أثارت مواقف بعض المهتمين بالشأن العام من أصل سوري، سواء كانوا من حملة جواز السفر أو اللاجئين أو المجنّسين في دول أخرى، جدلاً عاماً في العالم العربي. إذ يبدو أن أقوالهم المتعلقة بحرب غزة، والقضية الفلسطينية عموماً، كانت دون المنتظر، لدرجة أن عدة مقالات كُتبت عن الموضوع، بقلم كتّاب سوريين ولبنانيين وفلسطينيين، ترى أن هنالك مشكلة في وعي «السوريين»، أو بعضهم على الأقل، تجاه القضايا العادلة، نتيجة تأثّرهم بـ»مظلومية» تمنعهم من رؤية المسائل الأهم المحيطة بهم، بل تدفعهم إلى مقارنة «مظلوميتهم» بـ»مظلومية» غيرهم.
أياً كان معنى هذا الكلام فهو صعب الفهم، إذ لا توجد أي وسيلة لتحديد رأي عام للسوريين، سواء في بلدهم، المقسّم بين نظام ما يزال حاكماً، وما يزال يعلن موقفاً مؤيداً لـ»القضية»، وعدة ميليشيات إسلامية معارضة، تبدي موقفاً عقائدياً قوياً ضد إسرائيل؛ أو في الخارج، حيث تتوزّع مجموعات اللاجئين الأكبر بين تركيا ولبنان وألمانيا والسويد ومصر، ولا توجد جهة تستطيع ادعاء تمثيلها. في حين أن الفاعلين الأفراد في الشأن العام متوزّعون، مثل نظرائهم العرب، بين التيارات السياسية المعروفة في المنطقة، ومواقفهم شديدة التنوّع. أما الأفكار النقدية أو المتشككة تجاه المقاومة والقضية الفلسطينية، فهي ليست حكراً على «السوريين»، بل يمكن رصد مواقف مماثلة في كل الدول العربية.
قد يكون سبب هذا الجدل عاملان أساسيان: الأول موقف الأجسام السياسية المحسوبة على المعارضة السورية، التي يبدو أنها لم تشارك بنشاط في الأعمال التضامنية (ولكن أين تنشط «المعارضة السورية» أصلاً؟)؛ والثاني، وهو الأهم، يظهر وكأنه انشغال كبير بموقف «السوريين»، لأنهم، تقليدياً، يجب أن يكونوا الشعب الأكثر تمسّكاً بالقومية العربية والقضية الفلسطينية في الخطاب المعلن؛ ومن ناحية أخرى، فقد تعرّض كثير منهم لأعمال قتل واضطهاد وتهجير على أيدي ميليشيات، تخوض الآن معارك ضد إسرائيل، وعلى رأسها حزب الله، فيما لا تخفي ميليشيات أخرى متداخلة في الحرب، وعلى رأسها جماعة الحوثي في اليمن، تأييدها لإيران والنظام السوري، وهذا يعني أن المسألة السورية قد تُستخدم من جانب أنصار إسرائيل في العالم، لتبرير الحرب الإسرائيلية ضد ميليشيات تُحسب على المحور الإيراني؛ بل قد تقلّل من عدالة القضية الفلسطينية نفسها.
على «السوريين» إذن، الذين ما زلنا لا نعلم ما المقصود بهم بالضبط، اتخاذ موقف مركّب وحسّاس: يقطعون الطريق على استغلال حالتهم، ويؤيّدون المقاومة الحالية، وفي الوقت نفسه، يربطون القضية الفلسطينية بمسألة التغيير الديمقراطي في سوريا. ولكن هل هذا ممكن؟ أو حتى منطقي؟ ثم هل يمكن أن يصبح السوريون جماعة سياسية، أو شعباً من جديد، إذا فعلوا هذا؟
سوريون وغزّاويون
بغض النظر عن الإمكانية والمنطقية، فالنوع المطلوب من المواقف المركّبة يتطلّب جهات سياسية شديدة الخبرة والفعالية، وهو أمر مفتقد في الحالة السورية، ولذلك يبدو الموضوع عبئاً صعباً على عاتق أفراد «سوريين»، عليهم الآن أن يثبتوا أنهم يمتلكون «الوعي» الذي يرضي غيرهم؛ وأنهم لم يتغيّروا أو يتبدّلوا في تأييدهم للقضايا العربية العادلة؛ وأن لا يعبرّوا عن انزعاج أو احتجاج في حال رأوا أعلام ميليشيات، ساهمت بقمعهم، بين المتضامنين مع المقاومة. ربما كان هذا عشماً مبالغاً فيه بعض الشيء.
قد يجعل هذا من «السوريين» مشكلة إلى حد ما، فإذا تكلّموا قد يكون قول بعضهم مزعجاً أو غير معياري، من منظور «القضايا العادلة»، ولا توجد جهة «تضبطهم»، فالذين نزحوا أو هاجروا منهم لم يعودوا، تحت هيمنة سلطات واضحة، تحدد لهم القول اللائق في مثل هذه القضايا، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو حتى دينية؛ فيما تجاوز كثير منهم الأطر الضعيفة أصلاً للقوى التي تدّعي حمل راية «ثورة سورية»، وتمازجوا بمجتمعات وبيئات وأفكار جديدة، ليخلقوا تركيبات اجتماعية وثقافية معقدة. هم أيضاً يتكلّمون العربية، بل ربما من أفضل متكلّميها، وتحت الضغط المذكور حول التصريح بموقفهم من «القضية»، قد تبرز آراء وأصوات غير مألوفة في الإطار الثقافي العربي الاعتيادي.
يبدو هذا شبيهاً بالموقف من مجموعة بشرية أخرى، تُنادى أيضاً بنعت عام، هي «الغزّاويون» أنفسهم، فكلامهم وتعبيرهم عن أنفسهم، باتا أيضاً سبباً لبعض البلبلة، إلا أنه لم تُتح لأغلبهم الفرصة للخروج من الحصار، ولذلك يبقى تعبيرهم محدوداً بعض الشيء، يتداوله الآخرون كالعملة النادرة، ليثبتوا وجهة نظر معينة، بخصوص المقاومة وحرب غزة عموماً.
ما نحن أمامه إذن هو «انفلات» لقول البشر، في حالات معينة، هي أساساً الخراب الاجتماعي والتهجير. تسعى أطراف عديدة لضبط هذا «الانفلات»، ضمن قوالب تبدو لها صائبة. في حالة «السوريين» هنالك مجموعة من الناشطين والمسيّسين، الذين يظل تأثيرهم ضئيلاً، نظراً لاتساع نطاق حالة التهجير والشتات السوري؛ أما في حالة غزة، فيبدو أن الأمر تحوّل إلى معركة افتراضية على وسائل التواصل الاجتماعي، بين أفراد من القطاع، وآخرين أقرب لـ»الأمة». هذا طبعاً ما لم تتحوّل «المعركة» إلى أذيّة جسدية، كما في حالة المدوّن الفلسطيني أمين عابد.
ربما لا تكمن المشكلة في محاولة إعطاء إطار نظري أو سياسي للبشر، يساعدهم على فهم الأحداث المحيطة بهم، واتخاذ مواقف منها، وإنما في فوقية وتعالي تلك المحاولة: القضايا العادلة معروفة ومحددة سلفاً؛ سابقة على حياة البشر وظروفهم ورؤاهم ومصالحهم، وما يطرأ عليهم وعلى مجتمعاتهم من متغيرات، سواء في «الأمة»، أو لدى حركات الناشطين والمتضامنين الغربيين، ولذلك فعلى الناس إما أن يتماهوا مع الأمة، أو مع الناشطين «العالميين»، أو الاثنين معاً، ويقصّوا من عقولهم وضمائرهم أي أفكار وأحاسيس مخالفة. الرفض، سواء كان عفوياً، ومعبّراً عنه دون اتساق؛ أو نقدياً، سيصير مستنكراً، ودلالة على انعدام الوعي، والجهل والتحيّز. هذا يفترض بديهياً، أن الناشطين المتبرّمين من «السوريين» والغزاويين، أو من بعضهم، هم مالكو الوعي، والمعرفة، وأبرياء من كل تحيّز. لماذا هذه الثقة؟ عوداً على بدء: القضايا العادلة معروفة وصحيحة بذاتها، ولا يجب أن تُراجع أو تُحرّف، حسب ذلك المنطق.
قد يؤدي هذا لنتيجة غريبة: عدالة القضايا تبقى هي هي، أياً كانت التغيرات التاريخية، والاختلاف الاجتماعي والفكري، وتعددية الفئات والمواقع. ومجدداً: هل هذا ممكن ومنطقي؟
تنابذ «مظلوميات»؟
ربما يكون ذلك ممكناً في منطق ساكن، ميتافيزيقي أو لاهوتي، حيث الحق حق، جوهر غير قابل للتغيير، وخارج الزمن، ولكن في المجتمع والتاريخ اللذين نعرفهما، يغيّر البشر آراءهم، ومفاهيمهم عن الحق والصواب، ورواياتهم عن ماضيهم، وبناءهم لقضاياهم، وتعريفهم لأنفسهم، ضمن جدل أو صراع اجتماعي، لا يمكن لأي مجموعة من الناشطين إيقافه. تصبح هذه التغيّرات أكثر سرعة عادة في حالة الكوارث الكبرى، والظروف الأصعب، والاقتلاع من المكان. هذا يعني أن «السوريين» غير المعياريين في منظوراتهم للقضية، والذين طبعاً لا نعرف عددهم ودوافعهم، وهل نسبتهم أعلى من غير المعياريين لدى بقية شعوب المنطقة، قد لا يكونون مجرّد جهلة، أو حاقدين، أو مصدومين، وإنما بكل بساطة لديهم شيء آخر ليقولوه. وربما على «القضية» نفسها الاستماع إليهم، أي قضية كانت.
ينطبق الأمر نفسه على الغزّاويين، وكثيرين آخرين من شعوب المنطقة. ورؤية المسألة من هذه الزاوية، أي بعيداً عن تعالي القضايا العادلة، قد يوضح أن الحديث عن «تنابذ مظلوميات» ليس أساسياً في هذه الحالة، إذا تبدو حالة التعاطف بين من تعرّضوا فعلاً لحروب إبادة، وتهجير جماعي، وقمع ميليشياوي، أوضح بكثير من التضامن الذي يبديه ناشطون، يرون البشر أثماناً في معارك مقدّسة. ربما الأصح القول إن «السوريين» و»الغزاويين» وغيرهم، قد «ينبذون» نمطاً معينّاً من القضايا، أكثر من أن «يتنابذوا» به.
شعب عائد؟
في كل الأحوال، تبقى تسميات، مثل «سوريين» و»غزّاويين»، بلا معنى سياسي. هؤلاء ليسوا شعوباً فعلاً، أي ليسوا متحداً سياسياً من مواطنين، يعيشون على أرض ذات سيادة، ويعتبرون مصدراً نظرياً للسلطات، وتوجد آليات ما لإشراكهم، ولو شكلياً، بالقرارات المتعلّقة بشؤون دنياهم. لكي يصبحوا شعوباً، ويعودوا سوريين وفلسطينيين، دون الحاجة لأقواس، فيجب أولاً إنهاء الوضع الذي سلبهم القرار.
إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتحقيق الانتقال الديمقراطي في سوريا هو الغاية بالطبع، ولكن للوصول إليها ربما أولاً يجب مراجعة ونقد، ولا بأس بـ»تحريف»، الروايات الدارجة عن «القضايا العادلة»، ومواجهة عقائدييها، حتى لو استمدوا رأسمالهم الرمزي من «أمة»، أو ناشطين غربيين يحاولون التشبّه بهم. فتلك «القضايا»، بتكوينها المتعالي، قد تكون قد ساهمت في إشعال حروب فاشلة، وأدت لقمع شديد. وسمحت لجهات مسلّحة، لا مستند لسيطرتها، بتأديب البشر ومعاقبتهم، كي لا يحيدوا عن منظورها للحق. لن يتغيّر الواقع بالطبع لمجرّد أن الناس «نبذوا» قضايا، أو أعادوا بناءها، ولكنه هذا قد يطرح مهام جديدة، ويوحي بأفكار أخرى، وأنماط مختلفة من العمل السياسي، تحدّد مفاهيم مغايرة للمعارك، والعدو والصديق. وقد يساهم كل هذا بتحقيق غايات، يُستبعد تحقّقها في جيل واحد.
كاتب سوري