حصلت كارثة إنسانية يوم 26 إبريل/نيسان 1986، في أوكرانيا، في الاتحاد السوفييتي، هي انفجار مفاعل تشيرنوبل النووي. كأي كارثة إنسانية يمكن نقلها فنّياً (سينما، أدب… الخ)، كان لهذه الكارثة تمثيلات فنّية عدّة، قد يكون أبرزها لدى القارئ العربي هو كتاب «صلاة تشيرنوبل» (1997) للبيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش.
كان الكتاب – كعموم شغل أليكسييفيتش الأدبي- مبنياً على شهادات لضحايا الكارثة، على قصص فردية شكّلت بمجموعها، الشهادة الجمعية التي تحتاجها الإنسانية لأي كارثة تحلّ بها، لتوثيقها ومحاسبة المسؤولين عنها، ولجعلها مثلاً لا بد من تفادي حصوله مجدداً، وكان الكتاب إدانة للسلطات السوفييتية آنذاك، لتعاملها مع المسألة برمّتها، وكانت الإدانة – وقد نُقلت على ألسن الضحايا – غير دعائيّة، غير متعمَّدة، أتت ذات مصداقية في سياق شهادات لأناس بسطاء، مزارعين في معظمهم.
لا نشعر بغاية مسبقة للإدانة في الكتاب ولا بدهاء سياسي لأصحابها. بل كانت للإدانة غايتها الإنسانية وحسب، هي إدانةُ الدولة المتسببة سياساتُها بالكارثة، بدون غاية سياسية.
على النقيض من ذلك كان مسلسل «تشيرنوبل» (Chernobyl)، الذي أنتجته HBO بالتعاون مع Sky UK، وأتى في خمس حلقات عُرضت مؤخراً. كان مسلسلاً دعائياً مضاداً للدعاية السوفييتية، كان لغاية سياسية، وإن نُفّذ جيّداً بصرياً، وبتواضع سرديٍ، ولا تحتاج مسلسلات بهذه النوعية إلى أكثر من ذلك التواضع لتصل جمهورها.
المسلسل الذي كتبه الأمريكي كرايغ مازين وأخرجه السويدي جوهان رينيك، أتي بشكل تقليدي في نقل حكاية كهذه: بدأ بالكارثة، تتابعت الأحداث في المحاولات للتقليل من الأضرار أو القضاء عليها، بدون حكاية خاصة هنا أو هناك، إلا هوامش لا يؤثّر إلغاؤها على السرد، إلى أن نصل للمحاكمة في الحلقة الخامسة والأخيرة، حيث يُعاد شرح ما تمّ شرحه خلال الحلقات الأربع الأولى.
ما قدّمه المسلسل كان إذن توصيفاً للكارثة، توصيفاً بصرياً مذهلاً (إذهال تقني لا أكثر، نجده في عموم الشغل الهوليوودي من هذا النوع، هو إذهال رتيب) كما كان توصيفاً علمياً يشرح للمُشاهد، بتكرار تلقيني ممل، ما حصل. ما الغاية من مسلسل كهذا سوى الدعاية، مسلسل نال – بتبريرات لا يجهلها أحدنا- مشاهدات عالية في الولايات المتحدة والعالم، كما يمكن لأفلام سوبرمان وسبايدرمان وغيرهما أن ينالوه؟
اقتصار المسلسل على نقل الكارثة، بشخصية رئيسية هي عالِم سوفييتي (فاليري ليغاسوف) عُيّن لمكافحة تبعات الانفجار، ومحاولته كشف الحقيقة إلى «العالم الحر» في دولة شمولية تهمّها سمعتها، أكثر مما تهمها أرواح الناس.
اقتصار المسلسل على نقل الكارثة، بشخصية رئيسية هي عالِم سوفييتي (فاليري ليغاسوف) عُيّن لمكافحة تبعات الانفجار، ومحاولته كشف الحقيقة إلى «العالم الحر» في دولة شمولية تهمّها سمعتها، أكثر مما تهمها أرواح الناس. اقتصر المسلسل على نقل ذلك، مضيفاً نتف قصصٍ على هامش الكارثة، ليملأ الوقت الذي تحتاجه الحلقات الخمس، لكنّه أتى أخيراً فضفاضاً، فيه الكثير من الحشو والتكرار، ما أمكن له، إن اختُصر إلى أقل من نصفه، أن يكون فيلماً جيّداً بتركيز على حكاية ليغاسوف (أو غيره)، فالدراما تحتاج لشخصية رئيسية نحكي عنها، لا لحدث نحكي عنه والشخصيات تحوم حوله متوزّعةً المهام.
لم يركّز المسلسل على الحالات الإنسانية المتعلقة بالكارثة، فقد كانت ديكوراً للإبهار البصري أولاً، ولمحاولات ليغاسوف لمناورة تبعات الانفجار وتفاديها، وإشارات لا تنتهي – لا بد منها في مسلسل أمريكي/بريطاني- لإدانة الاتحاد السوفييتي – المستحق للإدانة على كل حال- أتت بشكل سطحي كأن يُلحَق مشهد مزعج (لامبالاة مسؤول مثلاً تجاه الكارثة) بصورة للينين. وهذا أسلوب دعائي في المونتاج، أو في إلحاق الصّور ببعضها لإيصال رسالة ما، نظّر له السوفييتي سيرغي أيزنشتاين قبل ما يقارب قرن من الزمان، وهو شكل من أشكال الفن (في حالة أيزنشتاين والمتأثرين به)، إنّما، هوليوودياً (وما شابه ذلك) أتى المونتاج برسائله السياسية/الدعائية بشكله الأكثر ابتذالاً وسطحية (كي ينجح جماهيرياً) والأقل فنّيةً (كي ينجح تجارياً)، يمكن ملاحظته في أفلام أمريكية سياسية حيث الشرّير روسياً أو عربياً أو صينياً أو لاتينياً…
كي يكون العمل الفنّي أكثر قرباً من الضحايا ومآسيهم، هو حال كتاب أليكسييفيتش «صلاة تشيرنوبل»، وأكثر بعداً عن أي شبهات بغايات سياسية خارج الحالة الإنسانية التي يصوّرها، أي كي يكون ناقلاً أميناً لحكايتهم، لراويتهم للمأساة، رواية قصّتهم الفردية/الجمعيّة، لا بد من تجريد العمل من أي «برامج» سياسية خبيثة يمكن أن تظهر بصورتها الأكثر مباشَرةً وانكشافاً كما ظهرت في هذا المسلسل، كي لا تكون الغاية إدانةَ الاتحاد السوفييتي (في حالتنا هنا مثلاً) بل في نقل المأساة الإنسانية كما هي، وهذا بحد ذاته أشدّ إدانة لدولة أدّت البيروقراطية فيها إلى فداحة كارثة كهذه.
الكارثة الإنسانية بحد ذاتها إدانة لمرتكبها أو المتسبب بها، أما توجيه هذه الإدانة، من قبل الخصم وبهذا الشكل، هو، كذلك، إدانة للخصم نفسه الذي جعل من المأساة فرصةً تُنتَهز للإدانة، هذه تماماً دعاية مضادة لا تقلّ لاأخلاقية عن الدعاية الأساسية التي لم تكترث للضحايا، كونها تدّعي الانحياز لهم.
٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا