تذكرنا رواية عاطف أبو سيف «مشاة لا يعبرون الطريق» 2019 بروايته «حياة معلقة» التي تتلخص في أن الناس في غزة يقتلون في أي وقت وبأي وسيلة، فالقتل المفاجئ الذي أنهى حياة نعيم بن إبراهيم الورداني الذي كان قد نزح من يافا مع ذويه إلى مخيم في غزة عام 1948 لا يختلف قطعا عن مصير الرجل العجوز الثمانيني الذي قيل إن شاحنة صدمته، فدخل على إثر ذلك في غيبوبة. وتطوع بعض الأشخاص من المارة في المكان لإسعافه بنقله للمشفى. أما سائق الشاحنة فقد تابع طريقه مسرعا في ما يبدو هروبا من المسؤولية عن الحادث، في تصرف لا أخلاقي، ينمُّ على الاستهتار واللامبالاة.
ومثلما عودنا عاطف أبو سيف في روايته تلك، يتوخى الإفراط في التفاصيل تارة، وتارة يعزف عن ذلك عزوفا مخلا بالغرض. فبعد أن تجمع الأشخاص: الفاكهاني والسائق وابنة المحرر والممرضة، والفتاة التي تعنى بالمريض الآخر، انضم إليهم الشرطي المسؤول عن ضبط الحوادث في الطوارئ، وأخذ إفادات الشهود، وكتابة التقارير، وإطلاع المسؤولين. أما الصحافي فقد انضم إليهم متأخرا، وهو كما هي العادة مندوب جريدة تعنى بأخبار الحوادث.
واللافت أنَّ المؤلف أبو سيف طرح على هذا التجمّع سؤالا، وهو ما اسم الرجل الذي صدمته الشاحنة؟ أين يقيم ومن هم أقاربه؟ ومن من الناس يمكن أن يتعرف عليه ويدلي بأي معلومات عنه؟ والجواب عن هذه التساؤلات يتلخص في أنه مقطوع من شجرة.. لا أقارب، لا معارف، لا جيران، وما إن تمضي على الحادث ساعات حتى تساور الشرطي الشكوك في الحضور، أو في بعضهم على الأقل، يرتاب في سائق سيارة الأجرة. ويبحث عن كل ما من شأنه أن يثير الريبة، مشيرا لعلاقة هذا السائق بجريمة الاعتداء على الثمانيني، ثم يرتاب ببائع الفواكه ويحاول العثور على كل ما من شأنه أن ينمّ على ضلوع الرجل في هذه الجريمة، لاسيما أن دكانه يطل على موقع الحادثة، ويفترض أنه رأى السائق، ويتكتم مخفيا علاقته بالجريمة، ولا يخلو الأمر من ريبة تلاحق الصحافي، الذي يسعى هو الآخر، من جهته، لمعرفة جليَّة الأمر، والوصول إلى الحقيقة، إرضاءً لرئيس التحرير. ولم يفت الشرطي أن يشك في أن تكون ابنة المحرر، التي وجدت نفسها مصادفة أمام الرجل الملقى على الأرض، وأرادت تقديم المساعدة، ضالعة هي الأخرى في هذه الجريمة التي لا يمكن أن تقيد ضد مجهول. ثم إنَّ كلا منهم يستبعد التهمة عن نفسه، باتهام غيره، فهو عن طريق الشك بالآخرين يقصي عن نفسه الريبة، فبائع الفاكهة يشك تارة بالصحافي، وطورا بسائق السيارة. وهذا يشك ببائع الفاكهة تارة، وتارة بالفتاة التي تَبيَّنَ لاحقا أنها ابنة المحرّر، وعلى علاقة بالصحافي ذي الخيال الخصيب الذي يؤلف الأخبار تأليفا متقنا لا تعوزه التفاصيل الدقيقة. وفي النهاية يقع القارئ ضحية تلك الفصول التي تتكرر فيها الأحاديث عن تبادل التهم والأدوار، ما يُشعر القارئ بالضجر، ويضطره للمرور عن بعض الصفحات دون قراءة. ولعل المؤلف، بما عهد به إلى الصحافي من دور يقوم فيه مقام الكاتب الضمني – على رأي من يرى ذلك – يخفّف من تأثير هذا التزيد المسبب للرتابة، المفضي إلى الشعور بالملل، وتكرار القفز عن الفصول من واحدٍ لآخر.
