القاهرة ـ «القدس العربي»: وثقت منظمة “سيناء لحقوق الإنسان”، استمرار مأساة التهجير القسري لأهالي شمال سيناء، بعد مرور عشر سنوات من الإهمال الحكومي ومعاناة المهجرين.
وتضمن التقرير الذي حمل عنوان “العدالة المفقودة” الذي صدر حديثا، توثيقا وتحليلا قانونيا لوقائع حصول آلاف من السكان المحليين المهجرين على بعض التعويضات من خلال عملية بطيئة وغير شفافة، بينما لم يحصل الآلاف الآخرون على أي شيء وليس لديهم معلومات حول ما إذا كانوا سيحصلون على تعويضات أو عن قيمة المبلغ الذي قد يحصلون عليه. واعتمد التقرير على عدد من المقابلات التي أجرتها المؤسسة في الفترة بين (أكتوبر/ تشرين الأول 2022 سبتمبر/ أيلول 2024، مع 45 من السكان المحليين من قرى وتجمعات مدينتي الشيخ زويد ورفح شرقي سيناء.
الغالبية العظمى من السكان الذين أجرت المؤسسة معهم مقابلات قالوا إن الحكومة لم تقدم لهم أي مساعدة أو إن التعويض غير كاف، ما ورد في تقرير عام 2019 للمقررة الخاصة الأممية المعنية بالحق في السكن. ولا يملك السكان فرصة الاستئناف ضد عمليات الإخلاء أو الحصول على التعويض أمام هيئة قضائية أو إدارية مستقلة.
وأظهرت إفادات الشهود والبيانات الرسمية أن السلطات لم تجر حصرا لممتلكات السكان في بعض المناطق في رفح، والشيخ زويد، والعريش قبل تدميرها، وذلك لتقدير قيمة التعويض بشكل منصف، وتعزي الحكومة أسباب عدم إرسالها للجان حكومية لحصر الممتلكات إلى الظروف الأمنية المعقدة خلال سنوات الحرب على الإرهاب.
زهد التعويضات
وينقل التقرير عن مازن (اسم مستعار) من سكان حي الزعاربة في مدينة رفح، الذي تعرض للتهجير القسري عام 2015 من قبل قوات من الجيش المصري، قوله: بعد قرار الرئيس بإقامة منطقة عازلة في رفح في نهاية 2014 ، منزلي كان في حي الزعاربة وكنت أمتلك مزرعة في منطقة الأحراش، البيت والمزرعة كانوا في المرحلة الثانية، الموضوع كان أشبه بكابوس عشته لكن كنت أقنع نفسي أن ذلك لن يحدث، حتى استيقظت من اوهامي والجيش فوق راسنا، تم تجريف الأرض تماما وتم تفجير المبنى بالكامل وبعدها، تم استخدام الآلات والجرافات لإزالة الرمل والحجارة، ولم يتبق أي أثر للمنزل.
وأضاف: قبل الهدم جاءت لجنة حصر مكونة من الجيش ومحافظة شمال سيناء، سيارة تقل مهندسين وضباط جيش وحددوا مساحة البيت مساحة البيت وسجلوا البيت برقم حصر وأرسلوا الرقم إلى مجلس مدينة رفح.
وبين أن البيت كان مكونا من 3 طوابق، مساحة كل طابق تقريبا 300 متر مربع، أخذت تعويضها عام 2015 وكانت قيمة التعويض 1200 جنيه لكل متر المربع من المباني الخرسانية فقط، والبيت كان يقطنه ثلاث أسر، وتم توزيع قيمة التعويض علينا، ولم أتمكن من شراء شقة، والجيش أجبرني على توقيع عقد بيع وشراء، ووقعت على ورقة تؤكد عدم أحقيتي في الطعن على العقد. تحدث فريق المؤسسة مع فارس من سكان قرية قوز أبو رعد، جنوب رفح، وهو أب لثلاثة أطفال، تعرضوا للتهجير القسري نهاية عام 2014، حول التعويضات التي تلقاها نظير هدم منزله، حيث حصل على تعويض لمنزله التي قدرت مساحته بـ 100 متر مربع بينما لم يحصل على أي تعويضات عن مزرعة بمساحة 4 دونم، والتي يملك لها تراخيص حكومية لبئر مياه وعداد كهرباء وعقد عرفي بملكية الأرض منذ 45 عاما.
وحسب التقرير، يتناقض هذا الواقع مع تصريحات لمحافظ شمال سيناء في مقابلة صحافية عام 2021، أثناء زيارة تفقدية قام بها للمدنيين العائدين لعدد من تجمعات وقرى الشيخ زويد، حيث قال: “زرت أكتر من قرية وتجمع، وستلبى مطالب الأهالي، خاصة قيمة التعويضات على المنازل والزراعات”.
وفقا لتقدير مؤسسة “سيناء” لم يتلق أكثر من 45 في المئة من إجمالي السكان تعويضات، وهي لا تتناسب مع حجم خسارتهم، وهو ما تؤكده حتى تصريحات محافظ شمال سيناء التي تحدثت عن عدم تناسب قيمة التعويضات مع حجم الضرر.
كما يكشف التقرير رفض السلطات المصرية تقديم أي تعويضات مالية عن قيمة الأرض التي يملكها السكان المحليون في سيناء منذ مئات السنين وتوارثوها عبر الأجيال.
وبين أن السلطات لا تعتد بملكية سكان سيناء لأراضيهم، وأصدرت في هذا الإطار عددا من القرارات الوزارية والرئاسية التي تؤصل لمسألة النظر للسكان المحليين باعتبارهم واضعي يد وتضع شروطا وقواعد شبه تعجيزية للتملك، من ضمنها الحصول على موافقات من وزارة الدفاع وجهاز المخابرات العامة والجهاز الوطني لتنمية شبه جزيرة سيناء، إضافة إلى شرط حصول سكان سيناء على شهادة إثبات الجنسية المصرية، وهي عملية معقدة لا يغني عنها امتلاك الشخص جواز سفر مصري.
زُهد التعويضات أو غيابها بشكل شبه كامل عن الكثير من السكان المتضررين من التهجير القسري، حتى بعد سنوات من التهجير وانحسار العمليات العسكرية، كان محل شكايات رسمية متعددة.
ونشر فايز أبو حرب، النائب في مجلس الشيوخ في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، تدوينة وصورا على “فيسبوك” أثناء زيارته منازل آيلة للسقوط نتيجة العمليات العسكرية تم تقدير تعويضاتها بمبالغ زهيدة للغاية. واتهم اللجنة الحكومية التي شكلها المحافظ ويرأسها السكرتير المساعد للمحافظ، بـ”الظلم”.
كما قدم طلبا لرئيس مجلس الشيوخ في ديسمبر 2021 وصف فيه التعويضات بـ “المجحفة وغير العادلة” وطالب لجنة الدفاع والأمن القومي في المجلس بالقيام بزيارة ميدانية لشمال سيناء لتصحيح الأوضاع.
ولفت تقرير مؤسسة سيناء، إلى تأثير انخفاض قيمة العملة، موضحا أنه لم تأخذ السلطات المصرية في الاعتبار فقدان العملة المصرية لأكثر من 50 في المئة من قيمتها خلال عام 2016، مما أثر على قيمة التعويضات المقدمة.
وحررت الحكومة المصرية سعر صرف الجنيه مقابل الدولار أكثر من مرة خلال الأعوام الماضية، بداية من عام 2016، وحتى آخر تعويم في مارس/آذار الماضي، وفيه قفز سعر الدولار في البنك إلى 50 جنيه على شاشات البنك الأهلي، مقارنة بنحو 31 جنيهًا في اليوم السابق للتعويم. ولا يزال الدولار يدور حول متوسط 49 جنيهًا حتى الآن.
كما شكا العديد من الأهالي، وفق مؤسسة “سيناء”، من “عدم كفاية التعويضات المقدمة، حيث تم تقدير التعويضات بأسعار عام 2014، بينما تم تسليمها في فترة لاحقة دون أي زيادة”، لافتين إلى عدم وجود آلية للطعن على قيمة التعويضات المقدمة، “مما جعلهم يشعرون بعدم العدالة في تقدير التعويضات”.
وحول التأثيرات الاجتماعية للتهجير قالت مؤسسة “سيناء” في تقريرها إن “التهجير القسري أدى إلى فقدان العديد من الأسر لمنازلهم، مما جعلهم بلا مأوى وتركهم في ظروف معيشية صعبة”، مشيراً إلى أن الكثيرين فقدوا مصادر دخلهم من الزراعة أو التجارة. وأضاف التقرير أن النزوح عن المناطق الأصلية أدى إلى انقطاع السكان عن الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية.
وبدأت الأزمة، مع إصدار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي سلسلة من القرارات الجمهورية والتشريعات التي تشكل نمطا وسياسة لشرعنة تحكم المؤسسة العسكرية على أغلب الأراضي في سيناء، بالإضافة إلى القيود الشديدة على حرية الحركة المفروضة على السكان منذ تصاعد الحرب في 2013.
وحسب التقرير، فإن هذه القرارات والسياسات من شأنها تقويض أي وجود حقيقي للسكان الأصليين في شمال وشرق شبه جزيرة سيناء، وربما دفع المزيد منهم إلى هجرتها.
وكان السيسي أصدر في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2021 القرار رقم 442 لسنة 2021 الذي منح وزير الدفاع صلاحيات واسعة غير مسبوقة تمكنه من فرض حظر التجوال، أو إخلاء أماكن، أو حظر الاتصالات والتنقل، وفقا لتفسير متعسف للمادة 53 من قانون 2015 لمكافحة الإرهاب، وذلك – على ما يبدو – استباقا منه لإنهاء حالة الطوارئ في عموم البلاد، وهو القرار الذي أصدره بالفعل مساء 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021. كما أصدر رئيس الجمهورية قبلها القرار 420 لسنة 2021 بتعديل قرار رئيس الجمهورية 444 لسنة 2014، بشأن “تحديد المناطق المتاخمة لحدود جمهورية مصر العربية والقواعد المنظمة لها، ليضيف المزيد من المساحات الشاسعة على القرار الأصلي في 2014 شمال سيناء.
وكان السيسي أصدر القرار 444 ليحدد منطقة رفح بالإضافة لمنطقة عرضها واحد كيلو متر بمحاذاة الحدود الدولية الشرقية من جنوب رفح وحتى طابا كمناطق “ممنوعة”، بالإضافة إلى تحديد منطقة عرضها 4 كيلو متر كمنطقة “محظورة” إلى الغرب من المنطقة الممنوعة.
توصيات
ينتهي التقرير بعدد من التوصيات التي تستهدف التزام الدولة بالضمانات الدستورية والقانونية لحقوق سكان تلك المناطق.
يأتي على رأس تلك التوصيات، ضرورة الالتزام بالشفافية والحق في حصول السكان على المعلومات اللازمة عن واقع المناطق المهجرين منها وخطط الحكومة بشأن تطويرها، وضمان حصول السكان المهجرين على التعويضات المادية العادلة، وتشكيل لجنة مستقلة بصلاحيات كاملة، تشمل قضاة ونشطاء مستقلين وممثلين عن أهالي شمال سيناء لبحث ملف التعويضات بشكل كامل، ودعوة أهالي سيناء المهجرين لتقديم اعتراضات ومن ثم التدقيق في تلك الاعتراضات والتأكد من أن كافة المهجرين حصلوا على تعويضات كافية ومجزية تؤهلهم لحياة كريمة. على أن تشمل تلك التعويضات المنازل، والمزارع والمصالح التجارية كافة. وكذلك ضمان العودة الفورية لمن يرغب في ذلك من السكان أو الإعلان بشكل واضح عن أسباب قهرية تبرر استمرار حالة الضرورة التي أدت إلى تهجيرهم.