«مشروع 2025» واليمين الأمريكي: ارتداد أم انكشاف؟

حجم الخط
0

للمرء أن يضع جانباً، حتى إشعار آخر غير بعيد بالطبع، سلسلة تطورات على الساحة الداخلية الأمريكية؛ اقترنت بعدول الرئيس جو بايدن عن الترشيح لولاية ثانية، وصعود بطاقة كامالا هاريس ــ تيم والز في مواجهة دونالد ترامب ــ ج. د. فانس في الانتخابات الرئاسية المقبلة، تشرين الثاني (نوفمبر) هذا العام. ثمة ما يشبه «الفورة» في أقدار الحزب الديمقراطي عموماً، وشخص هاريس خصوصاً؛ الأمر الذي قد يستوجب وقفات متأنية متعاقبة، ذات صلة بما يمكن أن يقترن بتجارب الماضي الأمريكي القريب أو البعيد، بصدد هذا الانقلاب أو ذاك في مسار انتخابات رئاسية ليست عادية أو مألوفة.
وفي مقابل هذا الخيار التحليلي، قد يكون مطلوباً التوقف عند ما بات يُعرف باسم «مشروع 2025» السياسي والاقتصادي ــ الاجتماعي والإيديولوجي الذي تتبارى على اعتناقه دوائر الحزب الجمهوري، وقطاعات أخرى متعددة التوجّه والاختصاص والوظيفة، على رأسها ثنائي ترامب ــ فانس. وهذه وقفة تحضّ عليها ضرورات جلية، مثل توقيت إصدار الوثيقة في هذه السنة الانتخابية، وسياقاتها الأمريكية الداخلية، والأخرى الخارجية والعالمية المرتبطة بالمآلات الراهنة لعقائد اليمين المحافظ؛ سواء في قلب الحزب الجمهوري، أو على هوامشه داخل الاجتماع الأمريكي، أو في صفوف التيارات القومية/ المسيحية رافعة راية العنصرية والتفوّق الأبيض، أو على نطاق التيارات الراهنة لليمين المحافظ إياه في أوروبا والمنظومة الرأسمالية إجمالاً.
وزائر موقع «مشروع 2025» على شبكة الإنترنت يقرأ أنّ الوثيقة (التي تقع في 887 صفحة!) استجمعتها أكثر من 100 «منظمة محترمة على امتداد الحركة المحافظة» وتستهدف «تقويض الدولة العميقة وإعادة الحكومة إلى الشعب» وهي نتاج عمل «أكثر من 400 باحث وخبير سياسة من مختلف أرجاء البلاد». وبين أبرز أهدافها: 1) تأمين الحدود، وإتمام بناء الجدار، وترحيل «الغرباء» غير الشرعيين؛ و2) تجريد الحكومة الفدرالية من السلاح، عن طريق زيادة المحاسبة وتدعيم مراقبة مكتب التحقيقات الفدرالي؛ و3) إطلاق إنتاج الطاقة الأمريكية لتخفيض أسعار الطاقة؛ و4) تقليص نموّ الإنفاق الحكومي بما يخفّض التضخم؛ و5) جعل البيروقراطيات الفدرالية أكثر خضوعاً لمحاسبة الرئيس المنتخب والكونغرس؛ و6) تحسين التعليم عن طريق نقل التخويل والتمويل من مكاتب العاصمة البيروقراطية إلى الأولياء والحكومات المحلية في الولاية؛ و7) حظر الذكور البيولوجيين من المنافسة مع النساء في الرياضات.
وقد يخال امرِؤ أنّ هذا البند السابع غريب وعجيب وخارج عن منطق البنود الستة السابقة له، لكن الانطباع هذا سرعان ما يتلاشى عند متابعة الفصول والأقسام اللاحقة في الوثيقة؛ التي تشمل جميع الوزارات الحكومية والمؤسسات الفدرالية، على امتداد خمسة أقسام، أوّلها قسم استهلالي عنوانه يسير هكذا: «إمساك أعنّة الحكومة»… ليس أقلّ! ولأنّ «مؤسسة التراث» الأمريكية شريك في إنتاج الوثيقة ورعايتها واستكتاب مؤلفيها، ثمّ لأنها هيئة تامّة الانضواء في حملة ترامب ـ فانس خصوصاً راهناً واليمين الأمريكي المحافظ عموماً ودائماً؛ فإنّ تسعة أعشار الفقرات الخاصة بـ«تجديد الروح الأمريكية» ترتبط مباشرة، وهي مشروطة أصلاً، بفوز ترامب ونائبه. ولا عجب أنّ كيفن روبرتس، رئيس المؤسسة، يطلق على الوثيقة صفة «الثورة الأمريكية الثانية» مؤكداً في الآن ذاته أنها سوف تكون خالية من إراقة الدماء؛ هذا، كما يتابع، «إذا سمح لها اليسار بذلك». في عبارة أخرى، إمّا أن يقبل «اليسار» ولا أحد يجزم بالمعنى الدقيق للمفردة، وهوية الأفراد الذين تنطبق عليهم الصفة؛ وإمّا أن يضطر (اليمين، مثلاً؟) إلى… سفك الدماء.

