انطلقت مسيرات العودة في قطاع غزة المحاصر، في وقت تزايد فيه الضغط على الشعب الفلسطيني، وسدت أمامه أكثر من طريق، خاصة من إدارة ترامب التي أعلنت في 6 ديسمبر/كانون الأول 2017 قرارها بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، واتخاذها الخطوات العملية لنقل السفارة من تل أبيب إلى القدس، كما أعلنت عن وضع اللمسات الأخيرة لما سمته «صفقة القرن» التي توجس منها الشعب الفلسطيني بكامله، واعتبرها محاولة لتصفية القضية الفلسطينية، بمساعدة أساسية من أنظمة عربية، باتت تتعامل مع إسرائيل بنوع من العلنية.
كما قامت الإدارة الأمريكية بقطع المساعدات عن السلطة الفلسطينية ووكالة الأونروا كجزء من عملية الضغط لقبول صفقة القرن. سلطة رام الله كانت تحضر لجلسة للمجلس الوطني الفلسطيني ذي اللون الواحد، حيث كانت عاجزة عن اتخاذ أي قرار قادر على التأثير محليا أو عربيا أو دوليا، في ظل أزمة ثقة بعد تفاقم مصادرة الأراضي وحجز الأموال وانتشار قصص الفساد. لكن الأبواب الموصدة لا تقف حاجزا أمام إبداعات الشعب الفلسطيني في ابتكار وسائل جديدة للنضال.
بين الانتفاضة الأولى ومسيرات العودة
مرحلة ما قبل المسيرات كانت تشبه تقريبا حالة الضياع، التي عاشها الشعب الفلسطيني لمدة خمس سنوات، بعد الخروج من بيروت عام 1982. من عمق الجراح ومرارة الواقع ابتدعت الأجيال الجديدة وسيلة جديدة للنضال الجماهيري الشامل، الذي عبرت عنه الانتفاضة الأولى. لقد أعادت انتفاضة الشعب الفلسطيني الشاملة (1987- 1993) القضية الفلسطينية إلى مركز الاهتمام الدولي، وأعادت تأهيل القيادة المهمشة في تونس، ووضعتها في صدارة الأحداث، وحرّكت المياه الآسنة في مستنقع أنظمة الخنوع، وزلزلت الأرض من تحت أرجل الكيان وجنوده البطرين في الأراضي المحتلة، فأصبحوا يسيرون مذعورين مطاردين خائفين، رغم أنهم مدججون. قلبت الانتفاضة الطاولة على رؤوس الجميع، خاصة الذين اجتمعوا في فاس في سبتمبر/أيلول 1982 بعد الخروج من بيروت ليمرروا نقاط فهد السبعة التي تحمل مضمون الاعتراف بالكيان. الانتفاضة الأولى قدمت نموذجا عبقريا لاجتراح الشعب الفلسطيني، لوسائل نضال جديدة ومبتكرة تعيد الأمل للشعب المناضل وتقضي على بقايا اليأس التي نتجت عن الرحيل الموجع من لبنان.
كانت ظروف انطلاق مسيرات العودة في بدايتها العظيمة في 30 مارس/آذار 2018، الذكرى الثانية والأربعين ليوم الأرض، أقرب إلى ظروف الانتفاضة الأولى كما ذكرنا. فقد قدمت جماهير غزة نموذجا جديدا ومبتكرا من النضال لإعادة القضية إلى مركزيتها الدولية، والرد على رعونة الرئيس الأمريكي، الذي نصب نفسه حاكما للكون يتصرف وكأنه من أملاكه العقارية. جاءت مسيرات العودة ردا مثاليا ومؤثرا على صفقة القرن، وعلى قرارات ترامب، وضعف القيادة الرسمية ووهنها أمام الغطرسة الإسرائيلية. لقد قدمت المسيرات نموذجا جديدا للنضال السلمي المدني الحضاري المنظم، الذي يجمع الناس طواعية في مسيرة تتجه نحو السياج العازل ترفع علم فلسطين، وتحمل رسالة واحدة إلى العالم مفادها، أن الشعب الفلسطيني متمسك بحق العودة، وأن نضاله سيتواصل وأنه قادر على ابتكار وسائل جديدة للنضال، رغم وقوع القطاع بين فكي كماشة الأخ والعدو، وخضوعه لحصار شامل من البر والبحر والجو، تجاوز إحدى عشرة سنة. صحيح سقط في أول مسيرة 19 شهيدا وجرح 1416 إلا أن العالم كله شاهد عظمة الشعب الفلسطيني ونضاله المشروع بالوسائل المتاحة. فقد اجتمع مجلس الأمن وناقش العنف الإسرائيلي المفرط، وقدمت الكويت مشروع قرار لتأمين الحماية للشعب الفلسطيني، قتله فيتو نيكي هيلي، ممثلة ترامب في المنظمة الدولية، فانتقل مشروع القرار إلى الجمعية العامة وصدر بغالبية 120 صوتا مقابل ثمانية أصوات، أي أن إسرائيل وأمريكا لم تجدا من يساندهما إلا ست دول، وهي عزلة تذكرنا بالأيام الخوالي.
تقييم المسيرات بعد 20 شهرا من الانطلاق
أود هنا أن أقدم بعض الملاحظات التقييمية، إيجابا وسلبا، لمسيرات العودة التي تدخل أسبوعها الثالث والثمانين. فقد قدمت المسيرات مجموعة من الدروس العظيمة التي يمكن البناء عليها لمراكمة مزيد من الإنجازات على المستوى الوطني:
– لقد أثبتت المسيرات أن الشعب الفلسطيني لن يفتقر إلى وسائل النضال، وأنه قادر على اكتشاف وتطوير وسائل جديدة للكفاح بالإمكانيات المتاحة، التي لا يستطيع أحد أن ينكر عليه حق المقاومة السلمية المنظمة والحضارية؛
– لقد أوضحت المسيرات بصورة جلية تمسك الفلسطينيين بحق العودة مهما طال الزمن وأن هذا الحق لا يموت بالتقادم؛
– لقد قدمت مسيرات العودة بديلا لمسيرة المفاوضات العبثية التي أوصلت القضية إلى مأزقها التاريخي. وما زال هناك من يتشدق بالعملية السلمية ويطالب دائما ويناشد المجتمع الدولي للتحرك وهم يعرفون سلفا أن نداءاتهم تذروها الرياح؛
– أثبتت المسيرات حجم المخزون العالي من قدرات الشعب الفلسطيني على التضحية من أجل وطنهم وحريتهم وحقهم في العودة إلى ديارهم التي طردوا منها بغير حق.
الانتفاضة الأولى بدأت تخبو منذ مؤتمر مدريد 1991، وانتهت تماما بتوقيع اتفاقيات أوسلو عام 1993، بعد أن تسربت إلى داخلها مجموعة مفاسد وتدخلات وفوضى، فأصبحت في النهاية عبئا على الناس، بعد أن كثرت تجاوزات الملثمين وأصبحت الإضرابات المتكررة، وإغلاق المدارس، وتعطيل الحياة التجارية عبئا على الناس، فلما جاء مؤتمر مدريد تراجع الناس عن المواجهات اليومية، وما أن تم توقيع اتفاق أوسلو حتى انتهت الانتفاضة. المسيرات الآن تكرر المشهد، حيث بدأت تتراجع حجما وتأثيرا وتأييدا والتفافا جماهيريا. إذن مسيرات العودة بحاجة الآن إلى عملية تقييم موضوعية، عما يمكن أن تنجزه بعد، ولم تنجزه لحد الآن، ودعني أضع بعض الحقائق.
– تدخل المسيرات أسبوعها الثالث والثمانين. وقد بلغ عدد الشهداء لغاية الآن ما لا يقل عن 305 شهداء (حسب مصادر الإحصاء) وأكثر من 33000 جريح. الجرحى هم العبء الأكبر، خاصة أن من بينهم آلاف بحاجة إلى رعاية طبية دائمة، وتكاليف معيشية وعلاج ومتابعة وأطراف صناعية. وهذا عبء كبير فوق الأعباء التي يتحملها قطاع غزة المحاصر، في غياب السلطة والمساعدات العربية والدولية.
أثبتت المسيرات أن الشعب الفلسطيني لن يفتقر إلى وسائل النضال، وأنه قادر على اكتشاف وتطوير وسائل جديدة للكفاح بالإمكانيات المتاحة
– لقد أساءت بعض الفصائل للمسيرات السلمية المدنية المنظمة، عندما راحت تجير المسيرات لصالح فصيل معين وتذكر عدد الشهداء من ذلك الفصيل، وهو ما استخدمه السفير الإسرائيلي في مجلس الأمن، مقتبسا كلام المسؤول ليحاول أن يثبت أن هذه ليست مسيرات طوعية مدنية سلمية، بل هي مخطط مرسوم من فصيل محدد.
– لقد استشهد عدد كبير من الأطفال وأصيب منهم الآلاف، كما أستشهد عدد كبير من الكوادر المهنية مثل، الصحافيين والممرضين والممرضات وعمال الإغاثة والصحة. وهؤلاء من الصعب تعويضهم بسرعة، وهو ما يضاعف معاناة الناس في غزة، بسبب شح الموارد من المهنيين العاملين في الميدان الصحي.
– الحدثان الكبيران اللذان جذبا أنظار العالم كله في هذه المسيرات، مسيرة العودة الكبرى الأولى ومسيرة 14 مايو، التي خصصت للاحتجاج على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والتي سقط فيها 61 شهيدا و2400 جريح. أخبار المسيرات هذه الأيام لم تعد تجذب الرأي العام العالمي، وفقدت وهجها، وأصبحت حدثا عاديا بأعداد قليلة، فيسقط كل أسبوع شهيد أو اثنان أو ثلاثة وسبعون جريحا أو أكثر. الالتفاف حول المسيرات الأسبوعية بدأ يتراجع، بل بدأت بعض القطاعات تشكو من الأحوال المعيشية المتردية، ونقص الماء والدواء والكهرباء والغذاء. ولا غرابة في أن تنطلق احتجاجات جماهيرية في غزة تحت شعار «بدنا نعيش» فيتم التصدي لها بالقوة.
نحن لا نريد أن نعطي دروسا لأحد، ولكننا ندعو لتقييم مردود المسيرات بعد عشرين شهرا من انطلاقها. فإذا أصبح المردود ضئيلا، قياسا بالثمن العالي المدفوع فلا بد إذن من مراجعة شاملة والتفكير في أساليب جديدة ومؤثرة، وأقل كلفة على الشعب الفلسطيني، بينما تكون التكلفة العالية على العدو الصهيوني، الذي لا يفهم إلا لغة النضال والمقاومة.
الشيء الغريب والمستغرب، أن الرئيس عباس تجاهل مسيرات العودة تماما، وكأنها غير موجودة ولم يأت على ذكرها في خطابيه في الأمم المتحدة لعامين متتاليين. وكم كان سيقوي من موقفه التفاوضي، ويعيد الاعتبار لسلطته المتآكلة، لو أنه احتضن المسيرات وباركها، وطالب بمسيرات سلمية مماثلة في الأراضي المحتلة، إذن لهز الأرض تحت أرجل المحتلين. لكن القرارات التاريخية الشجاعة تحتاج إلى قيادات تاريخية شجاعة تأخذها إلى المكان والزمان المناسبين.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي
من موقعك كمحاضر ؛ في الغرب؛ يمكنك تجديد العهد مع فلسطين بإعادة التعريف بها وبالظلم الذي وقع عليها من قبل العصابات الصهيونية المدعومة من قبل الحكومات الغربية حيث إن أحسنت التأثير هناك فسترى الدعم في ساحات العواصم الغربية من خلال التحركات الطلابية والشعبية الرافضة لتوطين الوبيات الصهيونية التي تدعم إسرائيل.
تطوير المقاومة واجب..و هو ما يمكن تسميته بالمقاومة الذكية. ومن ذلك على سبيل المثال تخصيص جهد كبير و تنظيم و موازنة كبيرة للملاحقة القانونية للعدو ككيان و كافراد بكل اشكالها و منها اصابات المدنيين العديدة و الاعتقالات و مصادرات الاراضي و الاملاك..و..و .. و منها ايضا تخصيص جهد كبير و تنظيم او تنظيمات و موازنة كبيرة للاعلام خاصة الموجهة للرأي العالم في اوروبا و امريكا للرد على ادعاءات و افتراءات العدو في الاوساط الاعلامية لا سيما الحديثة منها…و منها ثالثا المقاومة الالكترونية في اختراق مواقع العدو و شل حركته و انظمته الالكترونية و التي صارت عماد الحياة عنده..و رابعا تطوير المقدوفات الذكية الصغيرة مثل الطائرات الموجهة و التداخلات في اوساط البيانات ..و ..و