مصائر الثائرين: من المثالية السياسية إلى الأناركية

كانت سلسلة الانتفاضات، التي ستعرف إعلامياً باسم «الربيع العربي»، من أهم ما شهدته المنطقة مؤخراً من أحداث، اللحظات المليئة بالحماس، التي ساهمت التغطية الإعلامية والتطور في مجال شبكات الإنترنت في تقويتها كانت ملهمة للكثيرين. لم يكن في الأذهان صدى لتجارب ثورية محلية يمكن القياس عليها، وهذا ربما ما قاد للإسقاط على «ربيع براغ»، الذي يشير لأحداث انتفاضة شعبية تشيكوسلوفاكية حدثت في عام 1968 وكانت مطالبة بتحقيق الإصلاح السياسي، الذي وعد به الرئيس ألكسندر دوبتشيك. بخلاف انتحار شبان غضباً من التدخل العسكري السوفييتي الذي أجهض الحلم، وهو ما يذكر بقصة التونسي بوعزيزي، فإنه لم يكن هنالك تشابه كبير في تفاصيل الأحداث التي أخذت مآلات مختلفة.

لم ينج، إلا قليل من الشبان العرب، من الوقوع في شرك التبسيط المخل للواقع السياسي وتحدياته، أما الغالبية فكانت مقتنعة بأنها أمام لحظة تاريخية، سيتغير بعدها كل شيء

لم ينج، إلا قليل من الشبان العرب، من الوقوع في شرك التبسيط المخل للواقع السياسي وتحدياته، أما الغالبية فكانت مقتنعة بأنها أمام لحظة تاريخية، سوف يتغير بعدها كل شيء. كانت الخطابات المتداولة تقول في مضامينها، إنه لم يبق للوصول إلى جميع الأحلام سوى خطوات وأنه، وبعد نجاح الثورة، سوف تنهض الدول العربية من سباتها الطويل وتتحرر من قيودها السياسية والاقتصادية، بحيث تصل مستوى الرفاه. كانت الخطابات الحماسية والغارقة في عاطفيتها تجد رواجاً كبيراً وتكتسب كل يوم مزيداً من المؤمنين بها، لاسيما من الفئات المهمشة، من الذين بدا لهم التغيير المنشود وكأنه قارب نجاة.
حينما بدأ الرؤساء السابقون يتوزعون ما بين قتيل وهارب ومتحفظ عليه، شعر الجميع بأن النصر لاح في الأفق وأن مطالبهم، وعلى رأسها مطلب «سقوط النظام»، قد بدأت بالتحقق. يبدو لنا كل ذلك اليوم شديد البساطة والمثالية، فيكفي أنه كان يقلل، أو يكاد يتجاهل، «الدولة العميقة»، التي تسيطر بشكل فعلي على مفاصل الدولة. كان «الثوار» يكتفون بالقول، إن الشعب الذي وقف بصدر مفتوح أمام الدبابات وأدوات القمع وأجبرها على التراجع، بل أجبر النظام كله على الذوبان، لن يعجزه شيء. كانت تلك المقاربة مثالية من ناحية أنها لم تكن تستوعب الفرق بين المظاهرات المدينية الحاشدة، التي تعجز أي قوة عسكرية عن أن تتصدى لها، مهما استخدمت من عنف، ودهاليز السياسة التي لا تدار بالتظاهر. من جهة أخرى كانت تلك المقاربة القائمة على إمكانية اللجوء مجدداً إلى الشارع تساوي بين لحظة الخروج الكبير الأول، التي كانت استثنائية في أجوائها ودوافعها، وأي دعوات لاحقة. بعد أن هدأ غبار الأحداث وبدأت المنطقة تستعيد استقرارها بعد سنوات من الفوضى وانعدام اليقين، دخل الثوار السابقون في مرحلة مراجعات، ليظهر أكثرهم الندم على تلك المغامرة التي لم تكن محسوبة العواقب، والتي أفضت، في أكثر من مكان، للكثير من الخسائر الاقتصادية والبشرية، والكثير من الانقسامات بين أطياف المجتمع الواحد. الخسائر كانت كبيرة، لكن توزيعها لم يكن متساوياً، بل إن هناك من استفاد من هذه الأحداث. وجد سياسيون مغمورون فرصة للظهور أو الاندماج ضمن الأنظمة المتشكلة الجديدة، في حين اختار آخرون التربح من «بزنس المعارضة»، الذي يجعل مالًا كثيرا يتدفق تحت ذريعة دعم المناضلين من أجل الديمقراطية. لاحقاً، وحتى حينما تولد مبادرات من أجل تجاوز الأزمة، فإن أولئك المستفيدين سيكونون حجر عثرة بمطالبهم ذات السقف المرتفع، بما يضمن لهم استمرار «البزنس» واستدامة التمويل. على صعيد الشباب، الذين مثلوا جذوة الثورات، بدا الأمر مشابهاً للانتكاسة التي تعقب إحساس النشوة المصاحب لتناول المخدرات، فبعد لحظة من النشوة والكثير من الأدرينالين، ما لبث أولئك أن عادوا للواقع الذي لا نقول فقط إنه لم يتغير، ولكن الذي انحدر، في أجزاء واسعة منه، إلى ما هو أسوأ.
ربما يكون الناشط المصري وائل غنيم مثالاً جيداً هنا، فالشاب الذي أطلق عليه لقب «مفجر الثورة» لجهوده فيها، ولتوظيفه مهاراته في علم البرمجة والحاسوب، من أجل الدعاية لها والحشد، لم يلبث بعد بضع سنوات أن أعلن تشككه فيها، قبل أن يعبر في الأخير عن ندمه على المشاركة فيها، واصفا كل تلك التجربة، التي كان أحد أهم أيقوناتها، بالحماقة. قناعات كثيرة اهتزت وتغيرت خلال عقد من الزمان، فبدأ حزبيون ومنتمون للتيار الإسلامي بمراجعة منهجهم والتشكيك في قياداتهم، التي ضحت بالآلاف في سبيل مغامرات وتحديات لم تكن محسوبة العواقب، في حين بدأت أسماء أخرى منتمية للتيارات اليسارية أو الليبرالية بإعادة التساؤل حول الديمقراطية وآلياتها، ومقارنة ذلك بأولوية الاستقرار السياسي والأمني. هل يمكن أن تنتصر ثورة أصلا؟ أم أن الأمر لا يتعدى أن يكون تراجعا محسوبا من قبل أجنحة السلطة التي لا تفعل سوى تجديد جلدها؟ هذا السؤال أقدم مما نتخيل، وقد ساهم التفكير في إجابة عليه في ولادة تيار راديكالي كافر بالدولة ومؤسساتها وجيشها. ذلك التيار الذي سيسعى لإسقاط السلطة، لا سلطة بعينها، ولكن كل سلطة، سوف يتشكل في بدايات القرن التاسع عشر، متخذا اسم «الأناركية»، أو الفوضوية في دلالة على رفض أي نوع من السيطرة السلطوية، سياسية كانت أو اجتماعية أو دينية. في العالم العربي، وفي وقتنا الراهن، لا يعلن هذا التيار عن وجوده بشكل صريح، ولكننا نرى انعكاس ثماره السامة في تزايد معدلات الجريمة واللامبالاة الأخلاقية، ونسب تعاطي المخدرات والإلحاد، كما يمكن رؤية الأناركية السياسية بوضوح من خلال الحراكات الاحتجاجية، التي لا تبدو مطالبها واضحة، أو التي تبني مواقفها على رفض كل شيء وكل مبادرة للحل دون تقديم بديل، كل تلك مظاهر لا يمكن قراءتها بمعزل عن الإحباط السياسي وانسداد الأفق.
نظر ميخائيل بوكانين (1814 ـ 1876) وهو فيلسوف روسي ثوري، للفوضوية ولم يكتف في منهجه هذا بالتحريض على الحكام وبتأليب العمال، بل مضى أكثر من ذلك للمشاركة في كل ثورة أوروبية، ولشرعنة استخدام العنف ضد القادة السياسيين، بما يصل لإباحة اغتيالهم. كان ذلك المنهج خطيراً، وهو خطير في كل وقت، لأنه يؤسس لترسيخ العنف، بما يمنحه للسلطة من شرعية لاستخدام القوة المفرطة المقابلة في مواجهة الفوضويين. كان المنهج الأناركي مغريا لمن يحلمون بالعيش في تحرر من أي سلطة، خاصة للثوريين الحالمين بتغيير مثالي جذري، ولذلك لن نستغرب أن الكاتب الروسي الشهير ديستويفسكي كان في فترة من حياته أناركيا لدرجة، مشاركته، ضمن فوضويين آخرين، في محاولة اغتيال القيصر نيقولا الأول، وهو ما سيكلفه سنوات من عمره قضاها منفياً في سيبيريا. ديستويفسكي سرعان ما سينقلب على الأناركيين معتبراً أن هذه الطريقة في الحياة غير ممكنة، وأن ذلك منهج يحترف الهدم ولا يجيد البناء، وهي الأفكار التي سيعبر عنها في روايته «الشياطين». افتقار الثوار الأناركيين لأي تصور لما بعد الهدم وإسقاط النظام كان مثار انتقاد منذ عهد باكونين، الذي كان معاصرا لكارل ماركس ومرافقا له إبان مشاركتهما في ثورة الكومونات الفرنسية عام 1848. ماركس ما لبث أن صنع منهجه الخاص، الفوضوي في وسائله، لكن الذي ينتهي بإقامة نظام بديل، وهو المنهج الذي سيسحب البساط من تحت قدمي الأناركيين بتقديمه أطروحة ثورية بدت للشباب المتحمس والثوري حينها أكثر اكتمالًا وقابلية للتحقيق.
كاتب سوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية