أظهرت أدوات الذكاء الاصطناعي في العقود الأخيرة قدرة فائقة على التنبؤ بنتائج المحاكمات القضائية، بدقة تعدت بكثير توقعات الخبراء القانونيين البشر. وفي عام 2019، استطاع «الوسيط الروبوتي» الذي يستخدم تقنية الذكاء الاصطناعي أن يفصل في نزاع قانوني استغرق ثلاثة أشهر كاملة في أقل من ساعة. وها هي اليوم محاكم في أنحاء الولايات المتحدة، تستعين بأنظمة الذكاء الاصطناعي لاتخاذ أحكام جنائية. وها هي «المحاكم الذكية» في الصين تستخدم الذكاء الاصطناعي لأداء جملة من الوظائف كتحليل الأدلة، والتوصية بالقرارات، وضمان الاتساق مع أحكام قضائية سابقة. يدعونا ذلك حتما إلى التساؤل عما إذا آن الأوان لتطبيق هذه التكنولوجيا على واحدة من المنافسات الأكثر إثارة للجدل في عالمنا، مسابقات الجوائز الأدبية؟ ما حققته الروبوتات الذكية من انتشار ونجاح في الحقل القضائي يشير إلى قدرة هذه التقنية على خدمة مسابقات الجوائز الأدبية وإمكانية استخدامها لتقييم الأعمال الأدبية واتخاذ قرارات أكثر دقة وموضوعية، تضاف إليها مبررات عدة، نستعرض بعضا منها من خلال هذا المقال.
الذكاء الاصطناعي يتفوّق في القراءة
من بين الانتقادات الموجهة إلى لجان الجوائز الأدبية عدم قدرة أعضائها على قراءة أعداد هائلة من الكتب في أوقات وجيزة. المخاوف من عدم قراءة جميع الكتب المشاركة قراءة عميقة واتخاذ قرارات اعتمادا على قلة من الكتب المرشحة تزداد سنة بعد سنة. ويزداد معها التشكيك في عدالة القرارات المتخذة. ففي مقال بعنوان «من يهتم بالجوائز الأدبية؟»، يجادل المؤلفون المشاركون ألكسندر مانشيل، ولورا. ب. ماكجراث، وجيه. دي بورتر في صدق الجوائز الأدبية عندما تستند إلى عدد قليل من الكتب المرشحة، مؤكدين أن «حكام جائزة بوكر أعلنوا عن القائمة المختصرة لعام 2019، واختاروا ست روايات فقط من ضمن أكثر من 100 ألف عنوان جديد نُشر باللغة الإنكليزية في تلك السنة!». تؤكد هذا الانشغال أيضا الكاتبة والإعلامية ثوي أون، التي عملت حكما في العديد من المسابقات الأدبية. ففي مقال نُشر في فبراير/شباط 2024، ردت على سؤال يشغل كثيرين وهو، ما إذا كانت لجان الجوائز الأدبية تقرأ كل صفحة من كل كتاب، أو مخطوطة، فتقول «بالتأكيد لا؛ ستكون هذه مهمة مستحيلة بحكم الجداول الزمنية الضيقة. فمعظم الحكام يقرأ عدة فصول لتقييم جودة الكتابة. فإن أثار النثر أو الشعر اهتمامه، استمر في القراءة.. وإن لم يجذب اهتمامه النص لأي سبب، لا يرجح أن يواصل القراءة. ثمة العديد من الأعمال الأخرى في الانتظار».
الأمر يبدو طبيعيا فعضو لجنة التحكيم بشر له قدرات محدودة. وقد تثقل كاهله مشاغل الحياة وكثرة الالتزامات، وهو ما حذّر منه الشاعر عيادة خليل الذي قال، «من شروط اختيار الناقد أن يكون متفرغاً للمسابقة تفرغاً تاماً، فلا تختار ناقدا مشغولاً بأعمال أخرى تضطره إلى قراءة النصوص قراءة سريعة دون تأمل، فيُصدر حكماً سريعاً وقد يكون مجحفا». على عكس البشر، تتمتع الروبوتات الذكية بقدرة فائقة على القراءة الدقيقة المركزة. وقد أثبتت التجارب تفوق الذكاء الاصطناعي على البشر في اختبارات القراءة. ويملك الذكاء الاصطناعي كفاءة عالية في المعالجة السريعة والتفسير الدقيق لكميات هائلة من المعلومات، وفي أوقات قياسية. وهو ما يعني قدرة الروبوتات على تقييم كميات كبيرة من الكتب تتعدى قدرة الإنسان. تجعل هذه الميزة الذكاء الاصطناعي بديلاً مميزا للتحكيم في مسابقات الجوائز الأدبية.
يحلّ مشكلة اختيار أعضاء التحكيم
من المسائل المثيرة للجدل في المسابقات الأدبية اختيار أعضاء لجنة التحكيم. فكثيرا ما تُثار أسئلة عمن يحق له المشاركة وشكوك في نزاهة الاختيارات. عادة ما تتولى تعيينَ الحكام هيئةٌ حاكمة لمنظمة ما دون إشراك هيئات أخرى، أو استشارة أحد، ما يفضي دوما إلى خلافات حول الحكام المختارين. من الاتهامات المترددة اختيارات قائمة على وساطات وهو ما ذهب إليه الكاتب عبده الأسمري الذي قال، «ويتمثل الاتجاه الأخير في المحاباة والمجاملة والوساطات، التي تتمثل في ضم أسماء غير مؤهلة إلى لجان التحكيم، وهذا يمثل عائقا كبيرا في توظيف الجودة والمهنية المطلوبة في نتائج تلك اللجان»
من الاتهامات الأخرى اختيار حكم غير مؤهل لتقييم النصوص الأدبية المرشحة كاختيار شاعر لتقييم نص روائي لا خبرة له في صنف الرواية، وهو ما أشار إليه أيضا الأسمري «ويتمثل الاتجاه الثاني من المشكلة في الاستعانة بأشخاص ليسوا متخصصين، فمثلا، قد يتم اختيار شخص يحكّم رواية وهو شاعر أو آخر يحكّم شعر وهو روائي وهكذا». ما يزيد المسألة تعقيدا تردد أسماء الحكام ذاتها سنة بعد سنة، ما يعني استمرار تقييم الأعمال الأدبية وفق ذائقة معينة ومزاجية لجنة التحكيم واحدة. فلا عجب إن تردد فوز بعض الأسماء بالجائزة ذاتها أكثر من مرة بحضور اللجنة ذاتها، رغم توفر مواهب أدبية أخرى لا تحصى. من الذين انتقدوا هذه الظاهرة الأسمري الذي أشار إلى وجود «خلل في اختيار لجان التحكيم، تتعلق أولاً بتكرار الأسماء سنوياً، ما حوّل الأمر إلى روتينية مملة وبيروقراطية مكررة كل عام».
استخدام حكام الذكاء الاصطناعي في مسابقات الجوائز الأدبية سيكون الحل الأمثل لمثل هذه الخلافات. فالروبوتات الذكية ستكون حتما مؤهلة قادرة على تقييم الأعمال الأدبية المرشحة بكل أصنافها بعدل وموضوعية، ودون تحيز أو تفضيل لأحد.
وهكذا من خلال تبني لجان تحكيم الذكاء الاصطناعي، يمكن للمسابقات الأدبية أن تدخل عصرا جديدا من الشفافية والموضوعية.
يقدم حلولاً لمشكلة تضارب المصالح
من التحديات الكبرى التي تواجهها لجان تحكيم الجوائز الأدبية تضارب المصالح، وهو يحدث عادة عندما تربط عضو لجنة التحكيم والمرشح للجائزة علاقات شخصية أو مصالح ما كالانتماء إلى دار نشر واحدة، ففوز المرشح منها تمنحها فرص المشاركة بعدد أكبر من المرشحين في المسابقات الموالية. وقد تعمقت العلاقات وتوسعت المصالح بظهور منابر التواصل الاجتماعي، يجسدها تفاعل كاتبٍ مع صديق كاتب لأجل المجاملة أكثر منه عن اقتناع. في المقابل، لا نراه يبارك إصدارات أقلام أخرى، لاسيما الجديدة ولا نراه يتفاعل إلا مع منشورات الكاتب الصديق. وقد يقع الاختيار على هذا الكاتب لتقييم عمل المرشح الصديق في غياب الرقابة، وهو ما يعد تضاربا صارخا في المصالح.
وفي مجتمعات متأثرة بالمشاعر الوطنية، نرى عضو لجنة جائزة يقيم عمل مواطنه، ويفضله على مرشحي أوطان أخرى مرشحة. وقد اشتكى من هذه الظاهرة الشائعة كثيرون أمثال الكاتب والشاعر السوري بشير البكر الذي قال، «ويجب عدم تبرئة لجان التحكيم، فهي التي تتحمّل مسؤولية رفع عمل أو إسقاطه، وهناك حكايات كثيرة باتت متداولة عن المحسوبية والعلاقات الخاصة والعصبية الوطنية، ويدور حديث في كواليس الجائزة، عن ظهور انقسامات داخل أكثر من لجنة تحكيم على أساس مناطقي، سببه تعصب بعض المحكمين للمرشحين من بلدهم، ولذلك تأتي اللائحتان الطويلة والقصيرة حصيلة للتراضي بين أعضاء اللجنة. وقد أثّر ذلك في مستوى الجائزة وسمعتها، وسمح لروايات بالفوز ليست هي الأفضل من بين الأعمال المتقدمة، وبرزت هذه الظاهرة بقوة خلال الدورات الأربع الأخيرة.»
استخدام حكام الذكاء الاصطناعي مستقبلا سيضع حدا لهذه الظاهرة والجدل المحيط بها، وسيضمن معاملة جميع المرشحين معاملة متساوية عادلة لأنَّ روبوتات الذكاء الاصطناعي متحررة من العلاقات الشخصية، مجردة من العاطفة الوطنية والمصالح الشخصية، وهي كلها من طبيعة البشر.
يضع حدا لمسألة التحيز الجنسي
من الانتقادات التي باتت تُوجّه للجان الجوائز الأدبية التحيز الجنسي، وهيمنة الرجل على الميدان. وقد سلطت الكاتبة والمحررة سارة فيل، الضوء على هذه الظاهرة مؤكدة على نزعة أعضاء لجان التحكيم، سواء بوعي أو بغير وعي، إلى تفضيل المرشحين الذكور. وتؤكد فيل أنه عبر تاريخ مسابقة جائزة بوكر، وعلى مدى 45 سنة، لم تُكرَّم سوى 16 امرأة، مع ملاحظة أنماط مماثلة في جوائز أخرى مثل بوليتسر ونوبل. وتستشهد فيل بتحليل الروائية البريطانية نيكولا غريفيث للجوائز الأدبية الكبرى بين عامي 2000 و 2015، الذي كشف عن تباين كبير: من بين 16 فائزا بجائزة بوكر، لم تبرز المرأة في دور البطولة إلاَّ من خلال 3 روايات، وكلها من تأليف نساء. تضيف فيل، «لا مفر من الاستنتاج أن أولئك الذين يُقيِّمُون الأعمال الأدبية ينظرون إلى النساء على أنهن مخيفات أو بغيضات أو مملات».
لا يقتصر الجدل حول التحيز الجنسي على أبطال الرواية أو الفائزين بالجوائز فحسب، بل يمتد أيضا إلى أعضاء لجان التحكيم. تقول فيل، «وعليك أن تفكر في من يقرر الجوائز أيضا. أعني، هل لجان التحكيم متوازنة؟ في ما يخص جائزة بوكر، تشكلت اللجنة من امرأتين وثلاثة رجال – فالأمر ليس متساوياً».
تؤكد هذه المؤشرات والدلائل استمرار وقوع الإنسان في فخّ التمييز عن قصد أو من غير قصد وهو ما انعكس أثره في عالم الجوائز الأدبية من خلال التمييز ضد المرأة.
إنّ دمج الذكاء الاصطناعي في مسابقات الجوائز الأدبية كفيل بضمان تقييم عادل مجرد من التحيزات الجنسية. فالإنسان قادر على تزويد روبوتات الذكاء الاصطناعي ببيانات متنوعة وشاملة تمنع حدوث أي تحيزات بين البشر.
وهكذا، مع زيادة التطور التكنولوجي واتساع مجالات تطبيق الذكاء الاصطناعي وامتدادها إلى الحقل القضائي، بات من الضروري علينا اقتراح دمج تقنية الذكاء الاصطناعي في مسابقات الجوائز الأدبية. عكس أعضاء لجان التحكيم البشر، روبوتات الذكاء الاصطناعي مجردة من العواطف والمشاعر الوطنية والمصالح الشخصية. وللذكاء الاصطناعي قدرات خارقة على قراءة أعداد كبيرة من الكتب، في أوقات قياسية وبكفاءة عالية، تتعدى قدرات البشر. ويمكنها الاستفادة من المراجعات عبر الإنترنت وآراء القراء لإجراء تقييمات أكثر شمولاً وإنصافاً. ويمكن تدريبها أيضا لمحو كل أشكال التمييز. ومع استمرار التطور التكنولوجي، فإن تبني حكام الذكاء الاصطناعي في المسابقات الأدبية سيمهد الطريق لمستقبل أدبي أكثر شفافية وإنصافاً ومنطقا بمشاركة كل الأعمال الصادرة في السنة، بعيدا عن شروط المشاركة الحالية التي لا تسمح بتقييم إلا أعمال نخبة من الكتاب ضمن أطنان المؤلفات، ما يشكك في عدالة مسابقات الجوائز الأدبية وجدوى الاهتمام بها.
كاتب جزائري