مستنقع الشرق

يَعبرونَ الجِسرَ في الصبحِ خفافا أَضلُعي امتَدَّتْ لَهُم جِسْرا وطيدْ مِن كُهوفِ الشرقِ، مِن مُستنْقعِ الشَرقِ إِلى الشَّرقِ الجديدْ أَضْلُعي امْتَدَّتْ لَهُم جِسرا وطيدْ
«الجسر» خليل حاوي
على ذُرى موجٍ عالٍ من التعاطف الجارف مع معاناة الشعب الفلسطيني في هذه الجولة الجديدة الأبشع، من الإبادة والتهجير والاقتلاع، يصاحبه تفهمٌ لمأساته ومن ثم قبولٌ وتبنٍ للسردية والرواية الفلسطينية، يجيء اعتراف كلٍ من النرويج وإسبانيا وإيرلندا كنوعٍ من التتويج، أو الدليل على أن العالم إن لم يتغير فهو على الأقل قابلٌ للتغيير. لكن في ما يخصني، فكلما زادت مظاهر الدعم والتضامن مع القضية الفلسطينية في الخارج زاد إحباطي وتعاظمت نقمتي على الداخل العربي، والرسمي منه تحديدا، البائس.

لا بد من التأكيد أن الشعب الفلسطيني، في ظل التضامن العالمي، سيخرج رابحا رغم الفقدان والوجع والدمار والتضحيات الجسيمة

قد يتهمني البعض بأنني لا أعرف كيف أبتهج وأحتفي بالمظاهر الإيجابية، وأنني كغراب البين لا أجيد غير النعيق، فليكن، فدوري ككاتب يجبرني على البحث عن مواطن الضعف والشقوق وعلى التحليل، لا الصياح والتطبيل. من اللافت تزامن اعتراف الدول الأوروبية ذاك مع تصريح يواف غالانت وزير حرب الكيان المحتل، متهما بالكذب الصريح أي نظامٍ عربي يكون قد زعم لشعبه بأنه تلقى وعدا بالدولة الفلسطينية في مقابل الاعتراف بالكيان الصهيوني.
أعربت مرارا عن كوني أرى كيف فضحت هذه الحرب الأنظمة العربية وطبيعة علاقاتها وانحيازاتها في إطار النسق الأمريكي الصهيوني، بل ترتيباتها الأمنية في خدمة وحماية إسرائيل، لكن كل مستجدٍ لا يقصر عن إثبات وتأكيد مدى تدني ورداءة هذه الأنظمة. الأهم من ذلك أن تلك الحرب ومواقف الأنظمة العربية لا المتخاذلة فحسب، بل والمتواطئة تُعد بحقٍ إحدى الشهادات وشاهد القبر على موت وتحلل مشاريع النهضة والوحدة والتحرر العربية، أيا ما كانت تعريفاتها وتوصيفاتها المختلفة اختلاف الأنظمة ذاتها. لعل «مستنقع الشرق» التي استخدمها الشاعر الراحل خليل حاوي كانت تعبيرا لائقا ومناسبا عما كانت هذه البقعة أو المحيط العربي قد وصلت إليه من ضعفٍ نسبي وحالةٍ من التشرذم المنكفئ على الذات، تقبع جلها في ظل الدولة العثمانية المترهلة المأزومة بصفةٍ مزمنة، وتعيش بدورها بياتا شتويا ممتدا، وكان حاوي يرحب بأولئك الذين يعبرون الجسر في الصبح خفافا من مستنقع هذا الشرق وكهوفه، لكنه هو ذاته، مضطرب، لم يستطع أن يواجه الواقع القبيح بدلالاته الأقبح، إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان، أو لنقل على الأقل إنه اختار عدم الاستمرار فيه، فأنهى حياته ولنا أن نتصور ومن الجائز لنا أن نخمن كم كان الشعور بالهزيمة والإحباط يملآن روحه ويسحقانها؛ الآن يتضح لنا كم كانت هذه الحرب، شهادة وفاة القومية العربية وأحلام الوحدة الرسمية ربما، مؤشرا وإعلانا على المقبل المجافي والمنافي لكل الطموحات والمشاريع الكبيرة المُضحى بها على مذبح المصلحة، على الاستغراق الراسخ في «المستنقع»، خاصة من قبل دول المركز ذات الثقل الحضاري والمحيطة بإسرائيل.
ما من يومٍ يمر في هذه الحرب إلا ويتأكد كم أدارت هذه الأنظمة ظهرها للقضية العربية التي تعدها صداعا وضجيجا لا قيمة له، ولا طائل من ورائه، وربما إذا اهتم أحدها بعدم إبادة الشعب الفلسطيني فليس ذلك إلا من قبيل المصلحة البحتة، من منطلق احتمال الفائدة منه في المستقبل أمام إسرائيل. كما أن الشاهد الآن أن الأنظمة العربية تقود فعليا مسارا مغايرا، بل متناقضا تماما، مع حركة الشارع الغربي والعالمي وبعض الحكومات الغربية المعادية جميعا للكيان الصهيوني وإجرامه، بل باتت الحقيقة المزعجة، «المستنقعية» إذا جاز التعبير أن هذه الأنظمة التي دافعت عن إسرائيل من الهجوم الإيراني باتت الدعامة اللوجستية والاستراتيجية لكيان الاحتلال، وإني لأجزم أن جيل آبائنا وخليل حاوي نفسه لم يكن لهم أن يتصوروا في أحلك كوابيسهم، أن تصل بنا الحال إلى ما نحن عليه من انحطاطٍ وهزيمةٍ ذاتية. لقد دأبت وواظبت هذه الأنظمة على السير بنا حثيثا نحو المستنقع والكهوف (التي لم نبتعد عنها إلا قليلا)، وبات جليا أن الاستثمار الأمريكي الغربي والصهيوني في بقاء هذه الأنظمة كان خيارا صائبا ومحنكا من طرفهم، وأن الهدف الرئيسي، وربما الوحيد، من بقائها لا يعدو مكاسب السلالات والطغم الحاكمة وتأمين مصالح وطرق إمداد رأس المال الغربي، المندمج اندماجا تكامليا مع إسرائيل، كما أثبتت المواقف من الحرب. بقدر ما فضحت وعرت هذه الحرب البشعة الأنظمة، بقدر ما أكدت على ضرورة رحيلها وعلى كونها تقف بصورةٍ أساسية وربما منفردة حائط سدٍ تحتمي وراءه إسرائيل، بقدر ما أكدت أن هذه الأنظمة ذاتها هي التي أوصلت شعوبنا إلى ما صارت عليه من الإهانة والذل والهزيمة والقبول بها والبلادة إزاء كل ذلك.
من هذا المنطلق يصح أن نقول بضرورة السابع من أكتوبر كصيحة إيقاظ لهذه الشعوب الغارقة حتى أذنيها في مستنقع القمع والهزيمة العربي، كانتفاضةٍ عكس التيار، لتؤكد مجددا أن الهزيمة أمام الغرب وإسرائيل بالتحديد لم تكن مصيرا محتما بقدر ما كانت خيارا واعيا لهذه الأنظمة المتسقة مصالحها معهما، كما تؤكد ضرورة رحيلها كشرطٍ لا مفر منه لأي مشروع نهضةٍ حقيقي.
في الحساب الختامي، لا بد من التأكيد أن الشعب الفلسطيني، في ظل التضامن العالمي، سيخرج رابحا رغم الفقدان والوجع والدمار والتضحيات الجسيمة. لقد خسرت إسرائيل الدعم والتعاطف العالميين، وكلما أوغلت آلتها الحربية الإجرامية في القتل بتصور ملاحقة نصرٍ كالسراب، تعمق غضب ورفض الشعوب حول العالم، خاصة الأجيال الشابة. سيكبر هؤلاء وينضجون، سيتقدمون في الحياة بوعيٍ متجذرٍ بالمأساة الفلسطينية والجرائم الإسرائيلية والأهم بمسؤولية آبائهم وحكوماتهم المباشرة على هذه الجريمة في حق الشعب الفلسطيني، ولعل ذلك الإدراك هو ما يدفع الحكومة الأمريكية للضغط على إسرائيل لإيقاف الحرب إدراكا منها بأن الاستمرار فيها لن يعمق إلا خسائر الطرف الإسرائيلي على المدى البعيد. ما انطلق في 7 أكتوبر لن يتوقف، وإني لأزعم أن ذلك سيسهم في زعزعة أنظمة المستنقع إما عاجلا أو آجلا.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية