طبيعي أن يتساءل أحدنا عن سبب النجاح الذي لاقاه المسلسل الفرنسي «لوبان». هو ليس أمريكياً ولا بريطانياً، وهو كذلك ليس الآخر منهما متى أراد المُشاهد التنويع.. ففرنسا جديدة في هذه المسابقة، إنما دخلت، مع «لوبان» بكامل عدتها، فنال المسلسل ثاني أكثر مشاهدة على نتفليكس في العالم، وفي تاريخ المنصة الأمريكية، وذلك بـ 76 مليون مشاهدة لجزئه الأول الذي عرض في يناير/كانون الثاني من هذا العام. وعُرض جزؤه الثاني قبل أيام، مع إعلان عن ثالث قريباً.
كسر المسلسل الصورةَ النمطية للأعمال الفرنسية، السينمائية والتلفزيونية، إذ تُركز، في نسبة كبيرة منها، على علاقات حب وجنس وصداقة (بيضاء غالباً) على بعد سيكولوجي لدى شخصياتها، تنقل روايات بحبكات معقدة ومتشابكة، تبقي البعد الأدبي في الصورة، وطبعاً، دائماً، لا تكون، فنياً وسينماتوغرافياً وحكائياً، سهلةً أو متوقعة أو مألوفة بقدر غيرها من الأفلام في العالم. فلا يستسيغها المشاهد العمومي (من يمكن أن تكون اللغة عائقاً إضافياً عنده) ذلك الذي يكون رقماً دائماً في كل ما ينال المشاهدات الأكثر.
لكن، بقي «لوبان» مسلسلاً مبنياً على كتاب، أو مجلدات من قصص قصيرة مكتوبة بدايات القرن الماضي، لكنها، القصص، جزء أساسي من العمل التلفزيوني الناجح. هي حاضرة في داخله وليس من خارجه. إذ يكون الشخصية الرئيسية (أسان ديوب) يؤديها لصاً إنما، قبلها، قارئاً نهماً لمجلدات وقصص أرسين لوبان، التي كتبها موريس لوبلان على حلقات نشرتها الصحافة عام 1905. يستوحي (أسان ديوب) في المسلسل، خططه للسرقة والاختباء والإفلات من تلك القصص، إنما بإسقاط ذكي على يومنا الراهن. الأدب إذن يبقى حاضراً في هذا العمل الفرنسي، إنما، يبقى الأسلوب في نقل تفاصيل المسلسل، وتطوراته، ذلك المتبَع في الكثير من المسلسلات التلفزيونية، مهما كانت لغاتها، في السنوات الأخيرة.
أما الأسلوب فدمج بين الخط الزمني المتقدم، والاستعادة ضمن فلاش باك، لكن بربط بينهما إذ يحيل كل منهما إلى الآخر، أو يشرحه ويبرره، ويجعل عموم التطورات الحكائية على الشاشة، منسجمة ومفهومة، دون جهد خاص تتطلبه الأفلام الفرنسية عموماً، وقد يكون ذلك التطلب إرثاً من «الموجة الجديدة» التي بدأت في ستينيات القرن الماضي سينمائياً، وكذلك «الرواية الجديدة» التي وازتها أدبياً.
تقرب المسلسل إذن، من صيغة باقي المسلسلات «الناجحة» جماهيرياً، على نتفليكس وغيرها من المنصات، مضيفاً اللمسة الفرنسية، أجواء باريس مثلاً، حيث تجري الأحداث، التصوير الواضح في شوارعها، كأن المسلسل، في جزء منه، إعادة اعتبار «سياحي» للمدينة لدى مشاهدين أمضوا عاماً ونصف العام، حتى اليوم، محجورين في بيوتهم، بعيدين عن «مواقع» سياحتهم. ولم ينقل المسلسل تلك الصور، البوست كاردات، في سياق مفتعَل بل كمكان أحداث عادي، لا بد من تصويره كما هو بكل الأحوال.
اتخذ المسلسل لنفسه عناصر قوة خاصة في السينما الفرنسية: جماليات المكان وتصويره، والاعتماد على الأدب، حيث الحبكة الجيدة (بيع من قصص لوبان بفضل الجزء الأول من المسلسل، وفي فرنسا 140 ألف نسخة) وابتعد عن التعقيد الفني الأسلوبي، وأُنجزَ، أخيراً، بكتابة وتصوير ذكيين كانا مبررين لهذا النجاح الجماهيري أساساً.
بنظرة سريعة على الأعمال التلفزيونية والسينمائية الناجحة جماهيرياً، تلك البوليسية، نجد أن قسماً كبيراً منها يعتمد على اللص الظريف المانح للمشاهدين القدرة السهلة على التماهي معه، فيكون اللص/المجرم هو البطل، مع تبريرات معينة لسلوكه، ويكون المحقق أو الشرطي هو العادي أو الأحمق أو الفاسد أو الشرير. هنا، في «لوبان» يتماهى المشاهد مع أسان في كل أفعاله، حتى السرقة عنده تكون لأسباب أخلاقية وذات أبعاد، نشاهدها في الفلاش باك، تصل إلى حالة ظلم مريعة تعرض لها أسان الطفل. لا يجد أحدنا سبباً ليصف إلى جانب قائد الشرطة الفاسد، المتخاذل مع المليونير الذي أمر بقتل والد أسان، والذي ينظم عمليات نصب وسرقة من الدولة والمجتمع. ويجد، أحدنا، كل الأسباب للتماهي مع هذا اللص المحق، الذكي جداً، القارئ، خفيف الظل والحركة، المهتم، جداً، بابنه، المحاول، بكل عملياته، إعادة الاعتبار إلى والده، الذي اتهم ظلماً بالسرقة، ثم قُتل.. والأهم، الناجح أخيراً في كل مواجهاته مع الشرطة من جهة، والمليونير ورجاله من جهة أخرى، والواصل دائماً إلى النهايات السعيدة.
لا يمكن الحديث عن عناصر نجاح «لوبان» (Lupin) دون الإشارة إلى الجانب السياسي/الاجتماعي فيه، وهذا ما يكسر نمطية الحضور الأبيض في عموم السينما الفرنسية. فبطل المسلسل ببشرة سوداء، زوجته فرنسية بيضاء، قائد الشرطة الفاسد أبيض، المحققون المتعاطفون أخيراً مع أسان اثنان باسمين وملامح عربية، وآخر أبيض. وهذا كله تنويع يعطي للمهاجرين، من الأجيال الأولى أو اللاحقة، مكانة موازية لحضورهم في المجتمع، ما لا نجده، بما يكفي، في عموم السينما الفرنسية.
كاتب فلسطيني/ سوري