مصر: الاخوان والنظام بين تنظيم الصراع ونهاية الطريق المسدود

في مساء صيفي من العام 2011، اتاحت لي معرفة مهنية طويلة بالرئيس المعزول محمد مرسي ان احضر لقاء خاصا معه، عقب ندوة عامة عقدها مع الجالية المصرية في لندن بصفته حينئذ رئيس حزب الحرية والعدالة،
وحيث ان الموقف الرسمي للاخوان حينئذ كان عدم الترشح في الانتخابات الرئاسية، فان احدا (بمن في ذلك الدكتور مرسي نفسه) لم يكن يتصور اننا كنا نجلس مع الرئيس المقبل لمصر.
ومن بين ما قيل وما اكثره، اتذكر انه نظر الي عندما سألته عن العلاقة مع المجلس العسكري والاقباط والاحزاب الليبرالية، وقال ‘لقد قررنا ان نحذف كلمة الصراع من قاموسنا’. وكان اشار في فخر مستحق الى وجود اكثر من مئة قبطي بين مؤسسي الحزب. وبالنسبة لي كانت هذه الاجابة تحديدا ما بنيت عليها قناعتي حينئذ، بان جماعة الاخوان بلغت اوج قوتها في ذلك الوقت، وانها ستحقق فوزا مهما في الانتخابات العامة، وهو ما حدث فعلا.
تذكرت ذلك اللقاء الذي كان الاخير لي مع الدكتور مرسي، بينما كنت اتابع وقائع بدء محاكمته الاثنين الماضي. وتساءلت عن الاسباب التي جعلت ‘الصراع’ يصبح ‘عنوان المرحلة’ بعد ان كان ‘غاب عن القاموس’.
ومن المؤكد ان التطورات الدراماتيكية التي شهدتها الفترة بين المناسبتين ستحتاج الى سنوات طويلة من البحث الاكاديمي لتأسيس فهم تفصيلي لحقيقة ما جرى، لتصل الجماعة من حيث كانت حينئذ الى حيث هي اليوم.
ولا يمكن للمراقب ان يتجاهل المعطيات الواقعية التي تشي بأن ما حدث، مهما كان توصيفه، قد اوصل الصراع السياسي حاليا الى نقطة ما قبل نهاية الطريق المسدود، وان قرارات مصيرية ومآلات صعبة ستكون مستحقة في وقت غير بعيد لتحديد ملامح المرحلة المقبلة، خاصة اذا ادركنا ان الازمة في مصر ليست في حقيقتها سوى انعكاس لصراع جيوسياسي اقليمي على النفوذ الاستراتيجي.
وبحكم معطياته فان هذا الصراع متحول، وتحكمه اعتبارات من خارج المنطقة كما من داخلها، وعلاقات متحركة ومصالح متبادلة مع دول عظمى. ومن السهل استنتاج ان الاحداث في مصر ستواصل في المستقبل المنظور الاندفاع على منحدر الصراع الى نهايته، بعد ان اصبح التراجع خيارا انتحاريا، الا ان هذا يجب الا يمنع الاجتهاد لتحقيق رؤية سياسية مغايرة، لن تخلو من اثمان باهظة وتنازلات مؤلمة للطرفين، الا انها في محصلتها تمثل تحررا من منطق المعادلات الصفرية التي كانت اصلا احد اسباب التأزم الحالي.
ولعل اي مراقب اقترب من قيادات جماعة الاخوان يعرف انه كان دائما لديهم اجتهادات متباينة، وكان هذا امرا ثابتا على مر العصور، وهو من دون شك مازال حالهم اليوم في ظل ما يمرون به من مأزق تاريخي.
وكان هذا التباين من مصادر قوة القيادة وليس ضعفها، واذكر ان المرشد السابق للجماعة محمد مهدي عاكف قال لي مرة، ان اجتماعات مكتب الارشاد تشهد غالبا خلافات وصياحا بين الاعضاء، وانه شخصيا كان يشجع شباب الجماعة على الاجتهاد وان اختلفوا مع قيادتها.
والسؤال الذي يفرضه الواقع اليوم، ان كان هذا بالضبط هو ما تحتاجه الجماعة: اعادة النظر في استراتيجية الصراع الشامل التي ثبت فشلها، بل وكارثيتها، واعادة الاعتبار الى الرأي الاخر، سواء من داخل الجماعة او خارجها حتى ان كانت تشعر بالظلم. وللمفارقة فان هذه الحاجة الى المراجعة تبدو القاسم المشترك الوحيد الذي يجمع موقفي النظام والاخوان، حيث لم يعد هناك من خصوم الاخوان من يدافع عن فشل الحكومة المؤقتة في تلبية الحد الادنى لطموحات المواطن، سواء الامنية او الاقتصادية، خلال الشهور الاربعة الماضية.
وسرعان ما سيدرك النظام ان نجاح الانتخابات المقبلة لن يتأتى الا بمشاركة كافة الاطياف السياسية ضمن حدود القانون. وهو ما لن يحدث الا بقدرة كل مواطن يتمع بالاهلية السياسية، ولم تتلطخ يده بالدم او التحريض على العنف، على المشاركة السياسية الكاملة بغض النظر عن انتمائه الايديولوجي.
وبديهي ان البداية الحتمية لاي مراجعة ذات معنى تكمن في الاعتراف بالاخطاء والاعتذار عنها، ومحاولة تلافي اخطائها، وسيكون هذا دليلا على القوة وليس الضعف، والتماسك وليس الانهيار.
ومن جهة النظام فانه يجب الا يجد غضاضة، بل انه مطالب باتاحة كافة الامكانيات اللوجستية وفتح الملفات امام لجنة تحقيق مستقلة تماما من منظمات حقوقية محلية ودولية للوقوف على حقيقة ما جرى اثناء فض الاعتصامين في رابعة والنهضة، والتعهد بالاعتذار ومحاسبة اي شخص يثبت افراطه في استخدام القوة وتعويض الضحايا.
