هذا كتاب صادر عن دار غراب في مصر منذ أيام قليلة للدكتور أحمد الخميسي. ما أكثر ما كتب عن روسيا والاتحاد السوفييتي، وترجم قصصا عن اللغة الروسية، ونشر أعمالا من القصة القصيرة المصرية حقق فيها جوائز مثل جائزة ساويرس، كما كتب للمسرح والسينما. أحمد الخميسي يعمل في الصحافة في مصر وخارجها منذ عام 1964 وحاصل على الدكتوراه في الأدب الروسي من جامعة موسكو عام 1992.
الكتاب أكثر من ثلاثين مقالا، كثير منها خصص لكتاب روس مثل تشيكوف وتولستوي ومكسيم غوركي وبوشكين وسولجنتسين والمستشرقة فاليريا كيربتشينكو ورسول حمزاتوف وأيتماتوف وغيرهم من السياسيين الروس مثل، خروتشوف وغورباتشوف وبوتين. ومصريون مثل أبو بكر يوسف صاحب الترجمات الرائعة من الروسية للعربية ونجيب محفوظ، وسياسيون مثل محمد علي باشا وجمال عبد الناصر. يتقصي بداية العلاقات التي يتصور البعض أنها بدأت مع ثورة يوليو/تموز 1952، أو بعدها مع الإنذار السوفييتي لإنكلترا وفرنسا بالانسحاب من مصر بعد العدوان الثلاثي، وإلا تعرضتا لقنابل الاتحاد السوفييتي النووية. يعود بالعلاقة إلى ألف سنة وأكثر منذ قيام ابن فضلان مبعوث الخليفة العباسي برحلة إلى روسيا عام 922 ميلادية، وكتب بعدها كتابه «رحلة ابن فضلان إلى الفولغا» سجل فيه مشاهداته وطباع الروس، وقبله وصل الإسلام إلى جنوب روسيا في القرن السابع الميلادي. كما جاء إلى مصر رحالة روس مثل إيجومين دانييل في القرن الثاني عشر، وفاسيلي جاجارا، الذي زار القاهرة ووصف شوارعها وشاهد وحشا ضخما في النيل لم يشاهده من قبل وكان يقصد التمساح! في القرن الثامن عشر عام 1748 تم افتتاح أول قنصلية روسية في مصر، وفي الثلث الأخير من القرن الثامن عشر طلب علي بك الكبير من القيصرة كاترينا الثانية مساعدته على الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية، فأرسلت إليه عدة سفن حربية رابطت في مياه الجزر اليونانية. في إطار مشروع محمد علي لتحديث مصر، راح يبحث عن طريقة لاستخلاص الذهب من رمال السودان، فاستدعى القنصل الروسي وأهداه علبة نشوق ذهبية فاخرة، وسأله عن إمكانية مساعدة روسيا له في استخلاص الذهب، فأجابه القنصل بالإيجاب. أرسل محمد علي عام 1845 أول مبعوثين مصريين لدراسة علم التعدين في سيبيريا، وعادا بعد الدراسة وبدأ البحث عن الذهب في رمال إقليم فازوجلو شمال السودان. ظلت العلاقة عبر السنين وإن تفاوتت قوتها. طبعا لم يخصص الكتاب كله للأمر، وإلا كنا رأينا أحاديث عن هجرات الروس إلى مصر، خاصة بعد الثورة البلشفية، وقبلها بعد فشل ثورة 1905 وتأسيس أول حزب شيوعي في مصر في عشرينيات القرن الماضي وغير ذلك كثير.
لن أستطيع أن أوجز كل شيء، لكنني سأقف عند بعض القضايا الكبري المثيرة مثل، بوشكين أمير الشعر ورائد المسرح والأدب الروسي والقصة وكيف كان ضد القيصر، وتم نفيه داخل البلاد أكثر من مرة بسبب قصائده وآرائه المؤيدة لحركة الديسمبريين المناوئة للإقطاع وللقيصر نيقولا الأول. كيف تآمر عليه القيصر وجعل ضابطا فرنسيا مأجورا هو جورج دانتس يتغزل في زوجة بوشكين ناتاليا جونتشاروفا التي أدارت رؤوس الأوساط الراقية بجمالها الساحر. كان القيصر يعرف أن بوشكين لن يتحمل. انتهي الأمر إلى مبارزة بالمسدسات بين بوشكين والضابط المأجور في السابع والعشرين من يناير/كانون الثاني عام 1837. مبارزة لا يجيدها بوشكين فقُتل فيها. بعده تآمرالقيصر على قتل ليرمنتوف أيضا في مبارزة عام 1841. نمشي في أكثر المقالات مع الكتّاب والسلطة، ومن وجد مقتولا أو انتحر منهم مثل يسينين وماياكوفسكي وما عاناه الكثيرون مثل سولجنتسين وحتى غوركي، وكيف كانت الكتب لا تخرج من مكاتب الرقابة عشرات السنين. كيف استطاع البعض مثل سولجنتسين تهريب رواية له إلى أوروبا وهرب خلفها فانتشرت الرواية، وسنوات النفي للكثيرين في العهد القيصري والعهد السوفييتي الشيوعي أيضا فلا فرق، بل كان العهد السوفييتي أكثر قسوة في الرقابة على الكتب والصحف والإبداع. الكتابة صارت مؤدلجة والواقعية صارت اشتراكية، وغير ذلك لا يُعتد به، بل ويُعد ضد الوطن. آفة الحكم الشمولي التي لا يفهمها الطغاة حتى الآن. يحكي أحمد الخميسي عن نفسه حكايات مبهجة، كيف سافر للدراسة عام 1972 وكان شابا غمره الحلم بالاشتراكية، تفتح وعيه مبكرا على والده الكاتب والفنان عبد الرحمن الخميسي وأخواله جميعا في معتقلات عبد الناصر بتهمة الشيوعية. لكن الاتحاد السوفييتي كان يحمل بذور تفتته بما عرفه الناس من ديكتاتورية. أحداث كثيرة تتوزع على المقالات تجمعها في طريق نهاية الاتحاد السوفييتي، حيث صار كل شيء ملكا للدولة حتى محلات تلميع الأحذية. وقد رأيت أنا كيف كان الزوال حين سافرت مرة إلى موسكو في فبراير/شباط عام 1990 ورأيت كيف يتوق الناس إلى الغرب، وكيف تجد زحاما مهولا على محل ماكدونالد الأمريكي الذي فُتح هناك لأول مرة، بينما لا تجد زحاما على محل سوفييتي، وكيف كان «سروال الجينز» حلما، وغير ذلك كتبت عنه وليس مجاله هنا، فكتاب أحمد الخميسي هو مقالي.
