مرض المبدعين الأبدي

حجم الخط
5

عانى فرانز كافكا من القلق، وظلّ متقلبا، وخائفا حتى آخر لحظة من حياته، وإن كانت أشعاره قد وشت ببعض من هذا الجانب في شخصيته فإنّ رسائله إلى حبيبته ميلينا جيسينسكا، الصادرة في كتاب صدر عن دار الرافدين (بيروت – بغداد) مترجما من طرف علي سعيد، تكشف الكثير. لقد افترسه القلق الذي يعتبر مرض المبدعين الأول، ولا أدري إن كانت هذه المرأة التي شبّهها بالنّار الحية التي لم ير في حياته مثيلا لها، قد أنقذته لبعض الوقت من معاناته الخاصة، حين بادلته كتابة الرسائل، التي بدأت بينهما بسبب العمل، وتحوّلت شيئا فشيئا إلى رسائل حب مجنون، وبوح أتعب صاحبه، وأحياه في الوقت نفسه.
اعتبر كافكا هذه المرأة المميزة، شغف حياته الحقيقي، واعتبر وجودها المتأخر فيها، هبة الرّب له لما قبل الموت، فقد استمرت لأربع سنوات الأخيرة قبل وفاته وهـــــو في سن الأربعين.
كان في السادسة والثلاثين إذن، وكانت في الثالثة والعشرين، ناضجة، متقدة الأفكار، وقد احتوته وفهمت أبعاد عبقريته وطبيعة شخصيته المعقدة، بشكل جعلها تحتل المكانة الأفضل لديه، لهذا ائتمنها على مذكراته، وكشف لها كل خبايا نفسه، كما لم يفعل كاتب آخر.
في أوج نجاحه، واسمه المضيء في الأوساط الثقافية، كان الخوف من الفشل يربكه، كان القلق يقضم أجزاء كبيرا من قلبه ومشاعره، اعتقد كثيرا أنه لم يكن أهلا للحب، توقع الخسارات قبل حدوثها، تراجع عن كتابة نصوص، وأجّل مشاريع… عاش في دوامة القلق ولم يخرج منها إلاّ ميتا.
هذه الرسائل شديدة السواد، بديعة في جمالياتها الاستثنائية، وهذا ما يجعل قراءتها إبحارا حقيقيا في عالم كامل من المتعة، يمنح القارئ متعة الجلوس بين عاشقين يتلوان تراتيل الحب والمخاوف الشخصية، والاعترافات الموغلة في الخطورة، من نوع جلد الذات وانتقادها، مثل ما ورد على لسانه: «تتوهمين! فلن تستطيعي البقاء إلى جانبي مدّة يومين.. أنا رخو أزحف على الأرض. أنا صامت طول الوقت، انطوائيٌّ، كئيبٌ، متذمرٌ، أنانيٌّ وسوداويّ، هل ستتحملين حياة الرهبنة، كما أحياها؟ أقضي معظم الوقت محتجزا في غرفتي، أو أطوي الأزقَّة وحدي، هل ستصبرين؟
أنهى كافكا علاقته بميلينا حين أدرك أنه يمضي في طريق مسدود معها، إذ يبدو أن تمسكها بزوجها لم يكن سوى تبرير لإبعاد الرجل القلق المتعب عنها، بعد أن انطفأت جذوة الإعجاب به خلال مسار الشكوى السوداء التي انتهجها في رسائله.

تلك المشنقة التي نلفها حول رقاب كتابنا، هي في الحقيقة العقاب المشترك الذي يناله من نتوقع منه أن يكون الأفضل دائما. تكبر بذرة القلق في داخله، حتى تستحوذ على كل المنافذ التي يمكن أن يرى منها النّور، أليست هذه جريمة في حق من نحب؟

عاش موليير القلق نفسه بدرجة عالية، غوته أيضا، مارسيل بروست وآخرون.
في موضوعات كهذه يخجل الكاتب العربي أن يتحدث عن مصابه بشكل واضح، في رسائله أو في حواراته، يخاف أن يُحاكمه جمهور القراء (وغير القراء) المتنكر بعباءة القاضي، والمتربع دوما على منصة محكمة نصّبها خصيصا للذين يكتبون.
في رسائل غسان كنفاني نجد هذا القلق الذي لم يره أغلب قراء الكتاب، الذين سارعوا لمحاكمة غادة السمان، وهم يغتنمون أي فرصة لإثارة الموضوع مجددا، مثلما حدث مؤخرا بسبب مقال لسليم بركات، متناسين تماما أن تلك الرسائل، لا تختلف عمّا كتبه كافكا لميلينا. في الحقيقة حتى معاناة كنفاني كإنسان لم تعن القارئ العربي، الذي ظلّ يطالبه أن يكون «سوبرمان» الفلسطيني ـ العربي، فبعد أن ترسّخت صورته الإعلامية في أذهاننا، صعب علينا أن نراه بوضوح، أن نرى مريض السكري الذي لم يكن يجد الأنسولين أحيانا إلا بصعوبة مثلا، والرجل القلق على زوجته وأبنائه، والذي أراد أن يحميهم من قلقه أولا، ومن عجزه لجعلهم خارج دائرة الخطر.
هذا مجرّد رأي، وهناك رأي آخر، ماذا لو أن كنفاني كتب رسائله هذه لصديق، وقام بنشرها، هل ستقرأ بشكل مغاير؟ وهل سيجلد هذا الصديق بالسوط نفسه الذي جلدت به السمان؟ وأنا أقرأ هذه الرسائل مجددا، تساءلت لماذا اختار كنفاني غادة السمان تحديدا؟ وتحديدا لست واثقة من الجواب، لكنه رأى فيها «النّار الحية» التي رآها كافكا، النار التي تلتهم تراكمات الشعور بالفشل في مواضع كثيرة، ثم ألم يكن من حقه أن يرى فيها كل ما رغب فيه ولم يحققه؟ بتلك اللغة المتوسلة، والتمنى، والرجاء للحصول على لحظة حب آمنة، ألم تكن الصورة واضحة لرجل فرمه القلق فرمًا؟ أليس هذا ما يحدث لأغلب الرجال، إن لم يكن كلهم، حين يعتقدون أن زوجة وأطفالا عش أمانهم، فإذا بهم يكتشفون العكس تماما، فهذا العش قلق إضافي، خوف لا نهائي من المخاطر التي تتهددهم ليس فقط من الخارج، بل من داخل ذواتهم، وهذا ما عاناه تحديدا موليير، ليس فقط في بداياته، حين كبلته الديون قبل شهرته، بل بزواجه من شابة بفارق سن كبير، وموت جل أولاده في عمر مبكر، كل هذا حدث له بعد الشهرة.
في مسرحيته «المريض الوهمي» أو «المريض المتوهم»، أو «المريض بالوهم» (اختاروا الترجمة التي تحلو لكم ) يتقاطع بطله أرغان معه في تلك الأعماق القلقة التي خبرها موليير بنفسه، حتى في وصفه لبخل بطله المبالغ فيه، سيجعلنا نفهم أن البخل وليد خوف من الإفلاس، كون المال صمام أمان دائم لمن يمتلكه، ومنه ندرك أيضا خطورة القلق الذي يحوّل صاحبه إلى شخص مريض، عاجز عن التقدم، وعن فعل أي شيء منتج سوى الالتفاف حول نفسه..
سأخبركم الآن لماذا وصلت إلى هنا؟
لقد أردت أن أفهم لماذا يلجأ البعض إلى تأجيل أعمالهم، كأن يؤجلوا عملا لعدة أيام، أو لعدة أشهر وربما سنوات، أو كأن يبدأوا مشاريع بالجملة، بدون أن يتمموا مشروعا واحدا؟ وعرفت أن هذا الأمر يسمى «التسويف»، مصطلح بحثت عن معناه فوجدت معناه السيكولوجي، وعرفت أنه حالة سببها القلق، ويبدو أنه خيط متين يقودنا إلى متاعب دفينة في الطفولة، ترسخت لأسباب غبية حين يُطالب الطفل بأن يكون «مثاليا» فينتهي به الأمر مثل أرنب في متاهة… ففــــي حـــالة ما إذا كان موهوبا ولديه قدرة على الكتابة، سيبحث عن قضية عظيمة يدفن فيها نفسه، فيما يختار هامشا خاصا به غير مرئي للناس، التي ترتدي عباءة القاضي، ويعيش القليل جدا من حياته حتى إن كان على الورق… وهذا ما فعله كافكا ـ كنموذج من الغرب ـ وكنفاني كنموذج من مجتمعنا.
تلك المشنقة التي نلفها حول رقاب كتابنا، هي في الحقيقة العقاب المشترك الذي يناله من نتوقع منه أن يكون الأفضل دائما. تكبر بذرة القلق في داخله، حتى تستحوذ على كل المنافذ التي يمكن أن يرى منها النّور، أليست هذه جريمة في حق من نحب؟
همنغواي بكل عظمته، قال إن «تفكير الكاتب بوعي وقلق بشأن نجاح كتابه، يتعب الدماغ قبل بداية الكتابة، كتب كثيرة ماتت قبل أن تولد لهذا السبب». أسمع صوتا يقول هل من حل وسط هذا الخراب الذي نعيشه، ونحن محاطون بأزمات اقتصادية، وحروب، وأمراض، وفيروس شرس يستمتع بالفرجة على الإنسان وهو يعود لبدائيته؟ لعلّ هذا الحل موجود، فالذي أنقذ الإنسانية في عصور سابقة، سينقذها اليوم أيضا، لكن علينا أن نستمر بالطرق على الجدار الذي نحتجز خلفه، لأن هناك من يعتبر ذلك الطرق الأمل الذي ينقذه من الموت. ولا بأس أن نكون صريحين مع أنفسنا، ونتجرّد من عباءة العفة والقداسة التي نرتديها لإرضاء جمهور زائف.. ولنأخذ حكمة الكاتب البريطاني فيليب بولمن «اعتبر نفسك سباكا، وقم بعملك على أحسن وجه، هذا كل شيء».

٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول غسان ابراهيم:

    شكراً للكاتبة الرائعة ،تثير مواضيع في غاية الأهمية

  2. يقول الدكتور جمال البدري:

    تحياتي ومودتي للدكتورة الكاتبة…أرى أنّ ( مرض المبدعين الأبديّ ) ليس القلق بل شحّة الزمن.إنّ الكاتب ( المحترف ) جغرافيا رأسه في الآفاق وقدماه في الأعماق وخاطره في القطب الشماليّ وذهنه في القطب الجنوبيّ وقلمه فوق خط الاستواء.إذن : بصره بسعة الكرة الأرضيّة ؛ إنما به حاجة لسعة في الزمن ؛ فكرسيّه الدوار لا يزيد عن كوة في جدار تشرق عليها الشمس لتغيب مع شفق ذُكاء.فمن أين يأتي برصيد جديد من الزمن ؟ لذلك هناك صراع بين الميقات والدوافع الذاتيّة للإبداع.أما معاناة الذين ذكروا في المقال ؛ فهي معاناة أخرى مرتبطة بالاستحواذ على الزملكان مع النجوى ؛ لأنّ الشهرة تحتاج إلى صولجان الملوك والسلاطين لا ذخيرة سوق الوراقين.فالمبدع تتماهى في ذاته شخصيتان : الملك والصعلوك.وكلاهما عليه بين استثمارواستهلاك حتى يكتشف أنّ الزمن الذي كان إليه به حاجة ؛ قد غادره إلى ساحل البحرالكبير كظلّ وفيء.فيما احتفظ بالجغرافيا فقط حتى ( النهايّة ).لهذا أغلب المبدعين لا يكملون نتاجاتهم الآخرة ؛ بل تبقى ناقصة كوشم من ضريبة الاستحواذ على ذكراهم ( الخالدة ).هكذا ( دولاب الهوا ) يستمرّ بالدوران كعقرب ساعة غيرنيج البخيل بخطوات الرقاص ؛ ولات ساعة مناص.

  3. يقول آصال أبسال:

    /أن نرى مريض السكري الذي لم يكن يجد الأنسولين أحيانا إلا بصعوبة مثلا، والرجل القلق على زوجته وأبنائه، والذي أراد أن يحميهم من قلقه أولا، ومن عجزه لجعلهم خارج دائرة الخطر/..
    وكأن هذا القولَ وكلَّ ما تلاه في المقال مكتوبٌ بقلم “شوفيني ذكوري” بالمعنى المَرَضي للمصطلح، وخاصة القلم الذي يهمل عمدا أهمية المرأة المعنية إلى حد الاستهجان والاحتقار.. وماذا عن مشاعر الزوجة بالذات بتخصيص شيء من الاحترام، إن لم يكن كله، على الأقل من طرف الزوج الكاتب /أو نسخة “الدكتور شيفاغو” المقلّدة/ إذا لم يحرِّك هذا أيَّ شيء في مشاعر “عشيقته ورفيقته في القلم والمراسلة”.. ؟؟ ولئن كان ثمة مجرّد رأي من طرف بروين حبيب بأنه من حق الزوج الكاتب أن يرى في هذه “العشسيقة/الرفيقة” كل ما رغب فيه ولم يحققه، على أرض الواقع، فـ/رأى فيها [من ثم] «النّار الحية» التي رآها كافكا، النار التي تلتهم تراكمات الشعور بالفشل في مواضع كثيرة/.. ثمة آراء أخرى جادَّة وكثيرة تؤكد على الانتقاد الشديد حتى لذلك الطموح الغرامي “الإنساني” لدى نسخة “الدكتور شيفاغو” الحقيقية، في سماء الخيال، في جل تجلياتها، في المقابل.. !!

    1. يقول آصال أبسال:

      ** “العشسيقة/الرفيقة”
      ** “العشيقة/الرفيقة”

  4. يقول إطمئنوا و طمئنونا:

    ما أقل النفوس المطمئنة الراضية المَرْضية. هل الرجال أكثر عرضة للقلق من النساء كما يمكن استنتاجه من عدد الأمثلة الواردة في هذا المقال الجميل و الوافي؟ هل كانت أم كلثوم إستثناءً و قد كانت تعاني من القلق قبل صعودها إلى المسرح عند كل حفلة. إقتبست هذه اللازمة من الرسائل التي كان المغتربون يتبادلونها مع أهاليهم عبر المذياع و قد تذكرتها مع تزايد أعداد اللاجئين الفارين من ظلم الطغاة و المحتلين في العالم العربي و كلها من دواعي القلق “إطمئنوا و طمئنونا و الله يرعاكم”

إشترك في قائمتنا البريدية