منذ أيام قليلة، رحلت السيدة مرثيدس بارتشا، أرملة الكاتب العظيم غابرييل غارثيا ماركيز، بعد عمر طويل قضت معظمه بجانب زوجها الذي رحل منذ ست سنوات، وكان أحد الأساطير التي لا تتكرر كثيرا في شتى نواحي الحياة.
مرثيدس بالطبع كانت سندا كبيرا لماركيز في رحلته الإبداعية التي كتب فيها عددا من أفضل الروايات المترعة بالخيال، في زماننا، وترك أجيالا كاملة في أمريكا اللاتينية، والعالم أجمع متأثرة بما كتبه، وإن كان التأثر هنا في الغالب إيجابيا، حيث يقتصر على استخدام الخيال بإفراط كما فعل ولكن في عوالم أخرى غير عوالمه.
زوجة الكاتب أو المبدع عموما، وأعني الزوجة التي تستمر معه الحياة كلها منذ فجر الشباب حتى الشيخوخة، لا بد تملك دورا ما، فهي قد تشجع على الكتابة بتهيئة الجو، والتنازل عن أشياء كثيرة، ضرورية في الحياة من أجل أن ينجز الزوج المبدع. وبعض أولئك الزوجات ومن أجل تحقيق طموح الزوج في بداياته، قد يتنازلن عن ذهب يملكنه، حتى يتم نشر كتاب يراه الزوج مهما وقد يعير من حياته وحياة الأسرة. أيضا قد يتحولن إلى قارئ أول للعمل الإبداعي بمجرد أن ينتهي منه الزوج، وهذا يحدث بالرغم من أن الزوجة قد لا تكون أصلا قارئة، وإنما تعثرت بالقراءة حين شاء قدرها أن تتزوج برجل، همه أن يقرأ ويكتب. وأذكر أنني قلت للراحل الطيب صالح حين سألني عن خطيبتي في ذلك الوقت، وأضحت في ما بعد زوجتي وقارئتي الأولى للنص قبل أن يذهب للناشر:
هل هي قارئة، ومحبة للآداب؟
قلت: لا أعتقد. فقال: لا تقلق، ستحب الآداب، وستقرأ لك ولغيرك.
ماركيز حكى كثيرا عن مرثيدس، التي تنبع من أصول مصرية-لبنانية، وولدت لمهاجرين عرب حطوا في كولومبيا، وذكر كيف آزرته في فقره، أيام أن كان صحافيا هزيلا في جريدة محلية، وكتب “مئة عام من العزلة” وأراد أن يرسلها للناشر، وكانت الكتابة آنذاك إما بخط اليد، أو بالآلة الكاتبة، التي كانت الكتابة بها سائدة في العالم وتعتبر طفرة، أهم ما فيها إراحة الناشر من محاولة قراءة خط قد يكون صعب القراءة.
حكى ماركيز أن المخطوط كان كبيرا، ولم يكن يملك ثمن البريد لإرسال مخطوط كهذا، وتوصل مع مرثيدس لحل بدا معقولا، وهو أن يقوما بإرسال نصف المخطوط، حتى إذا ما أعجب الناشر، يتم إرسال النصف الآخر، وهذا ما حدث ليكتشفا في ما بعد أن الذي أرسل كان النصف الثاني، وليس الأول الذي به العنوان والبداية، والفصول الأولى.
ومهما يكن فقد نشرت “مئة عام من العزلة” لتغير من حياة ماركيز ومرثيدس، وتغير من نمط الكتابة السائد في العالم، وتصنع تاريخا ومجدا جديدا للعبقرية الكتابية.
لقد كانت مرثيدس مؤمنة بقدرات زوجها، هذا لا شك فيه، ونساء كثيرات يؤمن بقدرات أزواجهن ويساعدن في ترسيخ ذلك. بالقدر نفسه، يواجه كثير من المبدعين أجواء أسرية مؤسفة، حيث لا جو ملائم للكتابة، ولا لحظة استقرار واحدة، يمكن أن يتحاور فيها المبدع مع أفكاره، وبالتالي لا كتابة جيدة يستمتع بها أحد.
في الحقيقة لا أقصد بتهيئة جو الكتابة، أن يعم الصمت والهدوء في البيت، ولا يتحرك أحد أثناء كتابة المبدع، وإنما الجو النفسي منح المبدع إحساسا أسريا دافئا بأن الأسرة تقدر كتابته، وتدعمه، وتشجعه لينجز، تماما مثلما يدعم مريضا داخل الأسرة بكثير من التشجيع، ولطالما شبهنا الكتابة بالمرض الذي يصيب بعض الناس ولا يجدون منه شفاء.
كلنا يعرف الإهداء الماركيزي الشهير: “إلى مرثيدس طبعا”. والمسألة الملفتة هنا ليس الإهداء في حد ذاته، فيمكنك أن تهدي لزوجتك، ولا يلتفت أحد للإهداء، ولكن كلمة طبعا، التي تعني الكثير، وتعني في أبسط معانيها، أن هذا الإهداء لا يمكن أن يكون لأحد غير مرثيدس، الزوجة والملهمة.
حقيقة لا أعرف طقوس كتابة ماركيز جيدا، أعرف فقط أنه يكتب في الصباح حتى الظهر، ويدخن السجائر، ولا أعرف إن كان يتوتر أو يغضب سريعا أثناء الكتابة، كما يحدث معي شخصيا، ومع زملاء آخرين. ولكن أتوقع من كاتب غيّر من مفاهيم الكتابة مثله، كثيرا من التوتر والعصبية، ومن امرأة أهدى لها كتابا مع إضافة كلمة طبعا، أن تكون هادئة جدا ولا يزعجها أن ثمة كاتبا عصبيا في بيتها.
عموما المرأة الملهمة موجودة دائما وفي كل الأجيال، أيضا الرجل الملهم والمساند لزوجته المبدعة، موجود ويساند بقوة، ولدينا أمثلة كثيرة على وجوده. وقد ذكرت مرة الكاتبة التركية المعروفة إليف شافاق أنها تزوجت سريعا جدا برجل التقته في قنصلية أو سفارة ما، وأحست بأنه يشبهها ولن يقف في طريق كتابتها. وطبعا مع هذا الكم الهائل من الإنتاج الكتابي لإليف، نتوقع أن يكون ذلك الزوج سندا عظيما، وليس مجرد ظل لا يعيق مجرى الكتابة.
إذن مرثيدس أيضا رحلت، وبقي من أثر ماركيز ولداه اللذان لم أسمع أن فيهما من يكتب، فأحدهما مخرج، والآخر أعتقد يعمل بالغرافيك، وهذا شيء طبيعي. فالكتابة ليست حرفة أسرية مثل النجارة أو صياغة الذهب التي يتوارثها الأبناء، إنها شيء خاص، يُمنح لشخص ولا يمنح لآخر، في الأسرة نفسها، وكلنا لدينا أبناء لا علاقة لهم بهذه المعاناة أبدا.
* كاتب سوداني
التفاتة جميلة منك دكتور أمير عن دور المرأة المبدع ؛ لدعم ومساندة الزوج المبدع.وتحيّة لنسائنا العربيّات المبدعات في كلّ مكان.وهنا
أخصّ سيدات صحيفة القدس العربيّ المبدعات في صناعة الكلمة المنيرة ؛ وأخصّ السّيدة رئيسة التحرير والسّيدة هيفاء زنكنة والسّيدة
أميّة جحا ؛ صانعة فنّ الفنون : الكاريكاتير.
انت دائما منحاز للمرأة ؟
شكرًا أخي أمين تاج السر. في الحقيقة الأمثلة قليلة أو ربما أنا لاأعرف إلا القليل منها، عن الرجل الملهم لزوجته. بل يمكن القول أنها مازالت حالات معدودة. ربما لأن الصورة التقليدية عن الرجل الظاهر في الصورة وزوجته إلى جانبه هي الأكثر قبولًا في المجتمع، كما الصورة في أعلى المقال!
وسأبقى منحازًا لها : المرأة جدتي وأمي وأختي وزوجتي وابنتي وخالتي وعمتي وجارتي وزميلتي وووو فما الضيرأنْ انحاز الى آيات الله الكريمات.أتعلم قد كتبـت تعليقي المنشور مستذكرًا وفاة شقيقتي الكبيرة والتي انشغلت بشأنها عن كل شيء تقريبًا خلال هذه الأيـام…وهي التي ألهمتني كتابة قصيدة الفينيقيون بشأن بيروت الوجع والتي نشرت في هذه الصحيفة يوم 7 من هذا الشهر؛ فلا أنسى أنها التي كانت تراجع معي دروسي وأنا تلميذ صغير ؛ فتركت فيّ نقش الوشم…لا أحبّ المساجلات رجاءًا ؛ ولتنشغل فقط بشؤونك أيّها العقبة من دون تعليق فضولي : { ياعجبًا للدهر ذي الأعجاب…الأحـدب البرغوث ذي الأنيابِ }.فمنْ لا يكن وفيًّا : وشل.
السيد عبد الله العقبة;قليل فقط من النساء هن من يظهرن في التاريخ،اي كتب التاريخ;فقد تم اخفاء النساء من التاريخ و استبعادهن من معظم سرديات المؤرخين.والآن استكثرت تعليق فيه اهتمام للمرأة.ما هوالدافع لانتقاداتك على السادة المعلقين كما فعلت قبل كم يوم مع الاخ حي يقظان في مقال للسيدة بروين حبيب هو شرح و بيِّن الفرق والتناقض في مجتمعاتنا فيما يخص الفقراء والاغنياء و كان تحليله و كلامه صحيح و في تعقيبك كانت ردة فعلك واستنتاجك على ان كلامه موجه شخصيا للسيدة الكاتبة.