خيري منصورلم يكن الراحل هشام شرابي قد اخترعها، لأنها عاشت منذ اسلافه وقد تستمر حتى احفاده، لكنه علّق الجرس، وصاغ بمنهج علمي وسوسيوسايكولوجي ما يتداوله مثقفون بشكل موسمي، او مجرد تعقيبات عابرة على ظواهر يئنون من ثقلها، عبارة واحدة، اختزل بها شرابي المسألة كلها، هي ‘ فشل اخي نجاحي’، وهو من حيث يقصد او لا يقصد اقترح على قارئه مصطلحا مضادا للمفاضلة، ما دام الأسوأ هو بارومتر القياس ومعياره، بحيث يكون الأقل سوءا بديلا للأفضل. وجذور الظاهرة التربوية ذات التجليات السياسية والاجتماعية والثقافية التي عالجها شرابي في كتابين على الأقل تعود الى مكونات النسيج الاجتماعي للعرب الذين عاشوا عصور ما قبل الدولة وما قبل الحداثة، ثم توهموا انهم يحرقون المراحل ويقفزون برشاقة الى المابعديات، دون المرور بتلك الحلقة التي اصبحت مفقودة في أدبيات التطور المعرفي. ولم يزعم شرابي أنه عثر على هذه الحلقة كما فعل ديزموند موريس في كتابه ‘ القرد العاري’ وما اعقبه من مقالات، لكن الرجل بحصافة اكاديمي نأى بقدر الامكان عن التفكير الانفعالي حاول ان يقرأ الرماد الذي لم يكن ماضيا للجمر بقدر ما اصبح مستقبله، وحين حملت سيرته الذاتية عنوانا هو ‘ المسافة الحرجة’ بين طرفي الثنائية وهي ‘ الجمر والرماد’ كان ايضا يحاول ان يملأ الفراغات ما بين سطوره بإيحاءات خلاصتها ان العرب المعاصرين هم أشبه بذلك المنبتّ الذي لا دولة قطع ولا حرية أبقى! والمراذلة كنقيض قيمي ومفاهيمي للمفاضلة تدفع الفرد الى الرهان على اخفاق الآخرين كي يكون ‘ جلفر’ في بلاد الأقزام، بحيث يتلخص طموحه في ان يكون الأقل فقرا لا الغني والمحتضر الذي يزهو على الميت بما تبقى من عافية لا المعافى او السليم، واغلب الظن ان المراذلة كمنظومة معكوسة للقيم تزدهر في أزمنة الانحطاط عندما لا يكون هناك مثل أعلى او قدوة من أي نوع. وكان شرابي قد قطع المسافة الوعرة بل الأشد وعورة من طريق غير مطروق بين عكا وامريكا مرورا ببيروت، في تلك الحقبة العسيرة والعصيّة على التصنيف من حياتنا هي اربعينيات القرن العشرين وما اعقبها من ترددات زلزالية، فالهزيمة الكبرى عام 1948 كانت طازجة بدمها النيىء على امتداد قرى ومدن فلسطين وبخيامها التي نصبت حديثا لكن لإيواء المهاجرين وليس لاستقبال من يطرقونها من الضيوف، فالانقلاب شمل عدة مفاهيم يومئذ منها الخيمة التي لم تعد لها تلك الاثافي في الجاهلية في صحراء العرب.* * * * * * *نستطيع سرد مئات وربما آلاف الأمثال الشعبية التي رضعناها صغارا ثم حمّلنا دم اخطائها وخطاياها كبارا، وهي جميعا تنبع من المصدر الاجتماعي التربوي ذاته .. إلحاح بلا حدود على الريبة والاحتراز والباطنية، ما دام الآخر عدوا الى ان تثبت براءته، وما دامت الجدران لها آذان تتنصت بها على الناس، وما دام الكف أعجز من ان يلاطم المخرز، وتقبيل الكلب من فمه واحتمال لعابه مشروع اذا كان ينتهي الى مكسب!حمولة باهظة من التربويات الشفوية ترسخت في اللاوعي، ولم تفلح وصفات السوربون وهارفارد وجورج تاون وبقية الشقيقات من المعاقل الاكاديمية في حذفها من تكوين المثقف العربي.. لهذا مكثت تلك التربويات بأمثالها ومواعظها الخرقاء في عمق الذاكرة واللاوعي واخذت مقولة ‘ فشل اخي نجاحي’ تتجلى في صور بالغة الحداثة من حيث الشكل لكنها موغلة في الرعوية من حيث المحتوى والدلالات. ان اخطر ما في فقه المراذلة انه يحذف الصواب لصالح الخطأ النسبي، ويجعل من النقصان على اختلاف منسوبه ميدان المنافسة، ولا يهم الفارس الفائز في هذه المباراة الكوميدية اذا كانت خيول منافسيه عرجاء او عمياء او مصابة بالانيميا! ومع سقوط منظومة المفاضلة الصحية لم يعد الآخر بوصفه عدوا ممكنا او منافسا او حتى شقيقا لدودا ينعم بما كان ينعم به أمثاله في عصور العرب الأولى، وبالتحديد في الجاهلية. يومها كانت خصال العدو توظف لصالح من انتصر عليه، لأنه لا يسعى الى تحقيق فوز وهميّ على أرنب او فأر!ولعلّ هذا ما دفع انطون مقدسي الى المجازفة بمقارنة مأساوية بين العربي الجاهلي والعربي المعاصر.. فالاول كانت قامته كعربي تعادل قامته كإنسان، لكن الثاني يجاهد كي يرمم الفجوة بين كونه عربيا وانسانا! والتطابق بين القامتين وفقا للسياق الذي عقد فيه المقدسي هذه المقارنة بل المفارقة هو دليل استواء وعافية وتجانس، لأن من تتطابق قامتاه القومية والانسانية ينجو من التقمّص والتماهي واخيرا من التّقريد الذي ينزع عن الآدمي نزعة المبادرة والمغامرة وتحقيق الذات بحيث يتحول الى مجرد ظل او صدى لسواه!* * * * * * * *بقدر ما تفشل ايها الآخر، سواء كنت توأما او من اقاصي الكون أستشعر التفوّق، لهذا عليّ تبعا لهذه الثقافة التراذلية ان اسعى إلى التقليل من شأنك وتقزيم ما تنجزه كي ابدو أطول منك او أعلى!لقد غادر الشعراء في الدنيا كلها ذلك المتردم العبسي، ولم تعد الاطلال حجارة او أثافي خيمة او روث حيوان أليف، لكن تربويات الكيد وفقه المراذلة وأدبيات النميمة لم تغادر متردماتها بل طوّرتها واضافت اليها تقنيات تكنولوجية، فالعلم احيانا يوظف لترسيخ الخرافة وأتمتة التخلّف، ولا نظن ان ابوقراط او اي اب آخر للعلوم كان سيواصل رهانه لو تخيّل للحظة ان الاطباء يزوّرون تقارير عن الاوضاع الصحية للسجناء، ويحرصون على ادامة حياتهم ليس حبا فيهم او وفاء لأبوقراط وبرّا بقسمه، بل لكي يكون لتعذيبهم جدوى، وهذا ما يفسر لنا لماذا يحال بين السجناء وبين الانتحار من خلال مصادرة اي حبل او اداة حادة تيسر قتل الذات. فالموت هو الحرية في حالة كهذه، وهذا ما اوضحه بالتفصيل ميشيل فوكو في تاريخ التعذيب عندما قدم تعذيب المسيو دميان نموذجا!وقد يكون اسم سنمار كما تقدمه الحكاية صالحا لأن يتحول الى اسم حركي لكل عارف بالأسرار، وبعقب آخيل وليس بحجر واحد هو كلمة السر لقصر مُنيف.* * * * * لو رصدنا العديد من الظواهر التي تبدو لدى القراءات الأفقية نبتا شيطانيا ومنقطعة عن جذورها الاجتماعية والتربوية من طراز ‘ فشل اخي نجاحي’، لوجدنا ان العقاقير التي تناولناها كانت وفق تشخيص ساذج للوباء، فنحن لا نرى أبعد مما يجب ونتحول الى زرقاء اليمامة الا عندما يتطلب الامر التحديق في المكان الذي نقف عليه ونتنفس هواءه الفاسد، واحيانا يكون الافراط في التحليل او حتى التوصيف على حساب ما هو أقرب الى العين من الأذن، لكن العين لا تراها! وثقافة المراذلة او احلال الأقل سوءا مكان الأفضل تواصل نفوذها علينا جميعا وأحدث مثال نسوقه هو شغف النظم العربية بمقارنة موازناتها ونسبة البطالة فيها ومتوسط دخل الفرد بأدنى النماذج في هذا الكوكب.