الخرطوم ـ «القدس العربي»: في وقت تتواصل فيه الزيارات السرية بين القادة العسكريين السودانيين والحكومة الإسرائيلية، دعت لجان المقاومة وتجمع المهنيين السودانيين لتظاهرات «مليونية» جديدة اليوم الخميس، في العاصمة السودانية الخرطوم والمدن الأخرى، للمطالبة بإسقاط الانقلاب العسكري وتسليم السلطة للمدنيين، فيما بدأت الأجهزة الأمنية حملات اعتقال لعدد من قادة «الحرية والتغيير».
شملت الاعتقالات وزير شؤون مجلس الوزراء السابق، عضو المجلس السياسي لحزب المؤتمر السوداني، خالد عمر، والقيادي في حزب البعث العربي الاشتراكي الأصل، مقرر لجنة إزالة التمكين وجدي صالح، والأمين العام للجنة، الطيب عثمان.
«خيانة الأمانة»
وأعلن صالح في تغريدة على حسابه في تويتر، تحويله مع عثمان، للقسم الشمالي في الخرطوم «للتحري في بلاغات موجهة ضدهم بخيانة الأمانة» مؤكداً، احتجازهم بحراسة القسم الشمالي، ثم سجن أمدرمان.
وأدان تجمع المهنيين السودانيين «حملة الاعتقالات التي تقوم بها السلطة الانقلابية تجاه القيادات السياسية ولجان المقاومة واقتحام دور الأحزاب واللجان» معتبرا اعتقال تلك القيادات «رد فعل من العسكريين لكشفهم الحقائق وتصديهم للحملات الإعلامية التي استهدفت لجنة إزالة التمكين، وللتغطية على إعادة منسوبي النظام السابق وإلغاء قرارات اللجنة الخاصة بالأصول المستردة».
وأشار التجمع لتلقيه معلومات عن تحضير السلطة الانقلابية قوائم اعتقالات في العاصمة والولايات في محاولة لإضعاف التظاهرات الرافضة للانقلاب، مؤكدا أن «خط إسقاط الانقلاب مستمر ولن يتوقف إلا بتحقيق مطالب الشارع».
في الأثناء، كشفت وسائل اعلام إسرائيلية عن زيارة غير معلنة لمبعوث من المجلس السيادي السوداني لإسرائيل، لم تؤكدها الأجهزة الرسمية.
وعلمت «القدس العربي» أن عضو المجلس السيادي المقرب من إسرائيل، أبو القاسم برطم، خارج البلاد منذ عدة أيام.
وهو يعد من أبرز المؤيدين للتطبيع بين السودان وإسرائيل، ونظم في فبراير/ شباط الماضي، ملتقى حول التسامح الديني في منزله شارك فيه حاخام إسرائيلي، وأعلن وقتها أنه يعتزم زيارة دولة الاحتلال على رأس وفد من المؤيدين للتطبيع.
وتولى برطم، الذي يعمل في مجال الأعمال، منصبه في المجلس السيادي، بعد أسبوعين من الانقلاب العسكري الذي نفذه قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
وسبق ذلك توليه منصب نائب في البرلمان في عهد النظام السابق.
ووقعت الخرطوم وواشنطن اتفاقيات إبراهام الخاصة بالتطبيع مع إسرائيل في يناير/كانون الأول 2021، الأمر الذي قوبل بالرفض من قوى سياسية ومدنية عديدة في السودان.
وقالت السفارة الأمريكية وقتها إن اتفاق إبراهام يسمح للسودان واسرائيل والدول الأخرى الموقعة عليه ببناء ثقة متبادلة وزيادة التعاون في المنطقة.
جاء ذلك بعد فترة وجيزة من إعلان الولايات المتحدة الأمريكية رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب في ديسمبر/ كانون الأول 2020، والذي كان أحد شروطها غير المعلنة التطبيع مع إسرائيل.
ورغم توقيع السودان على اتفاق إبراهام، أكد رئيس الوزراء السوداني السابق عبد الله حمدوك، أن ملف التطبيع مع إسرائيل لن يتم اتخاذ قرار بشأنه إلا عبر البرلمان، الذي لم يتكون حتى حدوث الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
ورأى الخبير الأمني أمين مجذوب الذي تحدث لـ« القدس العربي» أن ملف التطبيع بين السودان وإسرائيل هو «ملف جديد على السياسة الخارجية السودانية، بدأ منذ لقاء البرهان – نتنياهو، في عنتبي» مشيرا إلى أن هذا الملف «ظل يتأرجح ما بين مجلس السيادة والوزراء والمؤسسة العسكرية والأمنية».
بين دائرتين
ولفت إلى أن «السودان يقع في دائرتين مهمتين بالنسبة للأمن القومي الإسرائيلي؛ الدول العربية والأفريقية، فضلا عن اهتمام إسرائيل بكسر المعاداة لإسرائيل التي ارتبطت بمؤتمر اللاءات الثلاث: لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض مع إسرائيل، الذي انعقد في الخرطوم في عام 1967، باعتبار أن تغيير موقف السودان من التطبيع قد يجذب دولا عربية وأفريقية أخرى».
ورغم أهمية التطبيع السياسي والاقتصادي والثقافي بالنسبة لإسرائيل، إلا أن مجذوب بيّن أنه يتم «التركيز في الوقت الرهن على الجوانب الأمنية والعسكرية» مشيرا أن «الجانب السوداني لايزال متخوفا من القيام بخطوات معلنة في الصدد».
وأشار إلى أن «المعلومات حول الزيارات بين الجانبين، غالبا ما تصدر من الجانب الإسرائيلي، بينما يكون هناك تكتم من الجانب السوداني، خشية من المواقف الشعبية والدينية والسياسية الرافضة، والصاق ملف التطبيع بشخصية بعينها إذا تم إصدار بيان من الجانب السوداني، لذلك كل المعلومات ترد من الجانب الإسرائيلي.
وزاد أن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل تنظران للسودان كمنطقة حيوية للأمن القومي الأمريكي لتوسطه القارة الأفريقية واعتباره بوابة الدخول لأفريقيا، مما يجعل مصالح البلدين الاستراتيجية مرتبطة بالسودان.
وأضاف: أمريكا تريد أن تمنع القوى العظمى المنافسة لها من الوصول للشواطئ السودانية على البحر الأحمر، وأن تمنع الصين من الدخول اقتصاديا للسودان ومن التمدد في أفريقيا وفرنسا ومن التمدد في الدول الفرانكفونية المحاذية للحدود الغربية السودانية، مشيرا إلى أنها تريد الانفراد بالسواحل والاقتصاد السوداني.
اعتقال قيادات في «الحرية والتغيير»… وتوصيات أممية حول حقوق الإنسان
وتابع: خطوات واشنطن لحماية مصالحها في السودان كانت واضحة خلال دعمها للحكومة الانتقالية ورفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وتقديم قرض تجسيري لسداد فوائد ديون السودان، في وقت مضت فرنسا في إطار المنافسة مع واشنطن بتقديم قرض تجسيري للسودان أيضا لسداد الديون.
وفي المقابل، تسعى إسرائيل لامتلاك أراض زراعية في السودان والحصول على نصيب من مياه النيل، حسب مجذوب، الذي أضاف « لا بد أن تكسب السودان إلى جانبها كما كسبت إثيوبيا ومصر من قبل».
وأكد أن «جميع الزيارات المتبادلة تصب في إطار مصالح إسرائيل حتى الآن، وان الجانب السوداني لم يحدد ماذا يريد من إسرائيل سواء كان من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية أو العسكرية».
ولفت إلى أن «هناك أطرافا سودانية تتبادل الزيارات مع إسرائيل، ليست لها أهمية سياسية حتى الآن» مرجحا أن تكون تحركاتها فقط لكسب ملفات خاصة بها.
وأشار إلى أن ملف التطبيع سيأخذ وقتا طويلا جدا لأن التطبيع لديه شق سياسي واجتماعي وثقافي وأمني واقتصادي، وكل هذه الملفات يجب أن تتكامل مع بعضها البعض، حتى تكون هناك علاقات واضحة بين السودان وإسرائيل.
وتابع أن التصديق على قرار التطبيع مع إسرائيل يجب أن يتم عبر برلمان منتخب، وليس خلال الفترة الانتقالية لجهة التعقيدات والحساسية المرتبطة بالملف.
سطوة اللوبي الصهيوني
أما المحلل السياسي حاج حمد فقد أكد لـ«القدس العربي» «سطوة اللوبي الصهيوني على أجهزه الخارجية الأمريكية ولجان الكونغرس» موضحا أنه يمول اثنين من كل ثلاثة نواب فضلا عن أن تمويله حاسم في انتخابات الرئاسة.