الصحافي
فهذا الصحافي يُدْخلُ على نسق الرواية تعديلا يخالف فيه قواعد اللعبة السردية، فبدلا من أن تعرف حكاية الرجل الثمانيني منه، أو من أحد أقاربه، أو من صديقه (حبيب) سمح لخياله أن يجري وراء الوقائع الافتراضية التي تهيأت له تهيؤا. فهو يتوقف إزاء الصورة التي عثروا عليها في محفظة الرجل فافترض أنها حبيبته التي عاش في انتظار أن يجتمع بها، وسماها الصحافي سلوى. كان الثمانيني، مثلما تهيأ للصحافي، قد وقع في غرامها في يافا عام 1946 وهو العام الذي ُذكر على الوجه الخلفي للصورة. وفي تلك السنة خَطَب الفتاة. وفي التي تليها غادر إلى القدس للدراسة. الفتى (الثمانيني) لجأ إلى قطاع غزة 1948، واستقر فيه المقام في المخيم، فيما غادر أخوه الأكبر للشمال واستقر في بيروت. أما (سلوى) فلم يعرف الرجل الثمانيني عنها أيّ شيء، وهكذا تنتهي الحكاية الافتراضية المتخيلة بعثورالثمانيني على عمل وهو ساعيَ بريدٍ، واقتنى لهذه المهمة دراجة هوائية صدمتها الشاحنة، وظل دولابها يدور لثوانٍ بعد سقوطه أرْضا، وارتطام رأسه بالرصيف، ووقوعه في غيبوبة يسميها لاحقا (الموت السريري). ولا يكتفي الصحافي بهذه الحكاية المتخيلة على سبيل الافتراض، إذ يخترع حكاية أخرى شبيهة بها للفتاة التي تعتني بالمريض الآخر. وثمة حكاية أخرى يخترعها هذا الصحافي، وهي لابنة المحرر ومحبّها الغيور المغرم بالشاعر أحمد دحبور. وأخرى للممرِّضة ذات الجسم المُمتلئ. وجلها قصص حبّ، وعشق، كأنّ كل فلسطيني أو غزاوي- بكلمة أدق – لا يخلو من أن يكون دون جوان، أو مجنون ليلى في زمان عصره.
يعاني النسق الروائي من اضطراب، ذلك أن المؤلف لجأ إلى تقسيم النص فصولا بعضها يحمل عنوانا دالا على الوقائع. مثل: ملاحظات الشرطي حول المريض، دعوة مشتركة على قهوة، التقرير الأول للشرطي، ملاحظات الصحافي على.. وبعضها يحمل عنوانا لا يدل على الوقائع، بل على أشخاص، منها: المحرر، أو صورة – سلوى – وسلوى عنوان فصل آخر، ونجاة.
تتواتر الحكايات في مسعى من المؤلف لدفع الضجر عن القارئ، بيد أنها لا تساهم قطعا في الوقوف على طرف خيط يقود المحققين لمعرفة جليَّة الأمر، وهل كانت الحادثة جريمة، واعتداءً، أم أنها حادث عرضيٌ لا أكثر. ويبدو أنَّ المؤلف بسبب هذا الإفراط في الفرضيات، والخيالات التي تفنن في اختلاقها الصحافي، أو الشرطي، أو بائع الخضار، أو السائق أو ابنة المحرر، أو الممرضة، أو الفتاة التي غادر ابن عمها للدراسة في تونس، لم يستطع الوصول بالنسق لخاتمة يرضى عنها هو، ويرضى بها القارئ، لذا نجده يختتم هذه الحكاية بنهاية مفتعلة جدا، تثير شفقة القارئ بلا ريْب. فأحد الشخوص يتساءل: «ماذا لو عادت سلوى.. وفتحت الباب ودخلت.. (على فرض أنها تعلم بوجود هذا الحبيب في هذه الغرفة من المستشفى) ووضعت يدها على رأسه فأفاق من غيبوبته» وبعد 6 أسطر يقول الراوي: «عادت سلوى. فتحت الباب. ترجَّل ونهض عن السرير مثل شمس تشرق من بين الغيوم.. كأنه كان ينتظرها قبل أنْ تصل. فتح عينيه، وملأهما بحضورها في قلبه الثمانيني. عاد طفلا يلهو في أزقة يافا» في هذه الخاتمة لا يجد القارئ إلا ما يذكّرهُ بمسلسلات الأطفال التلفزيونية التي تبدأ عادة، أو تنتهي، بعبارة «افتح يا سمسم».
وجهات النظر
علاوة على ما سبق يعاني النسق الروائي من اضطراب، ذلك أن المؤلف لجأ إلى تقسيم النص فصولا بعضها يحمل عنوانا دالا على الوقائع. مثل: ملاحظات الشرطي حول المريض، دعوة مشتركة على قهوة، التقرير الأول للشرطي، ملاحظات الصحافي على.. وبعضها يحمل عنوانا لا يدل على الوقائع، بل على أشخاص، منها: المحرر، أو صورة – سلوى – وسلوى عنوان فصل آخر، ونجاة. وصاحب محل الفاكهة. والسائق. وهذه العناوين لا ينتظمها نسق. وتنم على الارتباك؛ فهو يحاول اتباع تكنيك وجهات النظر point of view غير أنه حائر بين هذا التكنيك والبناء القائم على وحدة الراوي العليم، الذي يهيمن على الصحافي، وتقاريره، فقد أراد الكاتب أن يوحي لنا باستقلال شخصية الصحافي عنه، وأنه كاتب ضمني لكن ما يرويه الصحافي هو ما يسرده الراوي العليم. فكلامه ومحكياته عن سلوى أو نجاة أو أي مشبوه آخر من المشبوهين، هو من مرويات السارد منسوبة للصحافي، وهي لا تجعل منه ساردا فعليا لما يرويه، والدليل على هذا كثرة التعليقات التي تعبر عن رأي المؤلف، وهي تعليقات تتضمن الإملاءات التي يضعها أمام هذا الصحافي لينتقي منها ما يريد، ويترك ما لا يريد. يقول مثلا « تذكرون أن من حِكَم الحياة وخبراتها الأزلية أنّ القلوب المجروحة لا تشفى. كنت أظن مثلكم. ربما أن الشوق يجف من شدة الفراق. وأن القلوب تُروَّض وأنَّ رياح البعد الآتية قد تدجِّن الروح. لكن صدقوني إنَّ شيئا من هذا لم يحدث.. ظل سنوات طوالا، ذهب بذهابها عمرهُ، يحمل رسائل الآخرين.. ينتظر لحظة مخبأة في جيوب القدر، تحمل رسالة له منها». فمثل هذا لا يمكن أن يذكرهُ الصحافي المعنيّ بما جرى فعلا، لا بما لم يجر، ولا بما هو متوقع، فهو كلامٌ يتخذ صاحبه فيه مظهر الواعظين، ويفصح عن أنَّ الراوي، لا الصحافي، ولا الشرطي، ولا ابنة المحرر، ولا الفاكهاني، ولا السائق هو الذي يتحدث. والتعليقات التي تؤكد هذا، نعني تعليقات الراوي العليم، أكثر، وأوضح من أن تخفى على قارئ.
تداخل المرويات
تضاف إلى هذه الإشكالية اضطرابُ النسق نتيجة تداخل المرويات تداخلا لا يفضي لشيء. فهو يقف بنا قليلا عند شخصية نجاة، فما إن يروي عنها بعض المواقف التي لا تسهم بنمو الرواية حتى يتوقف، ولا يعود لذكرها قطعًا. كأن الفصل الذي يقع بين ص 94 و97 حشو لا أكثر، فلو حذف منها لما ترك حذفه ثغرة أو نقصا ينتبه له القارئ. إلى ذلك أقحم المؤلف حكاية خميس، وتجارة الأنفاق، وتحول الفقير البائس في وقت قصير إلى مليونير، وقد غإلى في ذلك مغالاةً يتوقع منها القارئ تأثيرا على المجريات لكن شيئا من هذا لم يقع. وهذا لا يعني أنَّ الكاتب أخفق في تصوير المكان داخل المخيم، وما يعتريه من بؤس تارة ومن فساد تارة. ولا تخلو «مشاة لا يعبرون الطريق» من مواقف يسلط فيها الكاتب الضوء على ديناميكية الحياة اليومية فيه، والإشارة بصفة خاصّة لما تخلفه فيه الحروب المتكررة من إراقة الدماء وقصف البيوت والأبراج كبرج الباشا، وهدم المنازل على رؤوس الآمنين. وهذا هو الجانب الذي يجعل من قراءتها قراءة لا يعقبها ندم، ولا يخلو التأمل فيها من بعض الألم.
ناقد من الأردن