باريس ـ «القدس العربي»: صدرت عن دار الآداب في بيروت رواية جديدة للروائية اللبنانية نجوى بركات بعنوان «مستر نون»، تقع في 255 صفحة، هي السابعة لها بعد «المحوّل»، 1989؛ «حياة وآلام حمد بن سيلانة»، 1990؛ «باص الأوادم»، 1996؛ «La locataire du Pot de fer»، بالفرنسية، 1999؛ «يا سلام»، 1999؛ و»لغة السرّ»، 2004.
والعمل الجديد يسجّل عودة لافتة بعد غياب 15 سنة، صرفت بركات معظمها في تأسيس وإدارة «محترف كيف تكتب رواية»، الذي كانت حصيلته 23 رواية حتى الساعة. ما يلفت أكثر في المقابل، وعلى صعيد فنّي، أنّ بركات تذهب أبعد في تأصيل لغة شديدة الثراء وعالية الإيحاء تميزت بها على الدوام، ومكّنتها من الارتقاء بطرائق السرد وبناء الشخصيات وصناعة المشهد الإنساني والبصري من حول موضوعات شاقة ومعقدة بقدر ما هي أثيرة لديها؛ تخصّ لبنان ما بعد، أو قبل وأثناء، الحرب الأهلية وما خلّفته من كسور كبرى وجراحات غائرة أصابت البشر والمجتمع والوجدان. لافت كذلك أنها في هذه الرواية تحديداً ــ أكثر من أيّ عمل سابق أغلب الظنّ، بما في ذلك الرواية الوحيدة المكتوبة بالفرنسية ــ تعتمد شحنة شعر جلية ورفيعة، وانسراح في المجاز والوصف والتعبير يشمل دواخل النفس مثل مكوّنات العالم الخارجي. مفاجئ أيضاً، وبالمعنى البهيج، أنّ بركات كما تتوغل أعمق في لعبة تحريك الشخصية المنفردة المركزية، حمّالة الحلم والكابوس معاً، ورافعة استعارات جَمْعية تنجح مراراً في رفع الواحد إلى مصافّ الحشد والحصيلة.
على الغلاف الأخير كتب الناشر: «بين أزقّة منطقتي برج حمود والنبعة في بيروت، يجول مستر نون، مدرّباً نفسه على ملاكمة الألم، في محاولته التغلّب على قسوة أمّه ثريّا، وغلبة أخيه سائد، وهجر ندى له. فهل ستتطهر روحه حين سيرتمي في بطن المدينة، عابثاً بأحشائها، مُخرجاً عنفها وعفنها إلى العراء؟ أصلاً، مَنْ تراه يكون السيد نون هذا، وما الذي دفع به إلى القاع؟».
هنا فقرات من الرواية:
«أثقلَ النعاسُ عينيّ، فتركت سؤالَه معلّقا في السقف. كيف خطرتْ له خاطرةُ القتل وهو لمّا يبلغ نهايةَ الرواية بعد؟ سمعتُه يقلّب الصفحات، ليته يُدرك أنّ الخوفَ الحقيقيّ هو أن تلتقي بقاتلٍ قتلتَه، ثم عاد كي تضطر لقتله من جديد…
وغلبني النعاس.
رأيتُ كتبا مجنّحة تطير في الهواء، وجُملا تسقط منها إلى الماء، وبعضها يتذرّر خفيفًا كالرماد. هناك واحدة سقطت بين يديّ، فقرأتُ: «الجنون شرفة واطئة تطلّ على الغروب». ووجدتُني جالسا بين صفحات روايتي الأولى، في أول عشرينياتي، حين كانت الحربُ وكان عذابُ انقطاع تيار الكهرباء وزئير الموتورات يقودانني إلى الجنون. قلّبتُ جملتي بين يديّ، فإذا بها شرفة وأنا جالس فيها داخل مشهدٍ يتكرّر دون انقطاع. خلفي بيت مسكون بالنحيب، جدرانُه المتصدّعة تحرس غرفاً مهجورة وأبواباً مخلّعة يلاعبها صفيرُ الريح. أعرف أني لستُ من أهل البيت، ولكنّني هنا فقط لأن أهلَه أوكلوني به. لِمَ تراهم أوكلوني بخربة، وهم موتى وأنا بلا سلاح ولا شدّة، أقف حارساً على شيء لم يعد، على ركام، على حطام.
أسمع في ظهري خطىً، فأرتعد وأُشلّ. صوت قدمين متثاقلتين تحفّان البلاط، تصرفان الغبارَ المتراكم سميكاً من أمامهما، حافرتين ثلماً طويلاً في حقلٍ من الفقْد. هو لَعازر! أسمعه هائماً داخل البيت المهجور، وأخاف أن يبلغني فيدعوني إليه».