من الوارد أن تتعرض التجارب الشعرية في مساراتها، إلى القليل أو الكثير من الكبوات المعرفية والجمالية، على ضوء تباين مستويات استيعابها لدلالات المقولات النظرية، التي تستند إليها في هندسة معمارها. وغالبا ما يؤدي سوء الفهم، إلى تبنيها لقناعات لا صلة لها بجمالية الكتابة الشعرية، خاصة حينما تحيل بعض هذه التجارب على علاتها إلى عنوان مرحلة بأكملها، بفعل تكريسها من قبل الحواريين، بوصفها مصدرا أساسيا من مصادر تحديث القول الشعري والنقدي على حد سواء.
ولعل أهم المقولات النظرية التي ساهمت ضمن هذا السياق بشكل كبير في استقطاب سيل جارف من المغالطات، تلك المنتمية إلى إغراءات المرجعيات التركيبية، التي يتطلب فهمها زادا وفيرا من المعرفة النظرية. كما يتطلب التفاعل معها، امتلاك خبرة جد متقدمة بتقنيات اشتغال المفاهيم المتميزة أساسا بقابليتها المعرفية، للتنقل بين حدود الخطابات الفلسفية والجمالية. ولعل مقولة استقلالية العالم الداخلي للكتابة الشعرية عن كل ما يقع خارجه، هي الأكثر استقطابا في هذا السياق. ويتعلق الأمر هنا بمسار تحديثي طويل، قوامه حلقات متتالية من الإسهامات النظرية، التي تتقاطع وتتداخل فيها المرجعية الفكرية باللسانية والسيميائية، والجمالية، والتي كان لها دور بارز وفعال، في إغناء الخطاب الشعري على المستوى الكوني. ويمكن اعتبار الحجر الأساس في هذا المسار، الرؤية المستقبلية التي دشنت بها جماعة “الشكلانيين الروس” مشروع الاحتفاء بخصوصية اللغة الشعرية، كي يتم تطويره وتخصيب تربته، من قبل مختلف التيارات المندرجة في الإطار نفسه، التي تميزت بقوة حضورها على امتداد القرن المنصرم. وهو امتداد زمني، كان كافيا لإحداث انقلابات جذرية، سواء بالنسبة للكتابة الشعرية، أو بتلقيها، حيث نذكر من بين أهم سماتها، إصرار الرؤية الحديثة على طرد المكون التاريخي من الفضاء الشعري، بما يتخلله من وقائع سياسية ومجتمعية، وما يواكبه من تأطير أيديولوجي ومنهجي، خاصة حينما كشفت بعض عناصر – هذا المكون- عن وحشيتها الدموية، التي طالما نجحت شعاراتها البراقة والفضفاضة في إخفائها. ذلك أن معسكرات الأيديولوجيات التي طالما وعدت شعوبها بالزحف الحثيث نحو مستقبلها المنتظر، لم تتورع في التخلص منها، برميها في حمم الجحيم، كلما دعت ضرورة التسلط والهيمنة لذلك. إذ من هذا المنطلق، ستسود حالة من اليأس تجاه الشعارات البراقة والخادعة، التي دأب حماة الأيديوىوجيات على رفعها والتلويح بها. وبالصيغة نفسها تم طي صفحة النزعة الكلاسيكية، والرومانسية ذات النبرة الرسولية. إذ على ضوء هذا الواقع الجديد تم كذلك، استبعاد نفوذ الذات الشاعرة، التي كانت معتدة بمركزية وظيفتها، بوصفها وسيطا مباشرا بين الواقع وكتابته شعرا.
وكما هو معلوم، فإن الفضل في هذه القطيعة، يعود إلى شعرية الجسر الفاصل بين الرؤية التقليدية والحداثية للعالم، والذي كان الفضل في تدشينه، الاجتهادات المتعددة المنجزة من لدن التيار البنيوي، والذي مهد لهيمنة الموجة التفكيكية على الجسر بكامله بريادة الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، كي تترك قناعة الأخذ بالمعنى الواحد، مكانها لقناعة المعنى المتعدد والمؤجل دائما. أيضا ستتقلص مع التفكيكية سلطة الكلام، على حساب احتلال الكتابة مركز المساءلة، بوصفها ذاتا مستقلة بكينونتها، ومنفصلة عن ذات الشاعر، الذي فقد دوره التقليدي، فلم يعد المالك الحقيقي للنص، بقدر ما أمسى مجرد ناسخ لـ”قول” منفتح على محتمله، تعود ملكيته الفعلية للكتابة وقرائها.
ولأن الكتابة هي سليلة مرجعيات متباينة المقاصد والغايات، فإنها أمست المجال الأثير لتنشيط دوامات الاختلاف، التي لم تعد تسمح بتبلور ذلك التناغم والانسجام اللذين طالما تغنى النص بجماليتهما، حيث حلت إشكالية التشظي النصي، محل الحديث عن وحدته، التي كانت تعتبر من قبل بمثابة قانونه الأساسي، والناظم لشتاته. بمعنى أن استراتيجية التفكيك، كشفت عن تفاعل عدة أرواح نصية، تتبادل في ما بينها لعبة الحضور والغياب داخل النص الواحد. وكلها عوامل شجعت القراءة – التي غدت هي أيضا تفكيكية المنحى- على إعادة النظر في مفهوم ظاهر النص وباطنه، في أفق مراهنتها على تنامي الشحنة الدلالية، عبر التحرير اللامشروط لألاعيب “الدليل ” الكفيلة بتفجير طاقة اللغة.
انطلاقا من هذه الإضاءات الخاطفة، تتضح نسبيا معالم المنعطف الذي شرعت الكتابة الجديدة في حفره، والمستلهم من تجارب النصوص الكونية الحاضرة في ذاكرة المدونة الشعرية، والتي أثبتت بالملموس جمالية انفتاحها الدلالي، فضلا عن تمردها على أي تصنيف نظري جاهز ومبتسر. ولعل أهم إشكال يمكن استنتاجه من خصوصية هذا المنعطف، هو سوء استيعاب أبعاده وإشاراته من لدن “المفسدين في الشعر” وفي النقد أيضا، الذين يختزلون مقوماته النظرية الشائكة، في مغالطة فادحة، مفادها أن تفجير طاقة اللغة الشعرية، لا يتحقق إلا من خلال الإبقاء عليها في معزل عن أجواء مسرح الحياة. والحال أن هذا المسرح الآهل بالحركة، والمستوعب لكل نداءات الوجود، هو الإطار ذاته الذي تستمد منه اللغة الشعرية جاذبيتها وسحريتها، وطبعا ضمن الأسس التي تمليها وتشترطها قوانينها. فوظيفة المكون المجازي والاستعاري في اللغة الشعرية، لا ينحصر فقط في تحسين البنيات اللفظية والتعبيرية، بقدر ما هو الطريق المفضي إلى جوهرها الدلالي، والذي يكشف بشكل أو بآخر، عن هوية تلك الظواهر الغامضة المستأثرة أبدا باهتمام الكائن. وما نعنيه بالغامض في هذا السياق، هو مجموع تلك التفاصيل التي يصرفنا استئناسنا بها وتعودنا عليها، عن التوقف عند كنهها، وحقيقتها، إلا في بعض اللحظات الصاعقة، التي نجد أنفسنا صدفة وجها لوجه أمام التباسها الكبير.
إن الأمر هنا لا يتوقف فقط على الإشكاليات الوجودية، التي يحار الكائن في استكناه أسرارها، كما هو الشأن بالنسبة لإشكالية الوجود والعدم، وما يدور في فلكها من تساؤلات فكرية وسيكولوجية، لا يمكن بحال أن يتسع لها مقام اللغة العادية، بل يتجاوزه كذلك إلى القضايا المندرجة ضمن ما هو عادي وطبيعي، على غرار المواقف الإنسانية التي تغمر مشاعر وأحاسيس الكائن، دون أن تتمكن اللغة المعيارية والعادية من فك شيفرتها، وتأويل أسرارها.
ذلك أن هذه الأخيرة تستند في منطلقاتها على أرضية التبليغ، والإفهام، والإفادة. الشيء الذي لا يتحقق إلا في سياق الإحاطة التامة بحيثيات الموضوع المتناول، كما هو الشأن بالنسبة لحركية العلاقات المجتمعية، التي يتم نسجها بالاستناد إلى قوانين تواصلية واضحة ومحددة، ما يتناقض جملة وتفصيلا مع حقيقة العوالم المحتجبة خلف هذه العلاقات، والتي تعتبر من وجهة نظرنا المصدر الخفي والحقيقي لتفاعلاتها. بمعنى أن الغاية من تواصلنا الشعري مع هذه العوالم الخفية، هو في الأصل، تساؤل واستفسار عن دلالاتها ومعانيها غير المطروقة وغير المتداولة، وبالتالي، سيكون من الطبيعي أن نوظف في تواصلنا هذا، لغة متماهية مع طبيعة العوالم المعنية بالمساءلة، أي اللغة المندرجة عادة في إطار الأنساق المجازية والاستعارية. وهي على العموم أنساق لا تتوخى إفادتك بأي شيء، لكونها لا تملك بدورها حقائق محددة حول الأسئلة المطروحة عليها. إنها هي أيضا تبحث عن “الإفادة ” المتعلقة بذلك الشيء الغامض الذي اصطدمت به، والذي كان سببا في إيقاظ القول الشعري، باعتباره تساؤلا عن هوية “الشيء” الغامض، وأيضا باعتباره محاولة للكشف عن هوية هذا الشيء، بصرف النظر عن مرجعيته، التي يمكن أن تحيل على ما وراء الطبيعة، أو ما وراء مشاهد القتل، التي تغص بها شاشات العالم، وفضاءاته على السواء..
*شاعر وكاتب من المغرب