أنجزالرسام الإيطالي توماسو دي جيوفاني كساي الملقب بـ مزاتشيو (1401-1428) في غضون عشر سنوات فقط عملاً استثنائياً. فعند وفاته في الـ27 من عمره، ترك عددا قليلا من أعماله، ولكن أصالة وقوة هذه الأعمال جعلت مجموعة من الفنانين يتَّبِعُون خطاه، خاصة فرا أنجيليكو، بييرو ديلا فرانشيسكا ومانتينيا. من خلال لوحاته الجدارية ورسوماته حقق مزاتشيو ثورة فنية كبيرة خلال عصر النهضة، جنبا إلى جنب جيوتو، حيث ورث منه فن التمكن في الإيماءات والرسم على الأقمشة والجدران، كما تأثر مزاتشيو بأعمال رافاييل، من خلال سعيه إلى خلق نوع من التوازن الحكيم بين الرسم واللون.
هكذا سيتحرر مزاتشيو بعد ذلك من التأثر بالتمثلات القديمة، فقد رافق النحات دوناتيلو في البحث عن النُّسبِ الصحيحة. وغني عن القول، إن جدارية «سانتا ماريا ديل كارمين، فلورنسا»، تظل واحدة من أعظم أعمال مزاتشيو التي لم يكملها، فأكملها بعده فليبينو ليبي.
الجدارية
وتعكس الجدارية مشاهد من حياة القديس بطرس أو مشاهد لحياة آدم وحواء، التي لخصت كل ما حاول فنانو عصر النهضة إدراكه: أن يمثلوا المثالية، من خلال عكسها في الواقع بطريقة شاعرية، ولكن في كثير من الأحيان محاولة خلق صدى قصص الكتاب المقدس مع حقائق العالم الدنيوي. وقد جعلت هذه اللوحة من مزاتشيو موضوع بحث مستمر، حيث عملت مجموعة من الدراسات النقدية والأكاديمية على ربط فن مزاتشيو بسياقه التاريخي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، ليتم التأكيد على أن مزاتشيو عمل على تقديم منظور جديد في التسلسل الزمني والتفسير الأسلوبي لأعماله.
أضفى مزاتشيو على أشكال شخوصه تجسيماً طبيعياً مناسباً لم يظهر في أعمال من سبقه من المصورين. كما أدرك أن الشخوص التي تبدو ثابتة الوقفة تعوزها الرشاقة والاكتمال.
كان مزاتشيو معروفًا في المقام الأول بكونه رسام كنيسة برانكوتشي، في كنيسة سانتا ماريا ديل كارمين، حيث كان يعمل مع ماسلولينو، وقد برهن على أنه مبتكر ومقدم للطبيعية في الرسم، وبالتالي سيتجاوز المدرسة القوطية من خلال سعيه إلى تقديم منظور جديد للتصور الجمالي، وقد اعتبره النقاد واحدا من مؤسسي الفن التشكيلي الحديث والعقلانية بشكل جذري. وقد تطرق أمبرتو بالديني لهذا الجانب الفني والفكري في أعمال مزاتشيو، ، ليبرز مكانته في التاريخ الفني والتشكيلي الحديث، خلال عصر النهضة، ولعل أبرز ما تم استنتاجه من خلال تحليل لوحة مزاتشيو، على أنه عَمِل على خلق أسلوب خاص به. فاللوحة تتميز بسقف عادي لا يعكس التصوف المعروف عن رواد القوطية، بالإضافة إلى عناصر الأثاث أو العقارات، التي تعكس المدنس عوض المقدس في اللوحات القديمة. كما أن هذه اللوحة تصور لنا الرب يدعم اللوح الذي صلب عليه المسيح. تُوهِم جدارية الثالوث المُشاهِد المتلقي أنه أمام مدفن (أو قبر) حجريّ تذكاري، وإلى الأسفل منضدة مذبح مع تجويف عميق فوقها محفور في الجدار. أما المصلون المانحون في مقدمة الجدارية (الفريسك)؛ فحجمهم أصغر من الحجم الطبيعي، كما أن مجموعة الشخوص في المحراب أصغر حجماً. ويدل الرداء الأحمر على المانح في يسار اللوحة، وهو في الحقيقة عضو في الهيئة الحاكمة في فلورنسا. تُظهر هذه اللوحة مَعْرِفَةَ مزاتشيو الخاصة بمنظور برونيلسكي وتجاربه وأسلوبه المعماري. لهذا، يعتبر الرسام الإيطالي مزاتشيو واحدا من الرواد وأعظم رسامي عصر النهضة، وقد صنفه النقاد من بين كبار الرسامين، سواء خلال فترة حياته أو بعد وفاته.
الرؤية الفنية وعلاقتها بالواقع
ولعل من أبرز الباحثين الذين اشتغلوا كثيرا على فن مزاتشيو، نذكر المؤرخ والمتخصص في فن عصر النهضة والفن الإيطالي، دانييل آراس الذي حاول الكشف عن مفهوم التصور ونجاحه في اللوحة الفلورنسية ما بين عام 1420 و1428. فقد عمل آراس على تفسير البعد السياسي والأيديولوجي والفلسفي في لوحات مزاتشيو. في هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى أن مزاتشيو كان مؤخرا موضوع ندوة أكاديمية نظمت في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في تطوان، حيث تناول مجموعة من الأكاديميين والباحثين في الفلسفة وعلم الاجتماع فن مزاتشيو كموضوع للرؤية والتعرف.
وقد تناول الباحث والأكاديمي بناصر البعزاتي لوحة مزاتشيو، كأرضية لشرح التصورات والمعارف في أوائل القرن الخامس عشر في أوروبا. فقد أبرز الأكاديمي عمق هذه اللوحة وأبعادها من الناحية الفلسفية والاجتماعية، وكيف لعبت دورا محوريا في تشكيل مفهوم الرؤية والتعرف خلال هذه الحقبة.
تعد لوحة مزاتشيو حسب الباحث من أشهر أعماله الجدارية، فتباين الآراء حول تاريخ رسم هذه اللوحة، جعل منها مفتاحا لفهم عصر النهضة والتصورات التي كانت سائدة آنذاك. فقد رجح المؤرخون على أن هذه اللوحة رسمت ما بين 1425 و 1428. ووصفت بالتفصيل من قبل فاساري في 1568، الذي شدد على براعة «النظرة الخادعة» للهيكل المعماري والتصوري لهذه اللوحة، فقد كتب فاساري أن هذه اللوحة تصور للناظر «أن قبو الصندوق الذي يتم رسمه من منظور ومنقسم من جانب إلى آخر مع وريدات متناقصة يتم بشكل جيد بحيث تبدو أن هناك فجوة في الجدار». ويضيف .. «إن مزاتشيو أضفى على أشكال شخوصه تجسيماً طبيعياً مناسباً لم يظهر في أعمال من سبقه من المصورين. كما أدرك أن الشخوص التي تبدو ثابتة الوقفة تعوزها الرشاقة والاكتمال، وأن من يصوّرها على غير هذا النحو يكشف عن جهله بأصول التضاؤل النسبي وقواعد المنظور. وإن كان جيوتو قد تناول المنظور في تصاويره؛ فإنه قد تناوله بعدّه شيئاً ثانوياً لإبراز تأثيرات معينة، في حين أن مزاتشيو سعى إلى الإيحاء بالفراغ بأسلوب رياضي عقلاني».
تعتبر اللوحة الجدارية حسب الباحث دائما، واحدة من مفاتيح التاريخ القديم، خاصة أنها تعكس مجموعة من التصورات تنقسم بين ما هو معماري، وما هو تشكيلي. وكانت لوحات مزاتشيو تندرج ضمن المنظور نفسه الذي أسس له برونليسكي في الهندسة المعمارية، حتى أن البعض فكر لفترة طويلة بأن برونليسكي نفسه قد شارك في هذه اللوحة. وقد عمل كل من الباحثين في الفلسفة، أخص بالذكر محمد طه الشتوكي والشارف المعتصم على مناقشة دور هذه اللوحة في بناء التصور الفلسفي والاجتماعي، وكيف ساهمت في خلق رؤية تعكس الفكر السائد خلال عصر النهضة.
وفي هذا السياق، أكد الأكاديميون على أن الفن بكل ألوانه يظل دائما وسيلة لفهم تطور الفكر الفلسفي والمجتمعي، ربما يظل فن مزاتشيو حبيس الظل، لكن كلما رجعنا إليه، وجدنا أنه كان سابقا لعصره بقرون عديدة.
٭ كاتب وباحث مغربي