نيويورك- “القدس العربي”:
أطلق المدير الإداري لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، أخيم شتاينر، مؤشر التنمية البشرية العالمي لعام 2023 تحت عنوان “عالم يشوبه الاستقطاب”.
ويشير التقرير السنوي إلى أن العالم قد شهد نوعا من التعافي من الآثار الاقتصادية لوباء كوفيد-19 للأعوام 2020-2022، لكنه تعافٍ جزئي وغير مكتمل وغير متكافئ، وبدل تزايد فرص الاندماج الاقتصادي عالميا، جاء التعافي الأخير ليظهر مدى التشظي والتباعد من دولة لأخرى.
وعقد شتاينر بهذه المناسبة، مؤتمراً صحافياً في مقر المنظمة الدولية لعرض نتائج تقرير التنمية البشرية، مبينا ارتفاع نسبة الثروة الهائلة لدى الدول الغنية بشكل غير مسبوق، بينما لا يزال نصف أفقر بلدان العالم تحت مستوى التقدم الذي كانت عليه قبل أزمة جائحة كوفيد-19.
وردا على سوال “القدس العربي” حول مستويات التنمية في العالم العربي، قال شتاينر: “إن وضع التنمية البشرية في العالم العربي بالمجمل لم يتعاف بعد. وإذا نظرت إلى مؤشر التنمية في الدول العربية كمجموعة، لوجدته خطا مستقيما، أي أن التعافي من آثار جائحة كوفيد-19 لم يتم بالمجمل”. وقال إن “العالم العربي مثال جيد على مؤشر التنمية غير المتوازنة. فهناك دول من أعلى البلدان دخلا، وهناك دول في منتهى الفقر مثل اليمن الذي خسر أكثر من 20 سنة من التنمية بسبب النزاعات. فتأثير الوباء لم يكن متساويا من بلد لآخر”.
وردا على سؤال آخر لـ”القدس العربي” حول تحضيرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للمساهمة في إعادة إعمار غزة في اليوم التالي لوقف الحرب، قال شتاينر إن “برنامج الأمم المتحدة لم يتخل عن غزة، فهو المفوض من قبل الجمعية العامة بتقديم المساعدة للشعب الفلسطيني منذ عام 1978، فالبرنامج دائما مرتبط بعمليات التنمية في الضفة الغربية وغزة”.
وأضاف: “البرنامج الآن منشغل في كيفية القيام بعمليات إغاثة الطوارئ. لدينا لحد الآن موظفون يعملون في الضفة الغربية وقطاع غزة. واهتمامنا الحالي يتركز على مسالك التعافي. وإذا توقف القتال يمكن إعادة دورة الحياة للناس. ليس بالضرورة إعادة البناء، فهذا قد يستغرق سنوات وربما عقودا. ولكن التركيز على التعافي والنهوض وهذا يعني إعادة الخدمات الصحية، تمكين الناس من عمل يدر نوعا من الدخل، تنظيف الدمار الهائل بما في ذلك تطهير الألغام والمقذوفات غير المنفجرة، تمكين الناس من العمل في إعادة تشغيل دورات المياه والكهرباء. نحن لدينا خبرة في هذا المجال وعرضنا إمكانياتنا هذه على السلطة الفلسطينية والمجتمع الدولي. إن برنامج الأمم المتحدة الآن يعكف على التفكير في كيفية وضع برامج التعافي والإغاثة ليس لشهور وسنوات قادمة، بل للمتطلبات المستعجلة فور توقف الحرب”.
ونبّه تقرير التنمية البشرية إلى أن التفاوتات العالمية تتفاقم بسبب التركيز الاقتصادي الكبير، مشيرا إلى أن ما يقرب من 40 في المئة من التجارة العالمية في السلع تتركز في ثلاثة بلدان أو أقل. فعام 2021، تجاوزت القيمة السوقية لكل شركة من أكبر ثلاث شركات تقنية في العالم الناتج المحلي الإجمالي لأكثر من 90% من البلدان في ذلك العام. والشركات الثلاث الأكبر في العالم هي “أمازون، مايكروسوفت، وأبل”.
وقال أخيم شتاينر، إن فجوة التنمية البشرية الآخذة في الاتساع، والتي كشف عنها التقرير، تظهر أن الاتجاه الذي استمر عقدين من الزمن والمتمثل في الحد من عدم المساواة بين الدول الغنية والفقيرة قد انعكس الآن.
وأضاف: “على الرغم من ترابط عالمنا بصورة وثيقة إلا أننا مقصرون. ينبغي علينا أن نستفيد من ترابطنا وقدراتنا لمعالجة تحدياتنا المشتركة والوجودية وضمان تلبية تطلعات الناس. وحذّر شتاينر من أن فشل العمل الجماعي في تعزيز العمل بشأن تغير المناخ والتحول الرقمي والفقر وعدم المساواة لا يعيق التنمية البشرية فحسب، بل يؤدي أيضا إلى تفاقم الاستقطاب وزيادة تآكل الثقة في الناس والمؤسسات في جميع أنحاء العالم.