في الكتاب لقطات جميلة عن لقاءاته بالكاتب والشاعر رسول حمزاتوف، وكيف عرف تاريخ داغستان والشيشان وذهب إلى مواقع الحرب الشيشانية الروسية. جلساته مع حمزاتوف في بيته في موسكو، حتى رحيل حمزاتوف. من طرائف الحكايات حكاية الماعز عام 1988، في ذلك الوقت كان التلفزيون الروسي يعرض مسلسلا إسبانيا بعنوان» إسمي ماريا» لاقي رواجا كبيرا، وكانت البطلة ماريا جميلة واسعة العينين. كانوا على مشارف عيد الأضحى، ففوجئ بصديقه يعرض عليه «معزة» بمناسبة عيد الأضحى. كان ذبح الماعز هناك مشكلة ولما سأل صديقه لماذا يعرضها عليه ولديه بيت خارج موسكو وحديقة يستطيع أن يذبحها فيها في العيد، قال له إنه لا يستطيع أن يذبحها فعيناها شبيهتان بعيني ماريا، ولم يعد حتى قادرا على لمسها. المهم تفاصيل مضحكة كثيرة بعد أن أخذ أحمد الخميسي الماعز إلى شقته ثم نقلها مع ابنته «هانيا» إلى أوكرانيا في قطار الركاب هدية لحماه الروسي، ليستفيد من لبنها هناك، وكيف دفع رشوة لعامل القطار أن يتقبل المعزة. الرحلة المضحكة والمزعجة للركاب، ثم يكتشف من تليفون من حماه، أنها ليست معزة، بل جديا ذكرا، وأعادها إليه مع ابنته فلا لبن سيحصلون عليه منها. تسأله ابنته «معقول يا بابا تجعلني أسافر إلى أوكرانيا بماعز يتضح أنها جدي» المهم في النهاية يطلق الجدي قرب قسم شرطة في موسكو ويلوذ بالفرار بسيارته ومعه ابنته، وحين تسأله ابنته لماذا تركت «المعزة» قرب قسم الشرطة؟ يقول « لأنها جدي مزور لئيم خدع الجميع مدعيا أنه ماريا» وهكذا إلى جوار الحديث في الأدب أو السياسة، لا يخلو الكتاب من مقالات مبهجة مثل الحديث عن الأمثال الشعبية بين روسيا ومصر وكيف يشترك الشعبان في بعضها، أو النكات ومعناها، إلى جوار ما هو جاد مثل حديثه عن المستشرقة فاليريا كيربيتشنكو، التي ترجمت الكثير من الأدب العربي، ومنه كتاب رفاعة الطهطاوي «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» وكيف سألته أن يرسل إليها من مصر وثيقة زواج الطهطاوي فأرسلها، وينشر ما جاء فيها بخط يد الطهطاوي الذي ختمه بختمه عام 1839 «التزم كاتب هذه الأحرف رفاعة بدوي رافع لبنت خاله المصونة الحاجة نعيمة.. أنه يدخل بها وحدها على الزوجية دون غيرها من زوجة أخرى أو جارية. فإذا تزوج بزوجة أيا ما كانت صارت بنت خاله طالقا بالثلاثة وكذلك إذا تمتع بجارية». كثير من المقالات الجميلة منها مقال بعنوان نساء من العطر والبارود عن «لاريسا رايسنر» رائعة الجمال صانعة الثورة البلشفية التي صارت أسطورة في أعقاب ثورة 1917 باشتراكها فيها ومعاركها هي التي لم تتجاوز الواحدة والثلاثين وكيف كانت في أنوثتها مثل الآلهات الإغريقيات.
الكتاب ممتع يقدم معلومات مدهشة للقارئ بأسلوب ولغة أديب بارع ويستحق الاحتفاء.
روائي مصري