مسلسل «الخلاص»… نهاية العالم بين السياسة والعلم

لقد شهدت صيغ الترفيه تحوّلاً مع انطلاق الشّبكات والشركات التي تقدم محتواها عبر البث من خلال الإنترنت، وأشهرها شبكة «نيتفلكس» التي أحدثت طفرة في نمط الترفيه، وتراتبية المحتوى حيث بدأت المسلسلات التي تنتجها تتخذ نموذجاً مؤثراً من حيث الكم والنوع، كما الموضوعات والأشكال التي تعتمدها في محتواها، ومع أن الشركة تنتج الأفلام وتعرضها، غير أن تأثيرها يتجلى في المسلسلات التي تنتج أعداداً كبيرة منها، مع الاستعانة بنتاج شركات أخرى، وقد لوحظ أن هذا الأثر العميق للدفق الدرامي ينطوي على الكثير من الأنساق والثيمات، وأهمها مقولة (نهاية العالم).

صيغة نهاية العالم

لعل المشاهد يلاحظ غزارة واضحة في إنتاج المسلسلات، خاصة تلك التي تتناول موضوع «نهاية العالم» الذي يعبر عنه بالإنكليزية في سياق ثقافي Apocalypse. توجد جذور هذه الفكرة أو التصور في معظم الثقافات والأديان. فهذا النوع من الأدب قد انتقل إلى السينما والتلفزيون من عقود، ولكنه في الآونة الأخيرة بدا على قدر كبير من التأثير، ضمن بنية ثقافية تستهدف صيغة خطابية تعتمد على إعادة التمركز في الوعي عبر اعتماد مبدأ التكرار. ربما هذا نتج بفعل المزاج العام الكوني، الذي بدأ يضطرب نتيجة الحوادث المتكررة، بالتوازي مع فيض المنصات الإعلامية التي تروّج لهذا النمط من مقولة نهاية العالم، سواء أكان عبر الصيغة التقليدية، أو الصيغة الدينية، غير أن أكثرها حضوراً يتصل ببروز قوى خارجية أو داخلية تتصل ببنية الأرض، وما تعانيه من استنزاف في الموارد، أو نتيجة الاحتباس الكوني، أو أي تأثيرات بيئية، فضلاً عن الغزو الفضائي أو اصطدام كويكب أو نيزك بالأرض، أو ظهور فيروس ينهي الحياة على الأرض. هذه الصيغ لا تبدو في الواقع المعاين ضرباً من المستحيل، فثمة مؤشرات واضحة تجعل من هذه الأعمال في صيغتها وجيهة التكوين، إذ هي لم تعد تندرج ضمن مقولة الخيال العلمي، إنما شرعت تتحول إلى صيغ خطابية؛ فلا عجب – إذن- أن تنشط تلك الشركات للإفادة من هذه الثيمة، التي تتغذّى على هواجس الإنسان، ومخاوفه، وكل هذا طبعاً يتحقق في سياق توفر البعد الرأسمالي لشركات تنظر إلى أي طارئ بوصفه صيغة استهلاكية، ضمن مبادئ ما بعد الحداثة، التي أحدثت تأثيرات جديدة في قيم الإنسان المعاصر ومنظوره.

المصير بين السياسي والعالِم

لقد ظهر العديد من المسلسلات التي تناولت نهاية العالم، منها على سبيل المثال The 100 وAnother life و Snowpiercer بالإضافة إلى مسلسل «الخلاص» Salvation ، وسوف نتناول بعض هذه الأعمال في مقالات مقبلة، غير أن أهمية المسلسل الأخير- وأعني «الخلاص» – تتأتى من كونه لا ينهض على صيغة مبالغ فيها من حيث الاعتماد على نزعة الخيال العلمي، فكل أحداثه تجري على الأرض، في حين تتخذ العلاقات الإنسانية، والنموذج القيمي مركزاً متقدماً في المقاصد الكلية للمسلسل. المشاهد يتعلق بحدث يتمثل بقدوم كويكب فضائي، سيقوم بتدمير الأرض عند ارتطامه. وبهدف تجاوز هذا المصير، نرى شخصية «دارسين تانز» بوصفه عالماً، ورجل أعمال يمتلك شركة «تانز» للتكنولوجيا، التي تتعاون مع الجيش الأمريكي. يسعى «تانز» إلى اختراع أو ابتكار وسيلة تحول دون وصول هذا الكويكب، بالتعاون مع الحكومة ضمن تداخل وتنافس مع روسيا، التي تسعى لتقويض المحاولة الأمريكية، كونها سوف تؤدي إلى سقوط الكويكب على النصف الآخر من الكرة الأرضية.
يمكن حصر النماذج النسقية القائمة في المسلسل عبر تحليلها، من خلال عدة جوانب، لعل أهمها ما يتصل بتصوير البيت الأبيض، خاصة الصراع على السلطة بين تيارات داخل الحكومة الأمريكية، من خلال الاغتيالات والتصفية، والاقتراب من حافة حرب أهلية. يمكن تأويل هذا التوجه بوصفه تبصراً عميقا لتوصيف واقع أمريكا في عصر ترامب، أو نقداً للمنظومة السياسية الحاكمة، على الرغم من أن المسلسل من إنتاج عام 2108، إلا أنه يحتوي على قدر كبير من الذكاء لنقد الدولة العميقة، أو المؤسسة التي تحكم البيت الأبيض، في سياق فلسفي وحضاري معاصر. تتجه الأحداث إلى تمثيل بعض الصقور الذين لا يتورعون عن إشعال العالم، بغية تحقيق مصالح شخصية، ولهذا نرى صراعاً بين الرئيسة الأمريكية الشرعية السيدة «مكينزي» ونائبها «بينيت»، فيمتد الصراع ليطال الجيش المنقسم على ذاته، حيث يسعى كل طرف للقضاء على الطرف الآخر عبر التصفية، أو من خلال اللجوء للقضاء، مع محاولة السيطرة أو التلاعب بالقضاة.
في ظل انشغال أجهزة الدولة وانقسامهما، ومحدودية الشفافية، تظهر جماعات ثائرة على هذه المنظومة الفاسدة، وتتمظهر في جماعة «المقاومة»، وهم عبارة عن ناشطين سياسيين، وخبراء تقنيين من الشباب، الذين يحاولون تقديم رسالة قوامها فقدان الثقة بالطبقة السياسية الحاكمة في جميع أنحاء العالم، وهكذا تسعى المنظمة للسيطرة على منظومة الصواريخ النووية، بوصفها الوسيلة الأخيرة لتدمير الكويكب، إذ تقوم المقاومة بتوجيه الصواريخ نحو الدول الكبرى، كي تكون وسيلة ضغط، بالتراصف مع محاولة التحكم بعملية القضاء على الكويكب، من خلال اختيار مجموعة من علماء العالم لإطلاق مشروع إنقاذ. مقابل هذه المجموعة ثمة مجموعة أخرى تبدو المسؤولة عن إشعال الفتنة في البيت الأبيض، وتتمثل بجماعة Q17 السرية، وتتكون من (17) عضواً من رجال الأعمال الأثرياء، الذين يقومون بتحريك أحجار الشطرنج، والتحكم بالزعامات السياسية، تبعاً لمصالحهم الخاصة في الخفاء، هي جماعة أشبه ما تكون بالماسونية، ولاسيما أنهم يقررون من يحكم البيت الأبيض، كما يتحكمون بمفاصل العالم، وتوجهاته.. وفي معمعة هذه الأحداث يبقى «داريوس تانز» والشاب «ليام» وبعض الأفراد من الحكومة، كوزير الخارجية «هاريس»، والسيدة «غاريس باورز» أوفياء للقيم التي تسعى لتجنب تدمير الكون، من خلال جهود فردية، وتضحيات خاصة.
في جانب آخر من الفعل النسقي للمسلسل، نقرأ إشارات واضحة لتراجع الدور السياسي على حساب العلم، وهنا يبدو أن صانعي المسلسل ينتقدون السياسيين وعدم قدرتهم على التعامل مع مستجدات العصر، حيث نرى الحكومة والدولة، بكل قوتها عاجزة عن التصدي للكويكب؛ فتسعى للاستفادة من عبقرية شاب صغير«ليام» بقيادة «تانز»، ويأتي هذا على خلفية أحداث وتقاطعات متعددة، تتصل بمعنى الاختيار والقدرة على اتخاذ القرارات المصيرية، ولا سيما في حال أن هذه القرارات تستوجب وجود ضحايا، أو التضحية بمجموعة من البشر، مع تنازع بين مصارحة العالم بالحقيقة أو إخفائها.
لعل إحدى أهم المقولات المشتركة في هذا النوع من المسلسلات، تتصل بتأمل معنى اتخاذ القرار، ومدى أخلاقيته في سبيل المصلحة (الكونية)، بالتوازي مع تبرير بعض الأفعال ضمن صيغ ميكافيلية، كما نشاهد نزعات لنقد البيروقراطية، وضيق الأفق الحكومي، وهذا كله يتراصف مع نقد نماذج دوغمائية، أو مثالية أو ذاتية، لا تحفل بما يحصل، فنرى ظهور جماعات دينية تخرج بصيغة قوامها تقبل الواقع، وعدم المقاومة لأن هذا يعد قدراً، لكن الرسالة المضمرة تتضح عندما نكتشف أن هذه الجماعة الأيديولوجية تتواطأ مع جماعة Q17 فنرى اجتماع تجار الأيديولوجيا مع الأثرياء للإفادة من المشكلة، أو للبحث عن خلاص فردي، فيسرقون المركبة الفضائية التي وضعها «تانز»، بوصفها السيناريو الأخير للمحافظة على الجنس البشري عبر اختيار (160) شخصا مميزاً للبدء في الحياة مرة أخرى.

من القضايا التي احتملها المسلسل في النموذج النسقي، التنبه إلى خطر الأسلحة النووية، حيث تتخذ هذا القضية جزءاً من توجيه النقد القيمي للدول، ومحاولة استخدام هذه السلاح للقضاء على بعضهم بعضا.

تبدو شخصية «درايوس تانز» مؤثرة أو ذات طبيعة جاذبة للمشاهد، حيث يتمتع بالجرأة والمغامرة، وقدرته على استخراج الأفكار المبتكرة، بالتوازي مع وجود الشاب «ليام»، الذي توضع على عاتقه مهمة إنقاذ العالم، وهنا نلمح صورة شديدة الأهمية، من خلال نقد قدرة المؤسسة الحكومية على مواجهة المستجدات، وإنقاذ العالم، فتبدو أقرب إلى شبح مقابل شركة «تانز» ومنظمة «المقاومة»، بوجود نخبة من علماء تقود مهمة الإنقاذ، غير أن المسلسل في منعطف على مستوى سرد الأحداث، يقودنا إلى نقد السلطة في البيت الأبيض، حيث تؤول مهمة رئيس الولايات المتحدة إلى تانز (العالم)، مع عبارات تتصل بأن هذا العصر لا يصلح السياسيون لقيادته كونه يحتاج إلى العلماء القادرين على خلق تصور أفضل لعالم الغد، مع إيجاد حلول للمشاكل، وهذا يبدو موفقا في تكريس هجاء خطابي للسياسيين من قبل صناع المسلسل، حيث يصور فشل القادة في خلق عالم متناغم، وأخلاقي، فهم غالبا ما يلعبون على التناقضات والاختلافات واستغلال المشاكل، من أجل البقاء في السلطة، في حين أن «تانز» بعد أن يخرج بوطنه من أزمته يتخلى عن الرئاسة لرئيس يؤمن بالحقيقة والشفافية والعدالة.

إصلاح الإنسان

من القضايا التي احتملها المسلسل في النموذج النسقي، التنبه إلى خطر الأسلحة النووية، حيث تتخذ هذا القضية جزءاً من توجيه النقد القيمي للدول، ومحاولة استخدام هذه السلاح للقضاء على بعضهم بعضا، فهذه الأسلحة باتت لعبة يمكن لأي كان من اختراق شيفرة الإطلاق، أو التحكم بها عبر النموذج التقني أو الذكاء الاصطناعي، الذي يكنى عنه بالكمبيوتر الضخم المسمى «تيس»، والذي ابتكره «تانز».
المسلسل يمتلك رؤية عميقة للمشكلة القيمية التي تتصل بالعلم، ودوره في تحسين حياة البشر، على الرغم من أن الأخير هو المعضلة، ففي أحد المشاهد تقول إحدى الشخصيات، بأن العلم قادر على حل جميع مشكلات العالم، ولكنه غير قادر على إصلاح طبيعة الإنسان، فالخطر الحقيقي الذي يتهدد وجودنا، والعالم الذي نعيش فيه، لا يتأتى حقيقة من قوى خارجية، إنما يكمن في وجود الإنسان وجبروته، خاصة عدم قدرته على التعامل مع ذاته، بوصفه وجوداً يتساوى مع باقي الموجودات، فالإنسان محكوم بالرغبة في السيطرة، واستغلال كل شيء لمصلحته الخاصة، كما الاستئثار بكل شيء. هذه القيم بدت في المسلسل ضمن صيغ فنية، مزجت بين الإبهار المرئي المتزن، مع الاعتماد على سياقية الحدث، وعمق الفكرة، التي نلمحها لا عبر صيغ الحوار وحسب، إنما التلقي في سياق مشهدية الأحداث التي تعمد إلى التشويق على خلفية توفير علاقات إنسانية تتناول الحب والعائلة والإرادة، وغيرها.
ينتهي المسلسل في جزئيه حين يكتشف «تانز» بأن هذا المقبل الفضائي ليس كويكباً كون حركته تشبه الطائر الطنان الذي لا نستطيع رصد مساره، وهكذا يكون مسار الكويكب غير موجه للأرض، في حين أن كافة الابتكارات من محركات كهروميغناطيسية أو أشرعه حرارية أو قذائف نوورية، أو جرار جذابية لم تعد ضرورية؛ لأن هذا الكويكب جاء ليحمل رسالة ما، فنرى في المشهد الأخير العيون، وهي ترقب انحرافه عن الأرض، غير أن مروره المربك، دفع الإنسان لاكتشاف ذاته من جديد.

٭ كاتب أردني فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بلي محمد من المملكة المغربية:

    بعض الحروف اد ا سمح لنا المنبر شكرا ورغم المحنة التي يمر منها العالم اليوم شرقه غربه شماله جنوبه السينما مبتسمة في واحد من ابوابها انه المسلسل الدي تخصص له ميزانية لابأس بها فقد يكون من حلقات محدودة بداية ونهاية وقد تكون طويلة على حسب الحدث اوالقضية اوشيء من
    الخيال ممكن لشيء الوقوع في المستقبل فنحن نميل لمسلسل الأمل لااليأس فافي الأول راحة لنفس والضمير ولاشك ان المسلسل الدي رسمت من اجله هده الكلمات كلمات التحليل بلغة الفن من وحي الخيال والأمل

إشترك في قائمتنا البريدية