كما ان عليه ان يستبدل الحكومة المؤقتة الحالية بحكومة تكنوقراط حقيقية مشهود لها بالحياد، للاشراف على اجراء انتخابات شفافة ونزيهة بحضور مراقبين من الامم المتحدة والاتحاد الاوروبي. وهذا يفتح الباب عمليا امام وجود فكري وسياسي للاخوان في المشهد، وان غاب التنظيم او الحزب.
اما من جهة الاخوان فان الخطوة الاولى الحتمية هي التوقف عن التظاهر، بالنظر الى انه لم يعد ممكنا ان يكون سلميا في الظروف الحالية، مع التمسك بحقهم السياسي والانساني في الاحتجاج بكافة الوسائل السلمية الممكنة، مع الاعتذار عما وقع من اعضائها من اعمال عنف، وهو ما اقر به ضمنيا عندما صرح المتحدث السابق باسمها وبرره بـ’غياب القيادة المركزية’، وكذلك استنكار الهجمات الارهابية ضد افراد الجيش والشرطة.
اما الخطوة الثانية فالاعتراف بصدق الارادة الثورية لملايين المصريين الذين خرجوا في الثلاثين من يونيو، مع امكانية استمرار الرفض لتدخل الجيش في الثالث من يوليو. وهذا ما فعله الدكتور مرسي نفسه (كما ظهر من تسجيل اجتماعه مع كاثرين اشتون) عندما اقر بأن الملايين خرجوا ضده في الثلاثين من يونيو، مع اصراره على ان ما حدث بعد ذلك هو انقلاب عسكري.
ويبدو ان بعض القيادات الاخوانية تملك من الواقعية والعقلانية ما يجعلها تدرك انه لا يمكن الاستمرار الى ما لانهاية في تعميق الصراع، وهو ما بدا في موقفها المعلن بالترحيب بأي وساطة وطنية، بل وتصريحات منسوبة لها بان المظاهرات، لن تعيد اوضاع ما قبل الثلاثين من يونيو.
وفي المقابل صدرت اشارات واضحة من الحكومة، بل ومؤسسة الرئاسة نفسها تتحدث صراحة عن (شروط المصالحة). وفي القاموس السياسي، لا يمكن ترجمة هذا الخطاب الا بالاستعداد الواضح من الطرفين للوصول الى تسوية لا تخلو من تنازلات متبادلة.
وتقتضي اي قراءة واقعية للمشهد الاقرار بان ترجمة خطاب ما يسمى بالحل السياسي الى واقع ملموس تبدو حاليا اقرب الى المستحيل لاسباب عديدة ومعقدة، في ظل حالة من استشراء العنف المادي واللفظي والهستيريا الاعلامية المتبادلة. لابد اذن من اتخاذ العديد من الاجراءات المتبادلة لتهيئة الاجواء لاعادة احياء الخيار السياسي، من دون اي تهاون في دماء ضحايا العنف غير القانوني، مهما كانت انتماءاتهم السياسية، او تفريط في احترام القضاء، الذي طالما اشادت باستقلاله كافة الاطراف في مراحل متباينة.
وسيكون من الصعب، ان لم يكن من المستحيل، تحقيق هذه الاجراءات في ظل تنافس بعض الابواق الاعلامية التي تصر على ان تتصرف مثل الدبة التي تقتل صاحبها، وينطبق عليها المثل (ليس النائحة كالثكلى).
ان الذين يسيئون الى الكرامة الوطنية المصرية، بدعوى الحفاظ على الديمقراطية، ويعملون على تأجيج الصراع بدس الاهانات لشعب حي عريق انجز تحولات تاريخية لا ينكرها الا حاقد، او الاساءة الى دولة حافظت على تماسكها ومؤسساتها تحت ظروف بالغة القسوة، انما يكشفون جهلهم بخصوصية هذا البلد، ولا يخدمون في الحقيقة الا مصالحهم الخاصة واجنداتهم الضيقة، وسيجدون انفسهم يوما معزولين، عندما تتبدل المواقف والمعطيات الحالية، وهي حتما ستفعل مهما بدا المشهد معقدا، لان هذه هي طبيعة الصراعات وسنة الحياة. كما ان الذين يتبنون استراتيجية الاستئصال في الجانب الاخر انما يفتئتون على خريطة المستقبل نفسها، التي تنص صراحة (على عدم الاقصاء السياسي لاحد) وهو التزام قانوني قبل ان يكون سياسيا. وليكن واضحا اننا لا نتحدث هنا عن مشروع مصالحة هي غير واقعية وقد تكون غير ممكنة اصلا، لكن عن تنظيم للصراع يوفر حدا ادنى من العقلانية والمصلحة الوطنية.
واخيرا من المطلوب ان يقف خصوم الاخوان قبل انصارهم ضد اي انتهاك حقوقي للمعتقلين من قيادات الجماعة وكوادرها، وتوفير اعلى معايير العدالة في محاكماتهم، والحفاظ بشكل خاص على كرامة محمد مرسي، باعتبار انه رئيس مصر السابق ومازال بحكم القانون بريئا، طالما لم تثبت ادانته، حيث ان التهاون او الازدواجية في تطبيق معايير الحرية والعدالة وحقوق الانسان سيعني من دون لبس خيانة لاهداف الثورة وتقويضا للامل في امكانية صياغة مستقبل مختلف عن تراث القمع الذي ادى الى اندلاعها اصلا.

‘ كاتب وباحث مصري مستقل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد الكريم السائحي (الجزائر):

    لقد ارتكب الاخوان أخطاء أثناء ممارستهم للسلطة ما في ذلك من شك، و هذا كان متوقعا من فصيل يمارس الحكم لأول مرة، وفي ظروف تشويش و عرقلة وتآمر من تحالف بين الفلول و العلمانيين الذين أيقنوا من نتائج الاستحقاقات الخمسة أن لا أمل لهم مع بقاء الاخوان في الساحة. و لكن أخطاءهم الناجمة عن قلة الخبرة لا تستوجب الجرائم الفظيعة التي ارتكبت في حقهم من طرف الانقلابيين و بتأييد و مباركة من نخبة زائفة ووسط تهليل و تصفيق إعلامي يندى له الجبين. إن هذا السلوك المشين المتسم بالانتهازية و الكراهية و القابلية للاستتبداد من النخبة المصرية صدم العالم و كشف عورة لم يغطها الصراخ و الضجيج المتواصل لأعلام فقد أدنى مصداقية. إن مقاومة الاخوان السلمية و الحضارية و التضحيات التي قدموها و الاصرار الذي أبدوه و في المقدمة منهم قادتهم، زادتنا يقينا أن ثورة يناير ما كانت لتنجح لولا وجود الاخوان بين الثوار، كما أنقذت شيئا من مصر التي في أذهاننا و التي شوهها و أمعن في اللإساءة إليها الانتهازيون الحاقدون.
    إن هذه الأزمة في مصر كشفت أنه لاسقف للكذب و قلب الحقائق و استحمار المشاهد و القارئ و هذه الاستراتيجية الغبية أفقدت الثقة في أصحابها و إن صادف و هو بعيد أن يكونوا صادقين في بعض ما ينقلونه.
    إننا نرى و نتابع و نكون فكرة على ما يحدث، و نصاب بالغثيان حين نجد من يصف الضحايا بالملطخة أيديهم بالدماء و يحمل المتظاهرين السلميين مسؤولية من يسقط منهم.
    أن يخنع البعض و يجبن أن يصدع بالحق و ينصره فذلك شأنه، أما أن يثبط العزائم و يدعو الأحرار إلى قبول الاستبداد و الرضا بالدنية و الهوان فهي الطامة الكبرى.

  2. يقول سامح // الامارات:

    خلاصة المقال : على جميع الأحزاب والقوى الحية بمصر :
    التخلي عن العنف والجنوح الى السلم والسلام …………
    والعمل معا لتقدم البلد ورفع شأنه في جميع المجالات …
    شكرا …والشكر موصول للأخ الكاتب .

  3. يقول حميد مستغانمي الجزائر:

    القبول بااكاذيب الانقلابيين هي القابلية للاستعمار خسب المفكر الجزائري مالك بن نبي

إشترك في قائمتنا البريدية