وأرجع «العلاقة بين العسكريين وإسرائيل إلى الفترة التي لحقت الحرب الباردة، والحرب على ما يسمى بالإسلام السياسي الذي كانت أولى ضحاياه الديمقراطية في السودان، حيث دعم الغرب إسقاط حكومة الصادق المهدي، وإقامة حكومة كانت منذ يومها الأول غطاء لحشد وتدريب الميليشيات الإثيوبية الإريترية لإسقاط النظام السوفييتي في القرن الأفريقي» على حد قوله.
وأضاف: «بعد ذلك صارت الأجهزة الأمنية والعسكرية هي الأداة للدفع بمصالح اسرائيل، وحيثما تعارضت سياسة الولايات المتحدة واسرائيل في المنطقة تسود المصالح الإسرائيلية».
وتابع: «تحت ضغط الشارع السوداني والخوف من التمدد الروسي الصيني تحاول الولايات المتحدة أن تنائ عن الحكم العسكري وتترك كل العسكريين لإسرائيل، التي تبذل جهودا كبيرة للحصول على التطبيع العلني».
وحسب قوله «استخدام قادة الانقلاب للعنف المفرط لقمع المظاهرات سيعطل مسار التطبيع ويجعل العسكر وحلفاءهم يقفون في مرحلة السرية والتنسيق الأمني».
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعات السودانية، صلاح الدومة، بيّن أن إسرائيل فاعلة في المشهد السوداني الراهن بشكل كبير، مشيرا للزيارات المتكررة بين الوفود العسكرية والأمنية السودانية والإسرائيلية، فضلا عن طلب الولايات المتحدة الأمريكية من إسرائيل التوسط في الشأن السوداني عقب الانقلاب.
وقال «الدومة» لـ«القدس العربي» : إسرائيل «تريد التطبيع مع السودان في الجوانب الأمنية والعسكرية وتريد المرور عبر الأجواء السودانية الذي يوفر عليها مليارات الدولارات».
ولفت إلى أن إسرائيل «تعتقد أن دعمها للعسكريين سيسهل عملية التطبيع أكثر من المدنيين، لكن بالمقابل زاد الموقف الشعبي الرافض لإسرائيل في السودان بعد دعمها للانقلاب» مشيرا إلى انها تتعمد خلق تسابق بين المجموعات العسكرية في السودان للتقرب منها.
في الجانب الآخر، يرى العسكريون، حسب الدومة أن «دعم العسكريين يوطد حكمهم، ويثبت الحلف الرباعي بين إسرائيل والإمارات ومصر والعسكريين في السودان».
وعلى صعيد آخر، انعقدت أمس الأربعاء، جلسة الاستعراض الدوري الثالث لحقوق الإنسان في السودان، في العاصمة السويسرية جنيف.
وأعلن مجلس حقوق الإنسان تأجيل الجلسة التي كان من المقرر انعقادها الأسبوع الماضي، مرتين، مبررا ذلك بالحاجة إلى المزيد من الوضوح بشأن تمثيل السودان في الدورة الأربعين للفريق العامل المعني بالاستعراض الدوري الشامل لحقوق الإنسان، حيث طلب من أمانة المجلس التشاور مع مكتب الأمم المتحدة للشؤون القانونية وخدمات المراسم والاتصالات في أقرب وقت ممكن.
جاء ذلك بعد تهديد قادة الانقلاب بعدم الاعتراف بمخرجات الجلسة، متهمين آلية الاستعراض الدوري بـ«تسييس» عمل مجلس حقوق الإنسان وآلياته والخروج عن أهدافه الخاصة بصون الحقوق، معتبرين تمسك الآلية بسفير السودان الشرعي في جنيف علي أبو طالب «انتهاكا لسيادة الدولة وللتقاليد الدبلوماسية».
ويبدو أن الأمم المتحدة استجابت لضغوط العسكريين، حيث حضر الجلسة نائب رئيس بعثة السودان في جنيف، عثمان أبو فاطنة، كقائم بأعمال بعثة السودان، بدلا من أبو طالب، بينما ترأست وكيلة وزارة العدل المكلفة هويدا علي، وفد السودان.
وقدم عدد من الدول الأعضاء، توصيات للسودان بخصوص التزاماته بالاتفاقات التي وقع عليها، أبرزها اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، والاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، فضلا عن توصيف عدد من الدول للوضع في السودان بالانقلاب العسكري، والإشارة للانتهاكات التي حدثت منذ انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وسط اعتراضات الوفد السوداني المتكررة.