ورداً على سؤال حول تراجع قيم الديمقراطية، أكد شتاينر أن 9 من 10 أشخاص يشعرون بعدم الأمان، وأن القلق هذا يؤدي إلى الخوف وتراجع بعض القيم مثل الديمقراطية. وهذه المُفارقة الناشئة في النظام الديمقراطي تعيق التقدم في العمل الجماعي الدولي: فبينما يؤيد 9 من بين كل 10 أشخاص في جميع أنحاء العالم الديمقراطية، إلا أن أكثر من نصف المشاركين في الاستطلاع العالمي يعبرون عن دعمهم للقادة الذين قد يقوضون الديمقراطية من خلال تجاوز القواعد الأساسية للعملية الديمقراطية.
ووفقا للبيانات التي تم تحليلها في التقرير، أفاد نصف الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع في جميع أنحاء العالم بأنهم لا يتحكمون، أو أنهم يتحكمون بصورة محدودة في حياتهم، ويعتقد أكثر من الثلثين أن تأثيرهم على قرارات حكوماتهم ضئيل.
يشكل الاستقطاب السياسي مصدر قلق متزايدا وله تداعيات عالمية. يقول واضعو التقرير إن القلق يغذي نُهج السياسات الانغلاقية، وهو ما يتعارض بشكل صارخ مع التعاون العالمي اللازم لمعالجة القضايا الملحة مثل إزالة الكربون من اقتصادات العالم، وإساءة استخدام التقنيات الرقمية والصراعات.
ويسلط التقرير الضوء على أن تفكيك العولمة ليس ممكنا ولا واقعيا في عالم اليوم، وأن الترابط الاقتصادي المتبادل لا يزال مرتفعا. وقال شتاينر: “في عالم يتسم بزيادة الاستقطاب والانقسام، يشكل إهمال الاستثمار في بعضنا البعض تهديدا خطيرا لرفاهيتنا وأمننا. ولا يمكن للنهج الحمائي أن يعالج التحديات المعقدة والمترابطة التي نواجهها، بما في ذلك الوقاية من الأوبئة، وتغير المناخ، ووضع لوائح رقمية“. وأضاف أن “مشاكلنا متشابكة، وبالتالي فهي تتطلب حلولا مترابطة بالقدر نفسه”، مؤكدا أنه لا تزال أمامنا فرصة للخروج من المأزق الحالي وإعادة إحياء الالتزام بمستقبل مشترك.
ويؤكد التقرير على كيفية إعادة تشكيل الترابط العالمي، ويدعو إلى جيل جديد من المنافع العامة العالمية. ويقترح التقرير، كما وضح السيد شتاينر في مؤتمره الصحافي، أربعة مجالات للعمل الفوري:
– منافع عامة للكوكب من أجل استقرار المناخ، بينما نواجه التحديات غير المسبوقة التي يفرضها عصر الأنثروبوسين؛ (أي عصر تأثير الإنسان الذي تسبب في تغيير طبيعة الأرض).
– منافع عامة عالمية رقمية من أجل تحقيق قدر أكبر من العدالة في تسخير التكنولوجيات الجديدة لتحقيق التنمية البشرية العادلة.
– آليات مالية جديدة وموسعة، بما فيها مسار جديد في التعاون الدولي الذي يكمل المساعدات الإنسانية والمساعدات التنموية التقليدية للبلدان منخفضة الدخل.
– الحد من الاستقطاب السياسي من خلال انتهاج حكم جديدة تركز على تعزيز أصوات الناس في المداولات ومعالجة المعلومات المضللة.
وفي هذا السياق، أكد التقرير على الدور المهم الذي تؤديه الدبلوماسية متعددة الأطراف، لأن التعاون الثنائي ليس بوسعه معالجة الطبيعة الكوكبية غير القابلة للاختزال لتوفير المنافع العامة العالمية.
وكان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، قد سجل رسالة بمناسبة إطلاق التقرير قال فيها “إننا نعيش في عصر الاستقطاب”، مشيرا إلى أن تقرير التنمية البشرية لهذا العام يستكشف جذور الاستقطاب وتأثيره المدمر على التنمية المستدامة.
وأضاف غوتيريش أن التقرير يوضح أن “أفضل أمل لنا في المستقبل يكمن في التصدي للخطاب المثير للانقسام والتأكيد على الأرضية المشتركة التي توحد الغالبية العظمى من الناس في كل مكان”. ويدعو التقرير، وفقا للأمين العام، إلى التوسع العاجل في أنظمة التعاون الدولي، حتى تتمكن من تحقيق أولويات الناس في التنمية المستدامة؛ بيئة نظيفة؛ كوكب صالح للعيش والأمن والأمان والكرامة لكافة الناس.
وقال الأمين العام إن قمة المستقبل المقرر انعقادها في أيلول/سبتمبر القادم ستنظر في هذه المسائل على وجه التحديد. وأضاف: “بينما نستعد للقمة، أوصي بتقرير التنمية البشرية باعتباره مساهمة مهمة. إنه يبين أن حلول المشاكل العالمية في متناول أيدينا من خلال إعادة تصور التعاون والاتحاد من أجل عالم أفضل”.
وللعلم، فقد بدأ إصدار “تقرير التنمية البشرية العالمي” قبل نحو ثلاثة عقود، وذلك لقياس مدى تقدم البشرية ليس فقط عن طريق قياس الدخل القومي، بل باستخدام عدد واسع من المؤشرات مثل سنوات التعليم والوضع الصحي والعمر المتوقع واستيعاب المرأة ودمجها وغير ذلك.