مشاهدات من التاريخ البغدادي

تتلاشى الذكريات مع تلاشي من يتذكرها، حيث لا تنتقل جميعا من جيل إلى آخر، وإذا انتقلت قد تتعـــرض للتحوير الذي يكون أحيانا مقصودا. وفي نهاية المطاف نكتشف أن الحياة تنتقص إلى أهم ما يحدد هويتها، ألا وهو التاريخ الذي يربط الإنسان بالأرض وبمن كان عليها. ولذلك نحاول إنقاذ الممكن وكتابة الذكريات قبل أن تنتهي بانتهائنا، وهنا بعض الحكايات التي حدثت في الماضي القريب.

الملك فيصل الأول وتوفيق الخالدي

لم يكن تعيين فيصل الأول (1885 – 1933) ملكا على العراق بالسلاسة التي يعتقدها الكثيرون، إذ عبّر البعض عن امتعاضهم لاختياره وكان لكل منهم أسبابه. وعندما ذكر أحد المبشرين الأمريكيين للمس جرترود بيل Gertrude Bell (1868 – 1926)، التي كانت تعمل مسؤولة ارتباط بين السلطات البريطانية وكبار الشخصيات العراقية، أن القبائل في جنوب العراق لن تقبل بأحد ابناء شريف مكة أن يكون ملكا على العراق، ابتسمت بثقة وقالت «سيقبلون». وكان أحد هؤلاء المعترضين عبدالرحمن الكيلاني (1841 ـ 1927) نقيب أشراف بغداد، الذي كان أيضا أحد أبرز المرشحين لتولي عرش العراق. وكانت السلطات البريطانية قد عينت عبدالرحمن الكيلاني رئيسا للوزراء في العراق عام 1920، أي قبل تعيين فيصل ملكا على العراق، ولكن عبدالرحمن الكيلاني لم يبقِ مشاعره سرا، بل عبّر عنها بكل صراحة وأمام «مس بيل» نفسها، حيث أبلغها بعدم اقتناعه بتنصيب فيصل بن الحسين ملكا على العراق، لانه لم يكن عراقيا، ولا يعرف العراقيين وعاداتهم، على الرغم من كونهما من جد واحد وهو الرسول محمد، ولكنه لن يقاوم تعيينه إن أراده البريطانيون. وبالفعل تم تنصيب «فيصل» ملكا على العراق في حفل بدأت مراسيمه في الساعة السادسة صباحا في بناية القشلة في بغداد يوم الثالث والعشرين من أغسطس/آب 1921. وحضر الحفل عبدالرحمن الكيلاني وكبار المسؤولين البريطانيين في العراق.
وما أن انتهت وزارة الكيلاني عام 1921 حتى أخذ نشاط عبدالرحمن الكيلاني يزداد وضوحا مع الأيام ضد الملك فيصل، داعيا إلى إقامة نظام جمهوري، وكان أكثر مؤيديه حماسة وكفاءة السياسي العراقي توفيق الخالدي، الذي تحول إلى لولب ذلك الحراك السياسي. ولكن تطور الأمور اتخذ اتجاها خطيرا مساء يوم الجمعة الموافق الثاني والعشرين من فبراير/شباط 1922، فأثناء عودة توفيق الخالدي إلى منزله اغتيل رميا بالرصاص من قبل مجهولين، وكان لذلك تأثير كبير في المجتمع البغدادي، الذي لم يكن معتادا على مثل هذه الاغتيالات. ولم يعثر على القاتل، ولكن الإشاعات تركزت على المدعو شاكر القرةغولي المقرب من جعفر العسكري، أحد أقرب الناس إلى الملك فيصل الأول. ولم تكن تلك المرة الأخيرة التي سمع بها الناس باسم ذلك الرجل، حيث قام لاحقا عام 1936 بمرافقة جعفر العسكري عندما ذهب الأخير إلى معسكر بكر صدقي في جلولاء بالسيارة، لإفشال حركة الأخير العسكرية، وانتهت محاولة جعفر العسكري باغتياله في ظروف لم توضح تماما، ولم يصَب شاكر القرةغولي باذى في تلك الواقعة.


تمتع الملك فيصل الأول بشعبية كبيرة في أوساط المجتمع العراقي، حيث عرف بأدبه وحكمته ومحاولته لإصلاح البلاد، في ظل قيود كثيرة فرضت عليه، وساعد على ذلك الاحترام الكبير الذي كان العراقيون يكنونه للدولة آنذاك. وتوفي فيصل في الثامن من سبتمبر/أيلول 1933 في مدينة برن السويسرية، ولم يتجاوز الثامنة والأربعين من العمر، وعمت أوساط الشعب العراقي موجة من الحزن الواضح. وكانت جنازة الملك فيصل الأول في بغداد مهيبة، حيث تجمع الناس على جانبي الطريق في هدوء تام، ولكن الصمت لم يدم طويلا حيث قطعته زغرودة (هلهولة بلهجة بغداد) عالية لامرأة أثارت دهشة الناس وتلفت الحاضرون بحثا عن مصدرها، فإذا بها زوجة القتيل توفيق الخالدي وهي تحتفل بموت فيصل الأول إذ حملته مسؤولية اغتيال زوجها.

تأسس الجيش العراقي في عهد الملك فيصل الأول واعتبر يوم السادس من يناير/ كانون الثاني عام 1921 عيدا لتأسيس الجيش. وكان تأسيس الجيش العراقي عملا جماعيا، حيث تعاون البريطانيون والعراقيون في هذا العمل.

نوري السعيد وصالح جبر

كان عام 1948 حافلا بالأحداث في العراق وأهمها معاهدة بورتسموث بين العراق وبريطانيا والتي شملت تعاونا عسكريا وسياسيا وثيقا بين البلدين. وأصبحت هذه المعاهدة بالنسبة للحزب الشيوعي العراقي هدفا جديدا لمهاجمة الحكومة العراقية آنذاك، إذ عمت شوارع بغداد مظاهرات حاشدة وصاخبة، قام بها شباب الحزب. وكان أحد هتافات المتظاهرين «نوري السعيد قندرة وصالح جبر قيطانه»، اي «نوري السعيد» حذاء وصالح جبر شريط ذلك الحذاء. وكان هذا الشعار مهينا وغير لائق في المجتمع العراقي والحياة السياسية آنذاك، ولكن اللباقة لم تكن من صفات الحزب الشيوعي. وكان سبب استهداف الحزب الشيوعي لنوري السعيد كونه الرجل القوي في العراق، بينما كان صالح جبر آنذاك هو رئيس الوزراء العراقي الذي ترأس الوفد العراقي في المفاوضات مع بريطانيا، لإبرام تلك المعاهدة. وفي تلك الأيام روى الحاج محيي الدين السهروردي (والد الرياضي نجم الدين السهروردي) لجدي الحاج جميل خليل (والد اللواء الركن خليل جميل) عن زيارة له لنوري السعيد في منزله قبل أيام، فقد كانا زميلين في الكلية العسكرية في إسطنبول وصديقين حميمين لسنوات طويلة. وفي أثناء تبادلهما الحديث الودي كان حفيدا نوري السعيد، عصام وفلاح يلعبان في الغرفة نفسها. ولم يأبه لهما الحاج محيي الدين السهروردي في البداية، ولكن كان هناك خطبا ما أثار انتباهه، فقد كان الطفلان يضحكان ويرددان شيئا غريبا، ألا وهو «نوري السعيد قندرة وصالح جبر قيطانه». وتفاجأ الحاج وفشل تماما في إخفاء دهشته، ولكنه عجز عن الكلام، فماذا عساه أن يقول. ولاحظ نوري السعيد ذلك فضحك وبادر الحاج بقوله «لقد أدخل الخونة هذا الهراء في منزلي»، وضحك الاثنان بكل رحابة صدر.

احتفال العراق بتأسيس الجيش العراقي

تأسس الجيش العراقي في عهد الملك فيصل الأول واعتبر يوم السادس من يناير/ كانون الثاني عام 1921 عيدا لتأسيس الجيش. وكان تأسيس الجيش العراقي عملا جماعيا، حيث تعاون البريطانيون والعراقيون في هذا العمل. ولم يكن تأسيس الجيش بالعمل الصعب فقد كان الجيش العثماني مليئا بالضباط والجنود العراقيين، الذين أبلوا بلاء حسنا في الحرب العالمية الأولى. وكان جميع السياسيين البارزين حينذاك من هؤلاء الضباط مثل نوري السعيد وجعفر العسكري وبكر صدقي. وكان أبرزهم ياسين الهاشمي، الذي كان آمر الحامية العثمانية لمدينة حلب السورية في الحرب العالمية الأولى. وأصبح هذا التاريخ، السادس من يناير، مهما جدا في العراق، حيث عرفه الجميع، وكان الاحتفال به مهيبا من قبل جميع الحكومات العراقية وبحضور ملك العراق وكبار رجال الدولة والسلك الدبلوماسي الأجنبي. ولم يكن عام 1958 مختلفا، حيث بدأت الاستعدادات للاحتفال بعيد الجيش، وكان سيحضره الملك فيصل الثاني (1935 – 1958) وولي العهد عبد الاله (1913 ـ 1958) وأعضاء الحكومة العراقية والشخصيات السياسية والسفراء الأجانب. وأراد والدي، الذي كان مراهقا آنذاك، حضور ذلك الاحتفال، فقد كان مولعا بالجيش وبعض أشقائه ضباطا كبارا فيه. وذهب إلى مكان الاحتفال وشاهد المنصة وقد جلس الملك فيصل الثاني في المكان المخصص له. وجلس والدي خلف الملك بأربعة صفوف وهو في منتهى السعادة.
وبدا الاستعراض العسكري كما ينبغي، ولكن الأمر تغير عندما بدأ استعراض الدبابات، حيث لاحظ والدي أن كلا منها أخذت بتوجيه مدفعها نحو الملك، وكأنها تهم بتصويب قذيفة نحوه، ثم تخفض فوهة المدفع تحية له. واستغرب والدي من هذه البادرة حيث كانت مواجهة فوهات المدافع المصوبة تجاه الملك تثير شعورا مرعبا، وتوقع أن تنطلق في أي لحظة قنبلة منها لتقتل الملك وجميع الحاضرين. ولا نعلم رأي الملك فيصل الثاني حول هذا النوع من التحية، ولكن والدي أقسم ألا يحضر احتفال تأسيس الجيش مرة أخرى. وما لم يعرفه الملك فيصل الثاني والحاضرين من كبار الشخصيات ووالدي أن تنظيم الضباط الأحرار السري والمعارض للنظام كان يخطط للقيام بانقلاب أثناء ذلك الاحتفال بالذات عن طريق ضرب الدبابات للمنصة بالقنابل لقتل الجميع، وأولهم الملك فيصل الثاني، إلا أن المؤامرة لم تنفذ بسبب قرار صدر في اللحظة الأخيرة من قبل قيادة التنظيم. واضطر الفريق الركن المتقاعد محمد نجيب الربيعي أن يحضر إلى ساحة العرض للتأكد من عدم تنفيذ خطة الانقلاب لأسباب لم يفصح عنها، وتركت لتخمين المؤرخين. ويقال إن عبدالكريم قاسم كان يعارض الخطة لأنه كان ينوي القيام بانقلابه الخاص به، وهذا ما تم له يوم الرابع عشر من يوليو/تموز من السنة نفسها. ولكن السؤال الأهم هو لماذا قررت قيادة التنظيم إلغاء العملية برمتها. والجواب الأرجح أن ضرب المنصة بالقنابل كان سيودي بحياة السفراء والدبلوماسيين الأجانب الجالسين حول الملك فيصل الثاني، فحياة هؤلاء كانت أهم من حياة العراقيين بكثير بالنسبة للضباط الأحرار.

٭ باحث ومؤرخ من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري عتيق:

    لحظات تاريخية هامة لفهم ما جرى في العراق بعد سايكس بيكو

إشترك في قائمتنا البريدية