لوس أنجليس – «القدس العربي»: عادة ما يتميز أبطال الأفلام، الذين يدافعون عن البشرية وينقذونها من عدو لدود بلياقة بدنية هائلة ويحملون أسلحة مدمرة، على غرار أبطال أفلام «الكوميكس» أو جيمس بوند، لكن أبطال مسلسل «نيتفلكس» الوثائقي، «وباء»، يتسلحون بالشغف والإيمان والخبرة في معركتهم ضد أكبر خطر وجودي على البشرية، وتصديهم لعدو غير مرئي وهو الفيروسات.
أحد هؤلاء هو خبير الفيروسات اللبناني، الدكتور غازي كيالي، المدير التنفيذي لـ «هيومان لينك»، وهي منظمة غير حكومية في لبنان.
«المخاطر التي نواجهها هي الإصابة بعدوى الفيروسات، فعلينا دائما أن نكون حذرين، ليس فقط من أجل أنفسنا، بل أيضا لتفادي نقل العدوى للمجتمع من حولنا»، يقول كيالي، الذي يتخصص في دراسة الأوبئة في الشرق الأوسط.
في الواقع، الفيروسات ليست عدوة للبشرية ولا تريد أن تقتل مضيفها، لأنها في حاجة لخلاياه الحية، من أجل العيش والتكاثر. وبعضها يعيش في أجسام البشر بانسجام بل ويساعدهم أحيانا في مكافحة أمراض متعددة، مثل السرطان أو عدوى ميكروبات أخرى.
المشكلة تنبع من الفيروسات (التاجية) التي تعيش في خلايا الحيوانات منذ آلاف السنين. فعندما تنتقل تلك الفيروسات إلى الإنسان، يتصدى لها جهاز مناعته لكونها غير مألوفة له، وتشتعل معركة ضارية، تسفر عن مرض الإنسان وأحيانا موتِه. فعلى سبيل المثال، لا يسبب فيروس الكورونا المرض للخفافيش، لأن هناك تجانسا بينه وبين خلايا أجسامها، نتج عن تطور طبيعي وتأقلم بين الجهتين عبر آلاف السنين.
في نهاية المطاف، الفيروس كائن طفيلي، لا يختلف عن شخصيات الفيلم الكوري، «طفيلي»، الذي فاز هذا العام بأربع جوائز أوسكار من ضمنها أفضل فيلم. الفيلم يتمحور حول أفراد عائلة فقيرة، تعيش في حارة شعبية، يغيرون هوياتهم ويتسللون إلى بيت عائلة غنية ويعيشون على حسابها، إلى أن ينكشف أمرهم، فتكون العواقب وخيمة.
التكنولوجيا والأوبئة
كان العزل الصحي هو الطريقة الوحيدة لاحتواء الأوبئة حتى اكتشاف الميكروسكوب في القرن التاسع عشر، إذ أمكن للعلماء رؤيةُ الفيروسات وتطويرُ لقاحات ومُضادات لها، ساهمت في إبادة بعضها، مثل فيروس الجدري. أو مقاومةِ بعض آخر مثل فيروس الإيدز. ومع ذلك، فإن أعداد الأوبئة ومصابيها لا تزال ترتفع سنويا.
من المفارقات أن التقدم التكنولوجي، الذي يساهم في احتواء الأوبئة هو أيضاً السببُ وراء تفشيها. فالموت الأسود، الذي سحق نصف سكان أوروبا في القرن الرابع عشر، وصل على متن القوارب التجارية الآتية من دول أخرى. أما الانفلونزا الإسبانية، التي أصابت خمس البشرية وقتلت ما يقارب مليون شخص عام 1918، فتفشت بفضل البواخر الضخمة، التي كانت تنقل جنود الحرب العالمية الأولى الى بلادهم، بينما انتشر وباء كوفيد-19 الحالي عبر الرحلات الجوية بين دول العالم. لكن المسبب الأول لذلك هو التقارب بين الإنسان والحيوان وتكاثر مزارع الحيوانات حول العالم.
«جميع الأوبئة التي أصابت الإنسانية كان مصدرها حيوان مصاب بفيروس أو ميكروب»، يعلق كيالي، الذي، كغيره من خبراء الفيروسات، يجوب مزارع الحيوانات والغابات والأسواق والمغارات في شتى أنحاء العالم بحثا عن فيروسات الحيوانات للتعرف عليها من أجل التأهب لها، في حال انتقالها إلى الإنسان.
«نحاول أقصى جهدنا أن نجد فيروسات وندرس خصائصها. وأن نكتشف أيها يمكنه الانتقال من الحيوان إلى الإنسان»، يضيف كيالي، الذي أجرى دراسات على العديد من الخفافيش الموجودة في كهوف لبنان.
لكن، بالرغم من جهود الخبراء إلا أن العالم واجه عدة أوبئة أصابت وقتلت ملايين البشر منذ وباء الانفلونزا الإسبانية، التي كان مصدرها خنزير، في مدينة كانساس الأمريكية، كان قد انتقل إليه الفيروس من الطيور، ومن ضمنها وباء أنفلونزا الخنازير، وأنفلونزا الطيور والإيدز، التي كان مصدره القرود الافريقية، والايبولا، الذي كان مصدره خفافيش افريقية، والسارس، الذي كان مصدره خفافيش في الصين، وميرس، الذي انتقل من الجمال في السعودية، وكوفيد تسعة عشر، الذي يرجح أنه انتقل أيضا من خفافيش صينية.
«من المستحيل أن ندرس كل الفيروسات في كل الحيوانات»، يقول كيالي، «ندرس بعض الفيروسات في بعض الحيوانات وفي أوقات معينة. وبالطبع عملنا، الذي نسميه استكشافا، مكلف جدا. إذ يتطلب منا السفر إلى أماكن نائية مع معداتنا وأن نستخلص تلك الفيروسات وندرسها. وليست لدينا إمكانيات أو تمويل كاف لتوسيع نطاق دراساتنا لإيجاد عدد أكبر من الفيروسات».
لهذا عندما يتفشى وباء فيروسي، يسارع الخبراء لإيجاد الحيوان، مصدر الفيروس، من أجل كسر سلسلة العدوى وفهم تحوله الجيني، الذي يمكنه من التأقلم في بيئة جسم الإنسان وتفادي جهاز مناعته، الأمر الذي يساعد العلماء في تطوير مصل أو دواء مضاد له.«على سبيل المثال، فيروسات السارس وميرس وكوفيد-19 هي من عائلة الكورونا، ومصدرها من الخفافيش. لكنها غيرت بناءها الجيني للتأقلم في حيوانات أخرى مثل الجمال وآكل النمل، وقد تحوّلت جينياً مرة أخرى لتتمكن من اختراق خلايا الإنسان، لهذا كل منها يحتاج لقاحاً خاص به».
خلافا البكتيريا، الفيروسات لا تتأثر بالمضادات الحيوية، وغالبيتها لا يمكن التخلص منها بأدوية مضادة لأن سرعة تحولها (طفرته الجينية) تبطل من فعالية الدواء خلال فترة وجيزة. فرغم تطوير لَقاح ضد فيروسات الانفلونزا، إلا أنها لا زالت تصيب أكثر من مليار شخص كل عام وتقتل حوالي نصف مليون منهم.«فيروس الانفلونزا لديه قدرة أن يتحول بسرعة، يعلق كيالي. «بإمكاننا أن نطور لقاحاً هذا العام لكن الفيروس سيتحول العام المقبل ويفلت منه، ما يجعل اللقاح غير مجد. حتى في أحسن الحالات، اللقاحات ضده فعالة بنسبة 60 في المئة وليس 100 في المئة».
لهذا السبب، قرر خبير الفيروسات الأمريكي، دكتور جيك غلانفيل، تطوير لقاح شامل ضد الانفلونزا يتم استخدامُه مرة واحدة، ويبقى فعالا الى الأبد، من خلال تحوله حسب تحول الفيروس. لكن كيالي يعتقد أن التوصل إلى لقاح كهذا سيستغرق عدة أعوام.
تطوير لقاح لا يحل المشكلة، إذ يوجد بعض الناس من ثقافات مختلفة، ممن يرفضون استخدامَه لأسباب عقائدية أو مبدئية. فبعد محوِ الحصبة في الولايات المتحدة عام 2000، عادت مؤخرا بسبب امتناع بعض الأهالي عن تحصين أطفالهم ضدها، لاعتقادهم أنها تتسبب في أمراض أخرى وربما تقتلهم. وقاموا بحملات أجبرت الكونغرس على إعفائهم من التلقيح الإجباري لأطفالهم.أما في الكونغو، فيتعرض موظفوا منظمة الصحة العالمية للضرب والقتل، بينما يحاولون تحصين سكان القرى لمنع تفشي فيروس الايبولا الذي قتل تسعين في المئة من مصابيه.
«واجهنا مثل هذا العداء في باكستان وأفغانستان، حيث حاولنا تحصين الأطفال ضد شلل الأطفال، الذي يصيب الكثير منهم. كما تعرض بعض أفراد الطواقم الطبية للقتل. لكن لا توجد مثل هذه المشكلة في الشرق الأوسط. تجدها أكثر في أوروبا والولايات المتحدة».
الاستعداد للوباء
مديرة برنامَج مسببات العدوى في نيويورك، سيرا ماداد، تدرك أن وباء حتمياً سيحدث في المستقبل، لكنها لا تعرف من أين وكيف سيأتي، فتقوم بحملة تأهب لوصول فيروس الى المدينة ومنع تفشي وباء هناك من خلال تدريب العاملين في المؤسسات الصحية وتجهيز المستشفيات في المدينة. ومع ذلك، تعتبر نيويورك أكثر الولايات الأمريكية تضررا من وباء فيروس كورونا، ما جعل حاكمها يتوسل الحكومة الفدرالية لتساعدَه في مواجهته.
«ربما لم يكن التجهيز على المستوى المطلوب لمكافحة الوباء الحالي»، يوضح كيالي «الجهوزية هي مشكلة عالمية لا ترتبط بولاية أو مدينة أو حتى دولة. لكن حسب خبرتي في هذه المجال، أعتقد أن جهوزية العالم تحسنت كثيرا في الأعوام الأخيرة. بما فيها دول الشرق الأوسط، ما عدا الدول التي تعيش أزمات سياسية وحربية، إذ لا يمكنها أن تجهز لمحاربة فيروس وتخوض حروبا أخرى في آن معاً».
يقدر الخبراء في المسلسل وجود ما يقارب مليون وستمئة ألف فيروس غير معـــروف، قد يكون بعضها أكثر فتكا من الثلاثة آلاف المعروفة منها وربما تسحق البشرية.«استبعد ذلك»، يقول كيالي «الفيروس أذكى من ذلك لأنه يريد أن يتكاثر مثله مثل أي كائن حي آخر، ولن يتمكن من تحقيق ذلك إن قتل البشر. فهو في حاجة لخلاياهم الحية». «وباء«يستخدم الأدوات الدرامية التي نشـــاهدها في أفلام الكوارث والرعب الهوليوودية لجـــذب اهتمام الجمهور، لكن تزامن إطلاقه مع اندلاع وباء كورونا هو ما جعله أكثر المسلسلات الوثائقية شعبية على مِنصة «نيتلفكس» وعزز من رسالته وحول بعض شخصياته إلى نجوم إعلامية.