد زوال دولة الإسلام في الأندلس، وربما كان يخشى أن يأتي الدور على مدينته رُندة أيضاً. قد يكتب الكثيرون عن سقوط الأندلس، ويخطون سطور الألم والحسرة على ضياعه وفقدانه، لكن يبقى لقصيدة الرندي ميزة شعورها الحي، كما لو أن يراعه كانت تقطر دمعاً بين قرطاسه ومحبرته.
كاتبة مصرية