مسامرات «غزال التبت»

حجم الخط
0

حين تكون فتى، تحمل الشعر في داخلك، مثل شرايين من الضوء تعينك على تبصر الطريق، تتفتح لتنير حياتك الغامضة ومستقبلك غير المعلـــــوم، هذا الضوء الذي هو الشعر دون شك، هو الوحيد الذي لا يخونك في مسيرتك الطويلة مع الحياة، سيظل الصاحب والمُعين والهادي، وأنت تتقدم في ليل العالم.
لعل قوة الشعر هذه، هي التي دفعتْ شاباً في مطلع العشرين، اسمه أمجد ناصر، لأن يسافر إلى أرض الشعر، ألا وهو العراق، باحثاً عن المعنى والمدلول والرمز هناك. سيلتقي أمجد الشاعر المتحمِّس للشعر، والمتحمّس باكراً للقضية الفلسطينية، وعبر الجبهة الشعبية التي كان يعمل فيها كصحافي في جهازها الإعلامي، سيلتقي بسعدي يوســـف، أحد رموز الشعر العربي، من خــــلاله سيسأل عني هناك في بغداد، سعدي سيخبره بأني رحلت إلى باريـــس، غير أني وبعد عام على سفري، سأترك باريس نهاية عام 1979 إلى لبنان، وهناك سألتقي بأمجد ناصر، وبالضبط في مجلة « الهدف « الذائعة والتابعة للجبهة الشعبية، كان مقرها ولسنوات عديدة في منطقة «المزرعة» في قلب بيروت الغربية. منذ تلك اللحظة أصبحنا أصدقاء، كنت ألتقيه في منطقة الفاكهاني دائماً، إما عند حلويات ومقهى» أبو علي « أو عند «همبرغر علاء الدين «، أو في مقهى» أم نبيل»، أو في « مطعم ومقهى « التوليدو».
سكنه كان قريباً من مكان سكني في « ساحة أبي شاكر»، أصدقاؤنا مشتركون، ومن هنا كانت تكثر اللقاءات فيما بيننا. في تلك الأثناء ذهب أمجد إلى عدن لدراسة القضايا الاشتراكية والماركسية، ولكنه عاد، لينخرط في مكان وعمل جديدين، في « إذاعة الثورة « الفلسطينية، التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، أنا كنت أعمل في الإذاعة محرراً ثقافياً، وأمجد محرّراً في قسم الأخبار، وحين وقع حصار بيروت، كنت أراه كثيراً وبشكل يومي في مقار عملنا المتنقلة من مكان إلى آخر، كان أمجد حينذاك يعمل بنشاط متواتر، وبحماس قل نظيره، وبتفان نادر وعالي المقدرة.
في حمى الحصار ذاك، وأثناء القرار الدولي بخروج المقاومة من بيروت، ذهبتُ وخطيبتي ( زوجتي حاليا) التي كانت تعمل معي في الإذاعة آنذاك، مذيعة ومحررة في قسم الأخبار، إلى دمشق، وهناك انخرطنا في عمل مواز لعملنا في إذاعة الثورة الفلسطينية، وهذه المرة في جريدة « صدى المعركة»، التي كان يرأس تحريرها الشاعر المناضل خالد أبو خالد، ويدير تحريرها الشاعر أحمد دحبور.

أمجد ناصر أحد شعراء الحداثة البارزين، أسس في شعره لرؤية مغايرة، ثائرة على السائد والراسخ والنمطي، فبنى عمارته البديعة بجهده المعرفي، وكدحه الجمالي، ساعياً بين فترة وأخرى، لإعلاء شأن هذا البرج الشعري، المتميز، واللامع، والمضيء في مدار الشعر العربي.

أثناء عملنا ذاك طلّ أمجد في دمشق، فمرّ علينا في مقر عملنا في منطقة الصالحية، والتقى بجميع الأصدقاء الذين يعرفهم في الجريدة، ولكنه لم يمكث في دمشق طويلاً، فغادرها إلى قبرص عاملاً في وكالة « القدس برس» التي كان يشرف عليها الصحافي الفلسطيني المرموق حنا مقبل، غير أن الأمر لم يدم طويلاً، فشاءت الظروف السياسية المتقلبة، بغلق مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في دمشق، نتيجة لخلاف سياسي كالعادة، حدث بين المنظمة، والسلطات السورية، لأغادرها أنا مضطراً إلى نيقوسيا، هناك سألتقي أمجد من جديد، حيث علاقتنا الحياتية والثقافية والأدبية آخذة في التصاعد. في قبرص سيجمعنا البحر والجبل، وكذلك النزهات البرية في المناطق القبرصية الحانية والرهيفة، وهناك ستتصاعد وبتزامن ملحوظ ، وتيرة الشعر أيضاً، إذ سيُصدِر أمجد الذي عمل في غير مكان كمجلتي « الأفق « و« صوت البلاد «، بعد توقف وكالة « القدس برس « سيصدر ديوانه اللافت « رعاة العزلة « هذا الديوان الذي حرك الجو الشعري العربي الراكد، وكان كمثل من يرمي حجراً في بحيرة، ليحرّك جمالها ويغير حركة الماء فيها. لقد أحب الشاعر المرهف أمجد ناصر قبرص، فتعلق بها، لم يتركها، فهي جزيرة شاعرية، وهو أحقّ بها، فوجد موضع قدم له، في جزيرة الشمس والدفء والسكينة، التي أضحى يراها بين فترة وأخرى، متخلصاً لبعض الوقت، من الإيقاع المعتم، والمطر المزمن، والبرد الثقيل للجزيرة البريطانية.
خلال سنوات إقامتنا الطويلة في لندن، كنت ألتقي أمجد ناصر في المحافل الأدبية والثقافية، والندوات الشعرية الكثيرة، وفي الأسفار، متقاسمين نار الشعر ولهبه وشراراته النورية، قرأنا معاً في غير مكان وندوة وأمسية، سافرنا إلى مهرجان « جرش « بفضله، وحضرنا مؤتمرات عربية معاً، في كل من القاهرة والمغرب وغيرهما من البلدان، وطوال فترات عمله في جريدة «القدس العربي» كان يهاتفني دائماً، إما لأمر ثقافي وصحافي وأدبي، أو لدافع صداقي، شخصي بحت، وهو الذهاب إلى مقهى، أو حانة، حيث كنا في فترة من الفترات نُديم الذهاب، نهاية كل أسبوع، إلى حانة «غزال التبت « في منطقة « إيلينغ برودواي « وهي تقع غرب لندن، وقريبة من مناطق سكنانا، لنتحاسى الشراب ونتسامر ونتفكه، ونأتي بالنوادر والمُلح والحكايات الغريبة عن كل شيء، وجرّاء هذه اللقاءات الســــامرة، تمخّض قلمي عن قصيدة سميتها باسم المكان ذاته « مسامرات غزال التبت « سوف أنشرها بالطبع، إن وجدتها بين قصائدي الكثيرة، ودواويني المتشعِّبة وغير المنشورة، استكمالاً لهذا الموضوع، وتكريماً أيضاً للرابطة التي امتدت لأكثر من أربعين عاماً فيما بيننا، ولذكرى الأيام الفاتنة، وللشعر الآسر الذي أسرَنا بسواره السحري.
الصـديق أمجد ناصر أحد شعراء الحداثة البارزين، أسس في شعره لرؤية مغايرة، ثائرة على السائد والراسخ والنمطي، فبنى عمارته البديعة بجهده المعرفي، وكدحه الجمالي، ساعياً بين فترة وأخرى، لإعلاء شأن هذا البرج الشعري، المتميز، واللامع، والمضيء في مدار الشعر العربي.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية