مسلم ويهودي: هكذا يشتغل العالم؟

«هذه المشكلة صعبة بالنسبة لي لأنني نصف يهودي ونصف مسلم». هكذا بدأ أينفير سولومون، مدير عام لـ«مجلس اللاجئين» البريطاني، خلال مشاركته في برنامج «أيّ أسئلة» الإذاعي على راديو 4، ردا على سؤال أحد الحضور: متى تدعم الأطراف السياسية في بريطانيا قرار وقف إطلاق نار في غزة.
ضم البرنامج، إضافة إلى سولومون، ممثلة عن حزب العمال هي أنجيلا سميث (بارونة في مجلس اللوردات) وتيريزا فيلليري نائبة في البرلمان عن حزب المحافظين وشيفون هافيلاند مديرة غرفة التجارة البريطانية. كان مفروغا منه أن تتجنب مديرة غرفة التجارة إعلان رأي واضح، وأن تدافع ممثلتي «العمال» و«المحافظين» عن موقفي حزبيهما الرافض لوقف إطلاق نار. خطابات المشاركين في البرنامج، مع ذلك، تعطي فرصة بديعة لتحليل قضية تمتحن السرديات عند اصطدامها بالواقع.
يعبّر خطاب النائبة المحافظة الفظ عن زواج «مدنّس» بين العنصريتين البريطانية والإسرائيلية. يبدأ تاريخ النزاع (والشرق الأوسط بالمحصلة) في هذا الخطاب مع «أكبر هجوم على الشعب اليهودي منذ الهولوكوست» (أي عملية «القسام» في 7 تشرين الأول/أكتوبر) فيستحضر، عمليا، إرث الإبادة الجماعي الذي نفذته العنصرية الأوروبية ضد اليهود، ويعيد تحميله للضحايا الفرعيين، لأسلاف ضحايا تلك الإبادة الأوروبية، في فعل «تطهيري» للعنصرية الأوروبية المشغولة حاليا بصدّ العرب والمسلمين والافارقة عن حدودها، كما كانت مشغولة بإبعاد يهود أوروبا الشرقية، فتسقط عبء «المحرقة اليهودية» بتوكيل حاملي إرثها قمع ضحاياها الجدد.

وقف القتل «أمر غير عادل»

يعادل حضور «حق إسرائيل في الدفاع عن النفس» في هذا الخطاب غياب حق الفلسطينيين في الحياة (تقول النائبة: اعتقد أن السلطات الإسرائيلية تقوم بكل ما يجب لتجنب وقوع ضحايا مدنيين!). وقف إطلاق النار (الذي سيوقف قتل الفلسطينيين) بالتالي، هو «أمر غير عادل».
خطاب قائدة المعارضة العمالية في مجلس اللوردات أكثر خبثا من إظهار عنصرية صريحة، لذلك يلجأ لادعاء تمثيل الطرفين («كلا الطرفين غير مستعد لوقف النار» ـ «إنه حل في اتجاهين») لكنه، عند الجد، يتكشف عن موقف شبيه بموقف المحافظين («لا يمكن أن يحصل وقف إطلاق نار طالما الرهائن محتجزون» ـ «لذلك إدخال الدعم هو أولوية») وهو ما يمكن ترجمته على أرض الواقع: لإسرائيل الحق في قتل آلاف الفلسطينيين لإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين.
يكتسب أهمية هنا، تصريح عن الفلسطينيين، ذكرتنا به الروائية الهندية أرونداتي روي، أطلقه عام 1937 رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، يقول فيه: «لا أتفق مع أن الكلب في وجاره يمتلك الحق النهائي بسكن ذلك الوجار، حتى لو كان موجودا فيه لوقت طويل جدا. لا أوافق على هذا الحق. لا أقر، على سبيل المثال، أن هناك خطأ كبيرا حصل للهنود الحمر في أمريكا أو السود في أستراليا. لا أقر أن خطأ حصل لهؤلاء الناس من حقيقة أن عرقا أقوى، عرقا أعلى شأنا، عرقا أكثر حكمة عالمية، إذا أردنا وضع المسألة هكذا، جاء وأخذ أرضهم» وهو ما اعتبرته روي المثال الذي قام عليه موقف إسرائيل تجاه الفلسطينيين.
في تفسيرها لتحدّي 56 نائبا عمّاليا في البرلمان لقرار حزبهم عدم التصويت لوقف إطلاق النار، قالت البارونة العمالية إن هؤلاء استمعوا لمطالب ناخبيهم و»نحن استمعنا لمطالب ناخبينا» وهو أمر لافت حقا، خصوصا مع تذكّر مطالبات بعض أنصار الاتجاه الإسرائيلي في السياسة البريطانية بمنع المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في بريطانيا (أو على حد قول سويلا برافرمان، وزيرة الداخلية المقالة: الغوغاء الفلسطينيون) «لأنها تبث الرعب في أقلية (يهودية) لا يزيد عددها عن 300 ألف شخص».

جنوب افريقيا ـ أيرلندا… فلسطين؟

يوضّح تصريح البارونة، بشكل مضمر، أنها لا تعبّر، كما ادعت، عن الطرفين، بل تمثّل، مثل نظيرتها المحافظة، طرفا واحدا (إسرائيل) فيما يمثّل النواب الستة والخمسون ناخبيهم الذين يتعاطفون مع الطرف الثاني (الفلسطينيون). يبدو تأثير «الأقلية اليهودية» بهذا المقياس، أكبر نفوذا وتأثيرا جدا من حجمها العددي الذي استخدم كذريعة ضد المظاهرات، لكن المسألة تتسع لتفسيرات إضافية. يمكن لتصريح سولومون المذكور في بداية هذه المقالة أن يضيء بشكل أكبر هذه المسألة، فهو يربط بين حقيقة أن أباه يهودي بريطاني وأمه هندية مسلمة (مهاجرة لبريطانيا من جنوب افريقيا) وبين موقفه السياسي، الذي يبدأ، بشكل اعتيادي، بإدانة أفعال «حماس» ثم يشير، في المقابل، إلى أن «كل سكان غزة يعاقبون وهذا لا يمكن أن يكون صحيحا» ثم لا يلبث أن يستعيد، بطريقة ذكية، ذكر مثالي جنوب افريقيا وأيرلندا، حين كان العالم الغربي يعتبر المناضلين ضد العنصرية الاستيطانية، في جنوب افريقيا، والاحتلال البريطاني لأيرلندا، إرهابيين.
يأخذنا تصريح سولومون، دفعة واحدة، إلى الإشكالية الشهيرة التي تشتبك فيها العاطفة والموقف السياسيين، مع الدين، كما يأخذنا إلى الإشكالية الشهيرة حول مفهوم الإرهاب. تدفع المسألة الأولى السياسة من سماء القوانين والشرع والمبادئ الإنسانية العامة إلى أرض الواقع، حيث تلعب المصالح والأديان والقبائل والمؤسسات أدوارها المؤثرة في إنتاج القرارات السياسية الخطيرة، التي تؤدي للحروب والإبادة والعقاب الجماعي، كما إلى إنتاج خطابات سياسية: يمينية فظة، إجرامية، عنصرية، أو «يسارية» مخاتلة، تدعي الحياد، وتتحدث باسم الطرفين، لكنّها تؤدي الى النتيجة نفسها للخطابات السابقة.

أنتم إرهابيون ونحن ديمقراطيون!

تفتح هذه المسألة بابا أيضا إلى التفكير بمواقف البشر وقراراتهم وانحيازاتهم: هل يقومون بما يقومون به، ويتخذون قراراتهم السياسية بناء على أنهم مسلمون (أو سنة وشيعة وإسماعيليون وأباضيون) أو مسيحيون (أو بروتستانت وكاثوليك وأرثوذكس) أو يهود أو بوذيون، وهل يمكن أن يكون هناك أمر في السياسة لا يتأثر بالسلف، أو الدين، أو القبيلة، أو الجغرافيا التي جئنا منها؟
خلال لقاء كان مزمعا مع مسؤول أمريكي كبير، رجعت إلى أدبيات الإدارتين الأمريكية والبريطانية حول تصنيف «حماس» منظمة إرهابية، ووجدت في تبرير بريطانيا لتصنيف الحركة، عام 2021، إرهابية، ذكرها أنها خلال نزاع نشب مع إسرائيل في أيار/مايو 2021 أطلقت المنظمة 4 آلاف صاروخ وأن مدنيين قتلوا بينهم طفلان. أما الإدارة الأمريكية فذكرت في أسبابها وقوع «هجمات ملحوظة» بينها هجوم لـ»كتائب القسام» (الذراع العسكري للحركة) عام 2021 أطلقت فيه 4000 صاروخ، ما أدى لمقتل 13 إسرائيليا. الموقع الأمريكي، على عكس البريطاني، أشار إلى عدد من قتلتهم إسرائيل ردا على مقتل الـ13 إسرائيليا وكان 260 فلسطينيا.
بهذه المقاييس المهولة للنسبة بين الضحايا من الطرفين: 260 فلسطينيا مقابل 13 إسرائيليا، و1200 إسرائيلي مقابل 13500 فلسطيني منذ 7 أكتوبر الماضي (وعداد القتل ما زال مفتوحا) يبدو مصطلح الإرهاب مسيّسا، وينحاز، على طريقة حزبي العمال والمحافظين في بريطانيا، والجمهوريين والديمقراطيين في أمريكا، لصالح إسرائيل لا لصالح التعريف المنطق البديهي للإرهاب، الذي يصف من يقوم بقتل المدنيين لغاية سياسية.
وهو ما يفسّره بوضوح شديد قول للمفكر اليساري (اليهودي) الأمريكي نعوم تشومسكي إن «مأساة الفلسطينيين سببها عدم وجود دعم دولي لهم وذلك لسبب مهم هو أنهم لا يملكون ثروات، ولا يملكون نفوذا وسلطة، ولذلك فهم لا يملكون حقوقا» معقبا: «هكذا يعمل العالم: حقوقك هي انعكاس لنفوذك وثروتك، وهو ينطبق على سكان الولايات المتحدة الأمريكية فإذا كنت طفلا فقيرا في منطقة روكسبري فأنت لا تملك حقوق الأغنياء الذين يقيمون في الضواحي، والأمر ينطبق على باقي العالم».

كاتب من أسرة «القدس العربي»

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية