مصر الثورة لن تجدد الإستبداد

حجم الخط
0

التجربة الثورية في مصر هي الناطقة المعبّرة عن التحولات العميقة لحاضر عربي واعد بمستقبل النهضة الجديدة التي لا تزال تتردد بحمل عنوان لها اسمه فقط الربيع العربي. فالتجربة لا تعني تحقق المزايا وحدها، بل ربما نافستها الأخطاء والمساوئ التي تصاحب منطقها الذاتي. وإذا كان للتجربة عنوان غير عادي وهو الثورة، فينبغي أن يتوقع الفكر الباحث عن الحقيقة أن تبلغ أخطاؤها حدّ الأهوال، كما يمكن أن يعثر لها على مكافآت قد تُدعى بالانتصارات أو النجاحات. لذلك اعتبرت نظريات الثورة، وعلى رأسها الماركسية ومدارسها المتشعبة، أن الثورة، الموصوفة بالتاريخية خاصة، هي التي تتميز (تجربتها) بالحركية الجدلية التي تشفّ وقائعها عن تحولات بنيوية في هياكل مجتمعها. ويبرز الهيكل الطبقي كأوضح مسرح مادي، تتصارع على خشبته هذه التحولات مفجّرة عمقَها بقوى المصالح الواقعية التي تقود الحراك الثوري كما ستنقاد به هي كذلك.
ثورات ‘الربيع’ الحالي ليست بعيدة عن هذا النوع من التحليل، لكن كمية الأعطال التي راكمتها حتى الآن تكاد تستحوذ على حركيتها الجدلية، فالأعطال المتراكمة تصير متراكبة، لن يتوقف تأثيرها عند حدود ظروفها الراهنة، إنها تقطع الطريق أمام تصحيحاتها الممكنة والمطلوبة، يصير للثورة واقعٌ آخر يتجاوز جدليتها الذاتية، بحيث لا يعود ثمة نفع لمفاعيل قانون الصح والخطأ. تخسر الثورة هكذا طبيعتها المجتمعية الكلية لتنحدر إلى طبيعة أخرى أقرب إلى مواصفات الانتفاضات الفئوية العارضة. فما يتهدّد ثوراتِ الربيع العربي إجمالاً هو من مشتقات هذا المصير، إذ تضيع آمال التغيير الطبقي والسياسي العام، فلا أنظمة الحكم القروسطية والأوليغارشية المحتكِرَة من بعض الفرديات من الحكام الطغاة أو من قبل شراذم العشائريات والزبائنيات الفاسدة، سوف لن تنزاح عن صدور الأكثريات المقهورة، أو شبه المسحوقة، بل قد يحدث أن يستولي الرعاع على وسائل العنف، وأن تتولد جماعات الارتزاق، وتحتل واجهات متعاكسة من أطياف البرابرة الجدد. فالنظم المستبدة تعيد إنتاج طغيانها القديم والمستديم من خلال هذه الزمر التي تدعي مقاتلتها باسم مكافحة الإرهاب الشعبوي، كأنما لم يعد للمجتمع الذي كان ثائراً سوى الخيار بين استبداد الطغيان السياسي القائم، أو استبداد الإرهاب الصاعد.
ذلك هو الاستعصاء الأصعب في الخيار العام، والأشد عنفاً وخبثاً من كلا الاستبدادين هذين معاً، كأنما لم يتبقَّ ثمة مفرٌّ من أحدهما دون الخضوع للآخر في وقت واحد. ينطبق هذا الحال على تعقيدات المسيرة ‘الثورية’ لسوريا بشكل تراجيدي قاهر. وهي مسيرة بائسة واقعة في مسلسل من الأفخاخ المتتابعة، وتحديداً منذ سقوطها في الفخ الأدهى بعد استسلامها للعَسْكَرَة كلياً. فقد حكمت على نفسها بقطع مواردها الثقافية والأخلاقية عن مدنية مجتمعها. استحوذت معايير العنف وحدها من كره وحقد وانتقام، على سلوك الأغلبية من قادتها وأفرادها. وأما شعائر التديّن فقد استُعملت بغرض الدعاية والتغطية اللفظوية على مُنكرات الممارسات الهمجية، بعد أن باتت فظائعها مصدَر تنافسٍ وتمايز ما بين فصائلها الرافعة لشعارات جهادية إسلاموية يتبّرأ منها معظُم مسلمي هذا العصر.
تلك هي ظاهرات عنف محفوفة بإشكاليات نظرية وعملية لم تكن ثورات الربيع قادرة على التنبؤ بها قبل أن تغطي أحداثها البائسة على أية منجزات إيجابية تحققها آمال أُولى للجماهير المتحركة. فمن هدف واضح معلن عن نوايا صادقة ومباشرة في إسقاط دولة الإستبداد والفساد، إلى أهداف أخرى متمتعة بهيبة ثقافة التراث، لكنها على الصعيد العملي فإنها تفتح جبهات صراع عقيمة ومدمرة، تضاعف من عوامل الفرقة والانقسامات العمودية في الجسم الاجتماعي. هذا يعني أن الثورة أمست مضطرة لهدر قواها في معارك جانبية عبثية، بينما يمعن نظام الطغيان القائم في مخطط التدمير المنهجي لكيان الوطن وشعبه وحضارته. فالصراع، من أمام الثورة، وما بين هوامشها وحتى صفوفها، يدفع إلى الحكم المتشائم، واليائس حول افتقاد المعنى والهدف معاً لكل هذا (الما يحدث) المظلم والدامي. إنها حلقة مُفْرغة محرومة من أية قوة قادرة على كسر منفذ في حركيتها العقيمة.
مثل هذه اللوحة العاتية المسيطرة على مشهديات المقتلات السورية، كان يمكن أن تسيطر نسخة أخرى منها على مصير ثورة مصر، لولا أن فارقاً بنيوياً وعميقاً حقاً ميّز الحدث المصري عن الحدث السوري، وهذا الفارق لن يكون نتاجاً لاختلاف الكيانين فحسب، كما يُقال عادة بالنسبة لمصر المتمتعة بأقدم دولة منذ خمسة آلاف سنة، وأن سوريا الحالية ما هي إلا قطعة جغرافية مجتزأة من أرض بلاد الشام وتاريخها الغني بإمبراطوريات صانعة لحضارات الإنسانية القديمة، كل هذه الخصائص لها حسابها ولا شك من حيث أنها تؤسس خلفية الحاضر الوجودي والسياسي للشعبين المصري والسوري، لكن يتبقّى أن الفارق بين الكيانين هو من نوع حدثي وحركي، وهو المتمثل في قدرة تاريخ مصر على إعادة استحضار مكتسباته الثقافية والحضارية في لحظات التغيير المفصلية العامة، مع التمكن من قيادة هذه اللحظات من التغيير الفاصل لصالح أفضل أهدافه المرحلية نسبياً على الأقل.
الربيع العربي في مصر هو في صدد المواجهة لأصول الاستبداد، وليس للإنشغال ببعض ظواهره الراهنة والمداهمة فقط. هنالك استبداد البنية الأمنية للدولة المثقلة بأجهزة الطواغيت السابقين الذين احتلوا قمة سلطتها، هنالك استبداديات جماهيرية مأخوذة بتحريفات قروسطية عن طرقِ تديّنٍ لإسلامٍ فاقد لأصوله الحقيقية، هنالك استبداديات نظم الفساد الشعبوية المترسبة عن القهر الاجتماعي حليف الطغيان السلطوي والسياسي، هنالك استبداديات التسلّط الاستعماري الخارجي وامتداداته الوطنية الزائفة. فالثورة التي أطاحت خلال أسابيع بالفرعون الأكبر الجاثم على صدر الدولة والمجتمع، لم تنه مهمتها، بل هي أعلنت افتتاحيتها من رأس الهرم، على أن يتولى أهل الهرم بقية المهمات الأصعب، بعد رفع الغطاء عن مختلف هذه الاستبداديات المستبطنة لوجود الهرم من رأسه حتى قاعدته.
أما المرحلة الراهنة، فهي التي سيكون لها عنوان مزدوج: أحدهما متوّج بوقائع الرئاسيات الجديدة، والثاني سيغدو كفاحاً ثقافياً وأمنياً من أجل ثورة ثقافية وسياسية معاً، تُرسي حقوقاً جماهيرية مشروعة من أجل التنوير العقلي، الفردي والجماعي في آن معاً. إنها معركة هائلة شاملة، يخوضها ربيع مصر بالأصالة عنها، وبالنيابة عن كل ثورة ربيعية أخرى في الوطن الأكبر. إنها حقاً المعركة التي يمكن تدوينها في سجل النهضة العربية الجديدة، التي صار عليها أن تصحح كل أخطاء أو خيبات النهضات السابقة. أما حديث التكاليف الحالية فهي لن تفوق تكاليف الانحطاط الذي سبقها ولا شك، لكنها لن تؤول إلا إلى مزيد من النهوض. ذلك هو الرهان المصيري الأكبر الذي تختص بمعرفته وتدوين مفرداته الجديدة ثوراتُ الإنسانية الفاصلة. فلن تبزغ شمس الحرية إلا عندما تتبدّد آخر ظلمات الليل. لكن هذا الرهان الدهري الذي يحياه الوجدان الثوري سيكون له شرط بديهي حاولت مصر الجديدة أن تثبت بعض ظروفه الرئيسية، فلقد حافظت ثورة مصر على استقلال وطنيتها حتى الآن، فإن معركتها هي داخلية وذاتية، وهي طاردة باستمرار لعودة ألاعيب الأجانب بخصوصيات الوثبات الوطنية. لن تكرر مصر مصائب الثورة السورية، لن تلقي بمقود فرسها إلى أي يد غريبة، لن تدخل غياهب لعبة الأمم. هذا هو الامتياز المؤسس لانطلاق كل ثورة حقانية، فإن انتصرت سيكون نصرها لها وحدها، وإن هي خمدت أو هُزمت، فسوف تعرف جماهيرها بأسبابها، وتكشف المسؤولين عنها. فالثورة المستقلة هي وحدها القادرة على تخطي أخطائها، ستظل سيدة نفسها وقائدة مسيرتها سواء تفجرت أو خمدت.. ولكن إلى حين.

‘ مفكر عربي مقيم في باريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية