مشروعيات معارضة

حجم الخط
0

إذا عارضت المعارضة فأنت مع السلطة، وإذا عارضت السلطة فأنت مع المعارضة. إنها أبدع طرق القمع، فبهذا الشكل يمكن للجميع أن يمرر جميع أنواع الخطاب، من دون أدنى إمكانية للنقد والفحص، فالموضوع الذي لا يجد إجابته في أي مكان يتحول في خطابنا الإعلامي الثقافي والسياسي إلى يقينيات.. بكل بساطة نوع من القطبية الاستبدادية التي تبسط أي شيء وتلخصه بعبارة: أنا أقول، إذن، أنا على حق. هذا الكوجيتو الذي يمارس في الجزائر وأخواتها بكم كبير من الخداع، حتى على مستوى الذات، لا يأبه للحقيقة، بقدر ما يسعى للهيمنة عبر شبكة من التأويلات، قائمة على الإكراه، والاحتقار لذلك المواطن البسيط، الذي يسمى بـ(العامي أو رجل الشارع) حين لا يقبل بالدهن الديالكتيكي الذي يقدمونه. أجل فهو في جميع الأحوال، لا يمتلك الثقافة الكافية ليتحسس العرفان الذي لامسته عقولهم بعد رياضة مرهقة. إن ذلك العامي الأمي مهدد من طرف الجميع بالويل، إن لم يقبل ويرضخ لخطابهم.
المعارض على حق لأنه معارض فهو يكتسب مشروعية تدعم مقولاته بالصراخ المرتفع والكثير من السفسطة. ليس لأنه خطاب فاقد للمنطق أو مجاف كليا للحقيقة، ولكن لأن الخطاب الذي يدعي امتلاك الحقيقة يطعن في نفسه بالضرورة .ترفض المعارضة خطاب السلطة، وتؤكد أنه يزيف الحقائق ثم تقدم خطابا آخر يجب أن يقبل، من دون مناقشة، لأن أي رد فعل تجاه المعارض، يجعل صاحبه يفقد أهلية التفكير، بمعنى أنها تتحول إلى سلطة هي نفسها، بل تستعمل إكراهات أشد من التي عند السلطة لأنها ترتدي ثياب الضحية، فالسلطة تحتكر العنف، وهذا صحيح، لكنهما يتشاركان في استعمال القوة لبلوغ الهدف، تستغل المعارضة الحساسية الأنثربولوجية للفرد تجاه الدولة، ذلك الوحش الذي يريد أن يبتلع ويشوه كل شيء.. ومن هذه الثغرة يمكن اقتحام الوعي الجماعي من دون أن تسمح له بالتدقيق في وجهها أو في ما تقول، لأنها هي أيضا تريد ألا ينظر المواطن في عينيها، فهي المسيح الذبيح فكيف يشكك في ما تقول؟ وإذا تجرأ على ذلك فسوف يرى عيونا تقذف شررا، مثل عيون السلطة التي تلعنها تماما.
كيف يمكن تأسيس علاقات سليمة في بيئة متخلفة؟ لقد أثبت الربيع العربي أن الجزائر ليست بلدا من المتوحشين المتعطشين للدماء، كما تم تصويرهم بسوء نية وبغباء شديد من طرف أكثر من جهة.. لقد كانت الموضوعية ولاتزال تقتضي التركيز على الآليات التي تقف وراء نتائج معينة. يمكن هنا أن نستعمل الصندوق الاسود لتحليل وفهم ما حدث ويحدث في العالم العربي، مع التخلص من الشوفينية التي لا تفيد أبدا على المستوى التحليلي، خاصة في ما يتعلق بالنخب والمثقفين، أي بخلاف الطبيعة الجيوسياسية وبعض الخصوصيات الثقافية لكل بلد عربي، فإن الحالة الفكرية لم تتقدم كثيرا وتعاني معضلات أخلاقية حادة. ولا توجد دولة عربية واحدة صنعت الاستثناء حتى الآن، فالفساد الذي تعاني منه النخب يكاد يكون نسخة طبق الأصل. وبدلا من مواجهة الحقيقة يتم تحميل الامبريالية والغرب كل المصائب.. انه من الغباء أن نعدم هذا الطرح – بالطبع- ولذا يجب استعمال كلمة بعض، فهناك دول غربية لا تتوانى عن أقذر الوسائل لتحقيق أهدافها. لكن حتى هذا يمكن أن يكون مستحيلا لو أن النخب المتعطشة للاستبداد في السلطة، كما في المعارضة، قلصت حجم أو مساحة يقينياتها وأنانيتها وعجرفتها.
المعارضة في كل الدول العربية تعارض هذه الاتهامات بالجملة، ولا فرق بين يساري محنط أو ليبرالي فوضوي أو إسلامي حالم… والسبب أن الأنظمة العربية الساقطة والقائمة لم تفسح المجال الكافي من الحريات حتى يتمكن المواطن العادي من رؤية العري الذي عليه بعض السياسيين والمثقفين، ويتمكنوا هم أيضا من رؤية عريهم. وأصبح المعارض يرى نفسه الفحل الوحيد والملائم لتلقيح الدولة، ومشكلته أن عضلات النخب المتسلطة لا تزال متفوقة ومحتكرة لهذا الامتياز.
اليوم وبعد فصل الربيع وصل بعض الاسلاميين إلى السلطة، لكن منطق المعارضة لم يتغير.. اليساريون والليبراليون وباقي الخلطات غاضبة لأن دور التلقيح لم يأت عليهم. أما المبررات التي يسوقونها فهي لا تحصى، كالاحتجاج على عدم تحقيق العدالة الاجتماعية مثلا.. هذه إحدى اليافطات المرفوعة في وجه الإسلاميين. تقرأها وتتساءل عن ماهية العدالة الاجتماعية؟ وهل وضع مادة دستورية ما، ستحول الفقر إلى ثروة، يمكن توزيعها على المواطنين البؤساء. يمكن الحديث عن العدالة في دول ثرية، بايجاد صيغ معينة لتوزيع الريع، لكن تحقيق العدالة الاجتماعية في دول فقيرة وفي ظرف قياسي ليس سوى نوع من الدجل أو المطلبية الرخيصة الذي تتقنه معارضة اليسار بشكل رهيب. والمضحك أنه حتى كارل ماركس ندد بهذا الأسلوب وحذر منه في كتاباته، ولكن صعوبة تسويق الأفكار الاشتراكية يدفع بالبعض إلى الغش واستغلال الحالة الاقتصادية المتردية للأفراد من أجل الاقتراب أكثر من الدور. نتمنى بالفعل، لو أن المعارضة في دول الربيع وغيرها، صادقة وقادرة على تحقيق ما تقول. لكن المنطق يفرض علينا القول بان من لا يحسن المعارضة لن يحسن السلطة، لأن القواعد الأخلاقية يجب ألا تسمح بالمكيافيلية. ففي الحالة المصرية تعرض أول رئيس منتخب بشكل شفاف ونزيه، لطوفان من النقد، استنفرت فيه أطياف المعارضة كل جهودها لتفقده كل مصداقية، عند ابن البلد، وعند الخواجة.
وهناك من انتقده حتى في طريقة لباسه… وبعد الإطاحة به، وتولي قيادة القوات المسلحة زمام السلطة، توقف النقد فجاة وبصورة كلية، أي أن المعارضة بهذا الشكل ليست معارضة وإنما مشروع سلطة، وهناك فرق. لأن النظام الديمقراطي يتأسس بتحقيق التوازن بين السلطة والمعارضة أي أن وظيفة المعارضة مهمة بقدر أهمية السلطة، لكن الهوس الأيديولوجي عند البعض وشهوة السلطة عند بعض الأفراد المعارضين، بين قوسين، لا ترى في المعارضة، شيئا ذا قيمة، أو تعتبره مكسبا، لدول تسعى لتحقيق نظام ديمقراطي، فالمعارضة تتصرف وكأنها هي السلطة وتراهن على الخراب والحرب الأهلية والفوضى إن لم تحصل على السلطة أو تحقق أجندتها، وتخترع أساليب تصل حد السخافة والدناءة لتحقيق أغراضها، ولعل أبرزها أن الاسلاميين خطر وهي حجة أصبحت سقيمة نوعا ما، لأن الحقيقة هي أن الاشتراكيين خطر وكذلك الليبراليين والعروبيين.الخ الخ. ويكفي حالة الركود التي تصنعها هذه المعارضة للتأكيد على خطورتها وضحالة فكرها. لقد كان الحد الأدنى المطلوب من هذا الربيع هو التأسيس للتداول عبر الصناديق، أي الحفاظ على الشيء الوحيد الحقيقي الذي يمتلكه المواطن في إطار أي نظام ديمقراطي. لكن سقف حريفي السياسة والإعلام، وصل إلى حد تجاوز معه سقف مطالب مواطني أعرق الديمقراطيات، لقد فضح النموذج التونسي، مثلا، كذبة أن الإسلاميين هم المشكلة، والتي استغلت في مصر وفي غيرها لتبرير الفوضى وما بعدها، ويبقى السؤال هو كيف يمكن للمواطن العادي في الدول العربية أن يكشف زيف أو مدعية ويحافظ في نفس الوقت على حرياته المكتسبة من أن تبتلعها أي سلطة.

‘ كاتب جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية