باتت «النسوية» في أيامنا لفظاً منشراً في الثقافة الشعبية، وخرجت عن كونها من مصطلحات النخب، رغم صعوبة تحديد المقصود بهذا اللفظ، أو التيار النسوي الذي يشير إليه، فحتى حديث البعض عن «موجة نسوية رابعة» انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمؤسسات الإعلامية، بفضل ناشطات وناشطين، مرتبطين غالباً بمنظمات غير حكومية، ذات توجه ليبرالي- يساري، لا يساعد كثيراً في تعيين أيديولوجيات محددة لـ«نسوية» صارت في قلب الجدل السياسي حول العالم.
رغم هذا يمكن تتبع طروحات سائدة ومنتشرة بشدة، تقرّب المقصود بـ«النسوية» من طروحات مكافحة التمييز المعاصرة، التي تنتقد مجتمعاً ذكورياً، يقوم على «تمييز على أساس الجنس» و«ثقافة اغتصاب» لا بد من تتبعهما ومكافحتهما في الخطاب العام والثقافة السائدة. مع السعي لـ«تمكين» النساء مؤسساتياً، لتخليصهن من «التهميش». مصطلحات مثل «تمييز هيكلي» تتعرض له النساء، تطرح أسئلة عن الهياكل أو البنى المقصودة، التي تُقصي وتهمّش. ولمصلحة مَن تفعل هذا.
ثمة إجابتان ممكنتان: إما أن المقصود هو «المنظومة» بأكملها، وهو لفظ يدلّ عادة على الرأسمالية. وهكذا تغدو «النسوية» مسألة طبقية، تلعب فيها النساء المضطهدات دوراً أساسياً في مواجهة نظام يقوم على استغلال العمل الإنساني، ويشاركن الرجال بذلك، وعندها يجب توضيح كيف تؤسس الرأسمالية المعاصرة «مجتمعاً ذكورياً» وما سماته الأساسية؛ وإما أن الذكور، بمختلف طبقاتهم ومواقعهم الاجتماعية، لا يريدون التخلّي عن امتيازاتهم، وعندها يجب التفكير جدياً بالروح الذكورية السلطوية، وكيف يجب تطهيرها أو إعادة تأهيلها، لتدرك كم هي ظالمة وعنيفة.
كلا الإجابتين تثيران كثيراً من الإشكاليات، فإذا كانت «المنظومة» المعاصرة حريصة على استدامة «المجتمع الذكوري» كما كان سائداً في نموذجي دولة الرفاه ودولة التحرر الوطني في القرن الماضي، فما البنى الاجتماعية التي تتأسس عليها الذكورية، في عصر انهارت فيه العائلة التقليدية، البورجوازية والعمالية؟ وإذا كانت المشكلة في روح ذكورية سلطوية فهل إعادة تربية الذكور وحدها كافية لخلاص النساء؟
تتزايد المشكلة تعقيداً لدى النظر في الحلول المطروحة، هل مكافحة «التمييز على أساس الجنس» و«تمكين النساء» وهي وصفة تُطرح عالمياً عبر المنظمات غير الحكومية، قابلة للتطبيق على المؤسسات والثقافة السائدة في كل المجتمعات، على اختلاف ظروفها؟ هل يمكن إيجاد مشتركات في ظروف النساء، سواء كن فلاحات، لاجئات حروب، مهاجرات مكسيكيات غير نظاميات في الولايات المتحدة، ممثلات في هوليوود، أو مديرات «منظمات مدنية» يشتكين من «فجوة الأجور»؟ ربما كان الأجدى العودة للتساؤل عن «المجتمع الذكوري» الذي من المفترض أنه يتسبب بمعاناة كل هؤلاء النساء، ما أسسه؟ ومصالح مَن يلبي؟
مشكلة دخل الأسرة
تفترض التعريفات الأكثر بساطة لمجتمع ذكوري وجود بنى اجتماعية، سواء حديثة أو تقليدية، يلعب فيها «آباء» معينون دوراً أساسياً، يعطيهم قوة، يمكنهم استغلالها لفرض نمط معيّن تاريخياً من الإخضاع والهيمنة، مع التركيز على أن الهيمنة لا تعني العنف أو التعنيف، بل القدرة على إنتاج منظومة أيديولوجية وأخلاقية متكاملة، تصبح نمطاً من «الحس السليم» عن الأدوار الجندرية، وما هو منتظر من الأفراد في التراتبيات الاجتماعية القائمة.
كانت العائلة التقليدية والعشيرة، بما تفترضه من علاقات مصاهرة وقربى، و«تبادل نساء» تنشئ نمطاً معيناً من التحالفات وتوزيع الثروة وانتقالها، وهو المرتكز الأساسي للمجتمع الذكوري. وفي العصر الحديث، الذي شهد تقدم العائلة النووية أو الأحادية (أب وأم وأولادهما) على حساب العائلة الممتدة (مجموعات قرابة متداخلة ومختلطة، ذات أطراف متعددة) صارت العائلة البورجوازية، ومن ثم العمالية، نموذجاً أساسياً لأبوية المجتمع والدولة: الأب، صاحب الملكية أو العامل بأجر، قادر على الإنفاق على عائلة، تقبع فيها النساء في المنزل عادةً، ويقمن بعمل منزلي غير مأجور، لتأمين رعاية جيل جديد من العمال، أو من وارثي ملكية الأب. نمط الهيمنة هنا قائم على معادلة واضحة، بغض النظر عن عدالتها: دور الأب مرتبط بقدرته على الإنفاق، ورعاية شؤون الأسرة. النساء يحظين بمكانة دونية، ويقمن بعمل غير مقدّر مادياً، بل حتى معنوياً، ولكنهن محميات بشكل من الأشكال، سواء من التعرّض لاستغلال سوق العمل، أو من مضايقات بقية الذكور.
يستغلّ الذكور في العالم العربي المنظومة القانونية القائمة، لتعويض انهيار مجتمعهم التقليدي، رغم عجزهم عن أن يكونوا «آباء» بالمعنى القديم. هذه الحالة المختلّة تستحق المواجهة.
خرجت النساء بكثافة إلى سوق العمل بعد الحرب العالمية الثانية، وهذا مرتبط طبعاً بتقدم الوعي بحقوق النساء، فضلاً عن تجارب رائدة في هذا المجال، خاصة في الدول الاشتراكية مثل الاتحاد السوفييتي وألمانيا الديمقراطية، ولكنه مرتبط كذلك بظاهرة تحدّث عنها كثير من علماء الاقتصاد والاجتماع، وهي «تقسيم دخل الأسرة» أي أنه مع انخفاض الأجور الفعلية للعمال منذ نهاية الخمسينيات، صارت قيمة الدخل نفسه، الذي كان يوفّره الأب، مقسّمة على عمل فردين في العائلة: الأم والأب. ومع انخفاض أهمية وظيفة «إعادة الإنتاج» في الدول الغربية، التي كانت تؤديها النساء بعملهن غير المأجور، لم يعد من الضروري بقاء النساء في البيت لإعداد جيل جديد من العمال. فالعمال موجودون بكثافة، وبأجور أرخص بما لا يقاس، في آسيا وأمريكا الجنوبية.
وهكذا ارتبط نزع التصنيع في الدول الغربية بتقدم خطابي في حقوق النساء، اللواتي لم يعد من الواجب حجزهن في المنازل، بل يُشجّعن على اتباع طموحهن الفردي، في مجتمع قُدم بوصفه مليئاً بالفرص.
وإذا كانت العائلة البورجوازية والعمالية لم تعد ضرورية في الغرب، ودخل الأسرة قُسّم بالفعل حول العالم، حيث يعمل الآباء والأمهات عملاً رخيصاً في المصانع التي نُقلت للعالم الثالث، فربما تكون الثقافوية، مدخلاً مناسباً لمواجهة الذكورية: البنية المادية زالت، ولكن رواسبها الثقافية مستمرة، ولا بد من مواجهتها.
كيف تُضطهد النساء؟
إلا أن الرواسب الثقافية لا تفسّر وحدها اضطهاد النساء في المنظومة الحالية. تُستغل ملايين النساء المهاجرات واللاجئات حول العالم.. وفي الورشات الآسيوية والمزارع الافريقية والأمريكية الجنوبية، فضلاً عن الأمهات اللواتي يعملن لإنشاء جيل جديد من العمالة الرخيصة حول العالم، ويضطررن في الوقت نفسه للعمل خارج المنزل، لتأمين قوت أبنائهن وبناتهن. معاناة هؤلاء النساء مختلفة عن معاناة فنانات هوليوود، وموظفات المنظمات غير الحكومية. ولا يمكن اعتبار مماثلة المعاناة والاستغلال بين الطرفين، باسم «النسوية» إلا خداعاً أيديولوجياً.
الأهم أن النساء المستغلات لا يعانين من منظومة «ذكورية» تهتم بإعطاء مكانة خاصة لذاتيات الذكور، بل من نظام عالمي «تقدمي» للغاية، يشجّع على إعلان الهويات الفردية والجندرية وتمكينها، ومواجهة التمييز ضدها، وهو نظام لا يمكن تعيين هوية صلبة قائدة فيه، فهو يستغل العمال البيض الذكور، كما يمكّن لمستثمرين «ملونين» بامتلاك ما يشاؤون حول العالم، ويحميهم من كل تمييز وعنصرية.
ضمن هذا الشرط فإن رواسب الأبوية الثقافية قد تضغط على الذكور بقدر ما تضغط على الإناث. لم يعد ذكور الطبقات العاملة، على اختلاف ألوانهم وهوياتهم، قادرين على أن يكونوا «رجالاً» ينفقون على نسائهم ويحمونهن، ويضطهدونهن في الوقت نفسه. وربما هذا أحد أهم أسباب العنف الذكوري في زمننا: ذكور وإناث غير قادرين على تأمين أساسيات الحياة. يعيشون في مجتمع فقد آباءه ومنظوماته الأخلاقية والاجتماعية المترسّخة. يحكمه نظام «تقدمي» يستغل الجميع. يمكن تخيل عوامل النقمة والتظلّم، التي تحرّك الأفراد في نظام كهذا، وربما كان المجتمع الأبوي، على مظالمه، أكثر وضوحاً وأماناً، من مجتمع «تقدمي» يُفقر ذكوره وإناثه، ويتركهم أفراداً معزولين، في مواجهة ظروف لا تطاق.
إمكانات النسوية العربية
وإذا كانت وصفات المنظمات غير الحكومية، عن «التمكين» ومواجهة «الرواسب الثقافية» غير قادرة على التصدي لاضطهاد النساء، على اختلاف أوضاعهن الطبقية وسياقاتهن الاجتماعية، فإن النضال النسوي في العالم العربي يواجه ما هو أهم من رواسب ثقافية سائلة، والمقصود منظومة قانونية، صُممت أساساً لمجتمع أبوي تقليدي، تمنح الذكور امتيازات قانونية في كل المجالات، بما يخالف أساسيات المساواة الشكلية أمام القانون، التي لا يمكن تصوّر الحداثة بدونها.
يستغلّ الذكور في العالم العربي المنظومة القانونية القائمة، لتعويض انهيار مجتمعهم التقليدي، رغم عجزهم عن أن يكونوا «آباء» بالمعنى القديم. هذه الحالة المختلّة تستحق المواجهة. وربما تعطي للنسوية في العالم العربي معنى تقدمياً: لا بد من مواجهة عدم المساواة القانونية بكل الطرق الممكنة، ما دامت النساء العربيات يتعرضن للاستغلال تماماً كالرجال، ولا ينلن في الوقت نفسه حقوقاً قانونية متساوية ولو شكلياً. فيما تشكّل الرواسب الثقافية الذكورية جانباً من أيديولوجيا السلطات الحاكمة، التي تحتفي بفحولة الزعماء، وجمال التقاليد، وأهمية الحفاظ على «ثقافة المجتمع» و«قيم الأسرة».
يتطلّب هذا وعياً باختلاف القضية النسوية في العالم العربي عن أيديولوجيا المنظمات غير الحكومية العابرة للجنسيات، وعندها يصبح أي نضال ديمقراطي عربي نسوياً بالضرورة.
كاتب سوري