حظي المسلسل السوري الشهير “كسر عضم” خلال شهر رمضان المبارك بمشاهدات كبيرة على الصعيدين السوري والعربي عموماً. وكذلك مسلسل “مع وقف التنفيذ”، وعلى الرغم من أن أحداث المسلسلين تدور في سوريا، إلا أنها وصلت إلى معظم البيوت العربية في الداخل والخارج، لأن رسالتها ليست سورية حصراً، بل تمس كل الشعوب العربية وخاصة بلاد الثورات. ولمن لم يتابع “كسر عضم” وغيره، فهو كـ “مع وقف التنفيذ” يحاول تصوير الأوضاع المأساوية التي آلت إليها البلدان التي انتفضت على أنظمتها قبل عقد ونيف من الزمان وخاصة سوريا، فلا نشاهد في هذا النوع من المسلسلات سوى مظاهر الانهيار الأخلاقي والاجتماعي والتفكك الأسري والتحلل القيمي، والعهر والمخدرات والتشبيح والتشليح والفساد والقوادة والدعارة وقطع الطرق والخطف والسرقة والخوف والقلق وانعدام الأفق والفقر والجوع والتعتير والمحسوبيات والشللية واستمراء القتل والتعذيب بدم بارد. لم يترك منتجو ومخرجو والمشرفون على هذا النوع من المسلسلات موبقة إنسانية إلا وأدرجوها في الأحداث الدرامية. وكما هو معروف في سوريا، فإن الدراما أصبحت سلاحاً مخابراتياً بامتياز منذ عقود، فلا يمر مسلسل إلى الشاشات إلا بعد اعتماده أمنياً لتمرير الرسائل المطلوبة. فما هي الرسائل؟
لا أريد أن أظلم أحداً، ولا أن أطلق أحكاماً مطلقة على المسلسلات كي لا نسيء على الأقل لتلك النخبة الرائعة من المخرجين والممثلين والممثلات والمنتجين الذين أبدعوا في الأعمال الدرامية. سأقدم وجهتي نظر، فقد تساءل كثيرون ببراءة وهم يشاهدون الأحداث الرهيبة والفظيعة في مسلسلات رمضان السورية: كيف وافقت الرقابة المخابراتية في سوريا على تصوير الوضع في البلاد بهذا السوء المرعب؟ ألا يسيء ذلك للنظام السوري نفسه؟ كيف سمحت الرقابة الأمنية بإنتاج وعرض مسلسل يصور سوريا أبشع تصوير؟ ألا ينعكس هذا الوضع الكارثي بكل الأحول على صورة النظام ويحمله المسؤولية؟ ألا يسيء هذا المسلسل وأشباهه للنظام قبل أي جهة أخرى؟ أليست كرامة الدولة من كرامة شعبها وبلدها؟ ويرى أصحاب النظرة البريئة أن المسلسلات قدمت صورة صادقة بعيداً عن التزويق والتجميل، وهذا يُحسب للنظام “الديمقراطي”، وأن المسلسلات لم تختلق الأحداث بل تقول لك إن هذا هو الوضع الآن في البلد بكل صدق. وبالتالي فإن تقديم هذه الصورة المأساوية لما يحدث في سوريا ليس إلا تصويراً أميناً للواقع. لكن الرسالة الحقيقية، حسب المعارضين لهذا الرأي، ليست فقط محاولة النظام السخيفة إظهار نفسه بمظهر الديمقراطي الصادق والأمين بل هي أخطر من ذلك بكثير.
النظام منذ عام 1970 كان يعمل دائماً على “إفساد من لم يفسد بعد”، وهو ما يزال يستمد قوته من الفساد والإفساد. وبدل التركيز على مروجي المخدرات الصغار، كان يجب أن توجهوا سهامكم إلى أكبر تاجر مخدرات في المنطقة، وهو معروف للقاصي والداني
ويعتقد أصحاب الرأي الآخر أن المشرفين الأمنيين والنظام يكررون بطريقة خبيثة غير مباشرة رسالة عصام زهر الدين الانتقامية الشهيرة لملايين السوريين في الخارج: نصيحة من “هالذقن”: لا ترجعوا. بعبارة أخرى فإن المسلسلات تكرس استراتيجية النظام وداعميه القائمة على التهجير والتغيير الديمغرافي في سوريا، وفي الوقت ذاته يبرئ النظام نفسه بإلقاء اللوم في كل ما حصل على الثورة، وكأنه يقول: جنت على نفسها براقش، وإن ما تعانيه الشعوب اليوم من انهيار وخراب ودمار سببه الثورات ومن وقف وراءها، فاستمتعوا بما جنته أياديكم. ويشير البعض إلى أن الغرف السوداء التي كانت تدير الثورات المضادة هي من مولت ودعمت عرض هذه المسلسلات كي تشيطن الثورات وتقول للشعوب: إياك ثم إياك أن تكرري غلطة السوريين، فانظري ماذا جنوا. لاحظوا أن التركيز في المسلسلات لم يكن على الأنظمة بل كان على الأوضاع التي يتهمون الثورات بالتسبب بها. ففي مسلسل “مع وقف التنفيذ” مثلاً، لا نرى صورة الرئيس في مكاتب رجال العصابات والمخدرات وقطاع الطرق والإرهابيين، بل فقط في مكاتب رجال الأمن الشرفاء، وكأن المسلسل يحاول تبرئة الأنظمة ويضع اللوم حصرياً على الشعوب والثوار. ويرى الكاتب والإعلامي السوري جورج كدر أن “دراما رمضان 2022 السورية هي مسلسلات تقوم بها الأفعى الشجاعة بالنزول الى الماء والخروج وفي فمها سمكة. الأفعى الشجاعة قامت بإنقاذ السمكة من الغرق”. يا للمهزلة.. في مسلسلات الدراما الرمضانية السورية كل عام تحرص مخابرات نظام الفساد والإفساد، على الترخيص لمسلسلات تتحدث عن انهيار المجتمع السوري والتي تبدو ظاهرياً جريئة، لكن باطنها كالسم في الدسم، وحدها صورة الرئيس البريء الوسيم النظيف خلف مكاتبهم هي المشرقة بهالته النورانية، أما المجتمع السوري فوحده الحرامي الجشع القاتل السافل الحقير المتآمر المتواطئ على أمن وسلامة الوطن…هي مسلسلات تحتقر الناس وتستخف بهم وتستحمرهم وتهدف إلى شيء واحد فقط مفاده أن سيادته “منيح بس إللي حواليه زعران..سيناريوهات سخيفة تُلاك كل عام لتوصل ذات الرسالة الممجوجة، فالمهم تبرئة نظام الفساد والإفساد ليواصل مهمته في تدمير ما تبقى من الوطن.”
وينصح بعض الساخرين منتجي ومخرجي المسلسلات السورية والأجهزة الأمنية التي تديرها بوضع سيناريوهات بديلة ومختلفة عن أفكار وأحداث مسلسلي “كسر عضم” و”مع وقف التنفيذ” وغيرهما. ما رأيكم بمسلسلات تكون عناوينها مثلاً: “القصر الجمهوري”، “ليلة القبض على رامي مخلوف”، “السجن الكبير” أو “مملكة الخوف” لتحدثنا عن خفايا وآليات وعمل سجون النظام الأعتى في تاريخ البشرية؟
ما رأيكم أيها المنتجون بمسلسل يكون عنوانه “صور قيصر” أو “مجزرة التضامن”، فهي قصة درامية جاهزة متكاملة الأركان من مرحلة جمع الصور وكشف خبايا مسالخ النظام الى الهروب وأروقة البيت الأبيض والمحافل الدولية؟ ما رأيكم بتناول الأسباب التي أدت إلى الثورة وكيف تعامل النظام معها بالدمار الشامل للبنيان والإنسان بدل أن تظلوا تجترون مواضيع عن أبو فلان عضو القيادة الفاسد، وأبو علان الذي ينافسه؟ دعكم من الفساد ومن التركيز على المواطن المسكين المعتر الذي تحملونه انهيار سوريا. ركزوا على سطوة وقذارة ووحشية النظام التي ظهرت على حقيقتها في واحدة من أبشع أنواع التراجيديا بتاريخ سوريا ألا وهي “مجزرة التضامن” ومن قبلها مئات المجازر الكيماوية الأكثر بشاعة والتي يخجل منها النازيون أنفسهم؟
أيها الدراميون السوريون: السمكة تفسد من رأسها، والثلم الأعوج من الثور الكبير (النظام) وليس من البسطاء المساكين الذين تشيطنونهم وتحملونهم وزر الكارثة السورية في مسلسلاتكم. ولا تنسوا مقولة الطيب تيزيني الشهيرة أن النظام منذ عام 1970 كان يعمل دائماً على “إفساد من لم يفسد بعد”، وهو ما يزال يستمد قوته من الفساد والإفساد. وبدل التركيز على مروجي المخدرات الصغار، كان يجب أن توجهوا سهامكم إلى أكبر تاجر مخدرات في المنطقة، وهو معروف للقاصي والداني. أليس من الأفضل أن تكون معركة “كسر العظم” الدرامية مع الحمار بدل البردعة المغلوبة على أمرها؟
٭ كاتب واعلامي سوري
تحياتي لك دكتور فيصل
أرجوا استئناف البرنامج الإتجاه المعاكس
*لم أشاهد المسلسل ولا أي مسلسل
لا برمضان ولا بغير رمضان والحمدلله رب العالمين على هذه النعمة.
*كان الله في عون الشعب السوري المنكوب بحكام فاسدين ظلمة.
حسبنا الله ونعم الوكيل في كل فاسد وظالم وقاتل.
شكرًا أخي فيصل القاسم. الحمد لله أنا لاأتابع هذه المسلسلات ولاأعرف عنها شيئًا. ولم أكن أتابعها في الماضي (كباب الحارة وقبلها المسلسلات التركية … )، لافي رمضان ولافي غير رمضان. ههه ماناقصتي وجع راس!
رحم الله المفكر المبير الطيب تيزيتي ابن مدينة حمص عاصمة الثورة السورية. عندما رأيته يبكي في حديثه عن ماحدث في بداية الثورة في حمص وكان قد خرج في المظاهرات الأولى مع المتظاهرين، تأكدت منذ ذلك الوقت أن المأساة قد بلغت الذروة وأن ماقاله المرحوم عبد الرحمن الكواكبي عن طبائع الاستبداد نعيشه واقعاً مؤلماً.
سبق لرشا شوربجي ان أخرجت مثل هذه الأعمال التي تسئ للمجتمع السوري مثل زمن العار وإظهار الشاميين بانهم يظلمون المرأة وان المادة عندهم مقدمة على القيم. الافساد مستمر كما بين صاحب المقال.
ملاحظة لغوية
لماذا “عظم” مكتوبة في المسلسل و في المقال عضم”
اي بالضاد و ليس كما يفترض بالظاء ؟!
هل الأمر مقصود ؟!
وان المسلسل يريد أن يبين أن كل شئ قد كسر من الأخلاق إلى اللغة!
قراءة ممتازه للمشهد السياسي في سوريا وتفكيك ممتاز لمحتوى المسلسلات…مبدع دائما استاذ فيصل القاسم