مع اشتداد حملة الانتخابات الرئاسية خلال الشهور المقبلة، سوف تُتاح أكثر من فرصة واحدة للتوقف عند «مشروع 2025»؛ ولكن لأنّ أمريكا قوّة عظمى مهيمنة، فإنّ مصائر العالم خارج المحيط مرتبطة أيضاً بما تنظّر له الوثيقة

ومع اشتداد حملة الانتخابات الرئاسية خلال الشهور المقبلة، سوف تُتاح أكثر من فرصة واحدة للتوقف عند «مشروع 2025»؛ ولكن لأنّ أمريكا قوّة عظمى مهيمنة، وقطب إمبريالي سياسي واقتصادي وعسكري، فإنّ مصائر العالم خارج المحيط مرتبطة أيضاً بما تنظّر له الوثيقة دولياً وكونياً، ولهذا فإنّ فرضية أهل أمريكا أدرى بما يصعد بين ظهرانيهم من يمين محافظ متشدد وعنصري وشعبوي، لا تصحّ هنا في صياغتها المجتزأة. فإذا تُرك للأمريكيين أمر الحكم على الوثيقة ومنحها التأييد أو حجبه عنها، فمن الخير لأبناء الشعوب خارج الولايات المتحدة التمعّن في ما ترسمه لهم أدمغة السادة الـ400 من عتاة باحثي «مشروع 2025»؛ ولعلّنا، نحن أبناء الشرق الأوسط تحديداً، الأجدر بالتحديق جيداً في السطور، وما بينها وخلفها أيضاً.
فالوثيقة، في القسم الخاصّ بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، توصي الإدارة المقبلة بعدم التخلي عن المنطقة، لأنه «من دون القيادة الأمريكية، فإنّ المنطقة قد تنغمس أكثر في الفوضى أو تسقط ضحية أعداء أمريكا. وهذا يستوجب استراتيجية متعددة الأبعاد». البُعد الأوّل هو، بالطبع، توفير المساعدة الأمنية للشركاء في المنطقة، وعلى رأسهم دولة الاحتلال الإسرائيلي التي يتوجب أن تمتلك الوسائل العسكرية والسياسية للدفاع عن نفسها ضدّ أدوات إقليمية مثل «حماس» و«حزب الله» و«الجهاد الإسلامي». ثمّ منع إيران من حيازة التكنولوجيا النووية، عن طريق إحياء/ فرض المزيد من العقوبات، ومساندة الشعب الإيراني في ثورته ضدّ «حكم الملالي» وكذلك البناء على «نجاحات» إدارة ترامب الدبلوماسية في تشجيع دول عربية أخرى، بما في ذلك السعودية، على الدخول في اتفاقيات أبراهام. وفي هذا الإطار، ثمة ضرورة لوقف تمويل السلطة الوطنية الفلسطينية، وإجبار تركيا على البقاء في المدار الغربي والحلف الأطلسي، والحيلولة دون تمتين علاقاتها مع روسيا والصين، وممارسة ضغط دائم عليها عن طريق تفعيل الصلات مع القوى الكردية عموماً، و«حزب العمال الكردستاني» خصوصاً.
وفي بُعد ثالث، تحثّ الوثيقة على إقامة «حلف أمني» في الشرق الأوسط، يضمّ دولة الاحتلال ومصر وبعض الدول الخليجية، ويمكن أن تلتحق به الهند لتكوين «ترتيب فاصل»؛ أهدافه حماية حرّية الملاحة في الخليج والبحر الأحمر/ قناة السويس، وتمتين التعاون الأمني بين شمال أفريقيا وأوروبا، خاصة فرنسا، بما يكفل «الحدّ من الأخطار الإسلامية» وتوغّل روسيا من خلال نشر «مجموعة فاغنر». وأمّا «الملحق» في هذه وسواها من أبعاد استراتيجية، فإنه (على استحياء، بالطبع) واجب الولايات المتحدة في «عدم إهمال القلق إزاء حقوق الإنسان وحقوق الأقليات، وخاصة المسيحية»؛ الأمر الذي يتوجب أن «يتوازن مع الاعتبارات الاستراتيجية والأمنية» وليس قبلها أو بعدها أو بمعزل عنها.
وضمن اعتبارات أخرى عديدة، سوف تفرض إشكالياتها تباعاً على المشهد الأمريكي الداخلي وتداعياته الخارجية، لا جديد حقاً في مشروع يعيد إنتاج مشاريع أخرى سبق للحزب الجمهوري أن تفاخر بطرحها على الملأ وتحميلها صفة إنقاذية جامعة مانعة (مبادرة نوت غنغرش الشهيرة، مثلاً)؛ من جهة أولى. وهي استطراداً، ومن جهة ثانية، لا تشكل مراجعة بأيّ معنى جذري، لماضٍ إيديولوجي طفحت خلاله قفزات الحزب الجمهوري نحو مجهول لا يتوخى سوى المنافسة واللهاث خلف حملة انتخابية هنا أو منعطف سياسي أو عقائدي أو اقتصادي ــ اجتماعي حاسم هناك. وهي، ثالثاً، أقرب إلى ارتداد منتظَر بافلوفيّ الحوافز، منها إلى انكشاف لأيّ باطن كان خافياً أو حتى بارع التمويه.
ويبقى اعتبار رابع لا يخصّ الحزب الجمهوري هذه المرّة، بل خصمه الحزب الديمقراطي؛ الذي ظلّ يقارع كوابيس شيخوخة بايدن حتى آخر استطلاع للرأي سلبيّ الخلاصات حول احتمالات فوز الرئيس بولاية ثانية؛ فلا هو خرج بمشروع مضادّ سجالي، ولا هو أوقف زحف بلدوزرات ترامب الشعبوية واليمينية المحافظة. هنا، أيضاً، لم تكن الردّة مساراً، ولا كان الانكشاف!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية