في مواجهة سلطوية الحكم في مصر يقف اليوم مجتمع مدني ضعيف ومنقسم ومحاصر. هذا المجتمع المدني الذي أسهم بالشبكات العديدة للنشطاء الشباب وبالفاعلين في بعض وسائل الإعلام التقليدية والإعلام الاجتماعي وبحركاته العلمانية وبعض جماعات الإسلام السياسي وبنقاباته واتحاداته المهنية في الحراك الديمقراطي 2011، يحاصر منذ 2013 بغابة من القوانين المقيدة لحرية التعبير عن الرأي ولحرية التنظيم وبممارسات قمعية تهمشه ولا تبدو في الأفق فرص لتراجعها.
غير أن هامشية المجتمع المدني المصري ليست فقط نتاجا لقوانين وممارسات الحكم، بل تتسبب بها أيضا عوامل مثل الانقسامات الإيديولوجية الحادة بين الفاعلين المدنيين والهيمنة الراهنة لثقافة سياسية غير ديمقراطية على أغلبيتهم. فالحركات العلمانية، وتلك تتكون تقليديا من مجموعات ليبرالية ويسارية وقومية، تحولت بأغلبية ساحقة بعد فترة من انتقاد الحكم وفترة أقصر من البحث عن التوافق مع بعض جماعات الإسلام السياسي إلى شيطنة الإسلاميين كعقبة الديمقراطية الرئيسية. مجددا، يضع علمانيو مصر آمالهم في بناء دولة حداثية يضطلع حكمها بمهمتي الفصل بين الدين والسياسة والقضاء على وجود الإسلاميين في المجتمع المدني.
في دنيا العلمانيين المصريين، تصير الديمقراطية ويصير التأسيس للتداول السلمي للسلطة عبر صناديق الانتخابات وللتنافس السلمي في السياسة وللشرعية القانونية المستندة إلى القضاء المستقل وضمانات الحقوق والحريات أمورا ذات أهمية مجتمعية ووطنية لاحقة للقضاء على الإسلاميين. في مثل هذا السياق الذي يدلل على هيمنة الثقافة السلطوية، أيدت أغلبية الحركات العلمانية انتزاع المؤسسة العسكرية للحكم في صيف 2013 وصمتت في إخفاق أخلاقي وسياسي مريع عن انتهاكات مفزعة لحقوق الإنسان. للتذكير: بعد مظاهرات شعبية واسعة، أطاح وزير الدفاع الأسبق عبد الفتاح السيسي بالرئيس المنتخب محمد مرسي وأوقف العمل بدستور 2012 دون اعتبار للإجراءات الديمقراطية وشكل حكومة انتقالية شارك بها العديد من السياسيين والشخصيات العامة المنتمية لحركات علمانية. تبع ذلك تورط الأجهزة الأمنية في انتهاكات مفزعة ضد المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين، وهو ما رتب الزج بمصر إلى دائرة من العنف الرسمي والعنف المضاد بين الحكومة وبين بعض جماعات الإسلام السياسي. تبع ذلك أيضا انقلاب دوائر الحكم المحيطة بوزير الدفاع الذي أصبح في 2014 رئيسا للجمهورية على العلمانيين المشاركين في الحكومة والنزوع إلى تهميش مشاركتهم في مقابل تعميق سيطرة القادمين من المؤسسات العسكرية والأمنية والاستخباراتية على السلطات العامة في البلاد (السلطة التنفيذية متبوعة بالسلطة التشريعية).
يبدو العلمانيون وكأنهم ضحايا لسقوط أخلاقي وسياسي وجمود فكري لا فكاك منهما، يتمسكون بتحالف لم يعد قائما مع سلطوية حاكمة ولا يعتذرون أبدا عن انقلابهم على فرص وآمال التحول الديمقراطي في صيف 2013 ويميزون بين ذلك وبين الإصرار المشروع على تلاعب الإسلاميين قبلهم بالديمقراطية في بر مصر
وقد كان وراء الاستجابة ذات الطبيعة السلطوية الصريحة من قبل أغلبية العلمانيين المصريين لإنهاء تجربة التحول الديمقراطي في صيف 2013ووراء الارتماء العلماني في أحضان المؤسسة العسكرية مجموعة من الأسباب النابعة من التاريخ السياسي والاجتماعي لمصر والتي تستحق الرصد ليس لتبرير التخلي الموجع للعلمانيين عن الديمقراطية، بل لفهم خلفيات الحدث والتنبه إلى عمق الظاهرة. لم تثق الحركات العلمانية المصرية أبدا في الابتعاد الكامل لجماعات الإسلام السياسي عن العنف، وارتبطت محدودية الثقة هذه من جهة ببدايات جماعة الإخوان المسلمين في عشرينيات القرن الماضي وببعض أحداث الخمسينيات التي شهدت نزوع الجماعة إلى ممارسة العنف (موجة الاغتيالات السياسية قبل 1952 ومحاولة اغتيال جمال عبد الناصر في 1954)، ونبعت من جهة أخرى من نشوء جماعات إسلامية عنيفة منذ سبعينيات القرن الماضي ودخولها في مواجهات مسلحة مع الأجهزة الرسمية (من جماعة التكفير والهجرة وتنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية وصولا إلى عصابات داعش). غابت أيضا ثقة الحركات العلمانية المصرية في القبول الشامل للإسلاميين لشرعية وجود الدولة الوطنية والامتناع عن الخلط بين الإحالة المرفوضة إلى تأويلات عن الدولة تشكك في الشرعية هذه وبين المطالبة بإدخال تغيرات ديمقراطية على سلطات ومؤسسات الدولة وعلى الدستور والقوانين والسياسة.
كذلك ارتبط الارتماء العلماني في أحضان المؤسسة العسكرية بخوف الحركات العلمانية من ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة الذي لم تتوقف جماعات الإسلام السياسي عن ترديده (الإسلام هو الحل ونحن من نمثله الذي كان لسان حال جماعة الإخوان منذ ثمانينيات القرن العشرين) والذي يتناقض بوضوح مع التنظيم الديمقراطي للسياسة ومع صون حقوق وحريات المواطنين وحماية توازن المجتمع. وقد تواترت بين 2011 و2013 العديد من مظاهر تمسك الإسلاميين بادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة هذا وضربهم عرض الحائط بآمال التحول الديمقراطي التي لم يكن لها أن تستمر دون توافق بينهم وبين العلمانيين.
فحين يصبح استفتاء على تعديلات دستورية فعل «جهاد» ضد «العلمانيين الكفرة» (استفتاء 2011)، حين يتراجع الاعتراف الصريح وغير المشروط بحقوق وحريات المواطنة المتساوية للأقباط (الخطاب السياسي للسلفيين بين 2011 و2013)، حين توظف إحالات غير واضحة للشريعة الإسلامية للتشكيك في الدستور (قبل وبعد التعديل في 2011 وقبل وبعد اعتماد دستور 2012) كمرجعية نهائية لتنظيم حياة المواطنين ووجود المجتمع ودور الدولة، حين يخرج التنافس الانتخابي عن مضامينه الديمقراطية والسلمية ويفسر كأمر ديني ويصنف الناخبون بفاشية مرعبة إلى جماعات المؤمنين الذين يصوتون للإسلاميين وإلى المتهمين بالخروج عن «الدين والملة» من مؤيدي الأحزاب الليبرالية واليسارية والقومية؛ حينها يمكن إدراك الخلفيات السياسية والعمق المجتمعي للمخاوف التي سيطرت على الحركات العلمانية المصرية قبل الارتماء المخزي في أحضان المؤسسة العسكرية.
وعندما أضحى جليا أن جماعات الإسلام السياسي تستطيع أن تأتي بالدين كما برأسمالها الاجتماعي (ماكينات تقديم الخدمات الاجتماعية للإخوان والسلفيين التي غيرت المجتمع منذ ثمانينيات القرن العشرين) إلى مراكز الاقتراع لحسم الاستفتاءات والانتخابات لصالحها، وأضحى جليا أيضا نزوع الإسلاميين إلى التحالف مع المؤسسة العسكرية لإحكام قبضتهم على السياسة واستعدادهم للصمت في سبيل ذلك على انتهاكات مفزعة لحقوق الإنسان بين 2011 و2013؛ انقلبت أغلبية العلمانيين المصريين على آمال التحول الديمقراطي وعادت إلى الفهم السلطوي للسياسة مفضلة تدخل الجيش. ولم يرتب لا انقلاب سلطوية ما بعد 2013 في مصر على مشاركة العلمانيين في الحكومة ولا التعقب المنظم للأصوات الليبرالية واليسارية القليلة التي عارضت إلغاء التجربة الديمقراطية من قبل الأجهزة الأمنية، لم يرتبا اتجاه أغلبية العلمانيين إلى المقاومة السلمية للحكم. اليوم، يبدو العلمانيون وكأنهم ضحايا لسقوط أخلاقي وسياسي وجمود فكري لا فكاك منهما، يتمسكون بتحالف لم يعد قائما مع سلطوية حاكمة ولا يعتذرون أبدا عن انقلابهم على فرص وآمال التحول الديمقراطي في صيف 2013 ويميزون بين ذلك وبين الإصرار المشروع على تلاعب الإسلاميين قبلهم بالديمقراطية في بر مصر. ولم ينج من ذلك السقوط الأخلاقي والسياسي والجمود الفكري غير نفر قليل ممن رفضوا سلطوية الإسلاميين وسلطوية تياراتهم الليبرالية واليسارية، وانتهى بهم الحال إلى التعرض للتشويه والإقصاء من المعسكرين.
غير أن مأساة سقوط وجمود أغلبية العلمانيين المصريين تمتد منهم إلى جماعات الإسلام السياسي التي لم تتعلم من خطاياها بين 2011 و2013 ولم تزل إلى اليوم ترفض مراجعة المكونات السلطوية لفهمها هي للسياسة وللمجتمع. وعن ذلك، ستأتي كلمات الأسبوع القادم.
كاتب من مصر
الأستاذ الفاضل/ خليل أبو رزق..الكاتب الفاضل لم يبرر موقف العلمانيين “والتي تستحق الرصد ليس لتبرير التخلي الموجع للعلمانيين عن الديمقراطية، بل لفهم خلفيات الحدث والتنبه إلى عمق الظاهرة” فقرة4 من المقال. أما رأيي في المقال،سأبدأه بملاحظة بسيطة: يستخدم الكاتب تعبير “خطايا” ، وحيث أن القانون الوضعي ، الذي هو أحد نتائج أفكار التنوير ، به جنحة وجناية، ولا يوجد به خطيئة، أي أن شخصا ما ارتكب خطيئة لن يجد المدعي العام (النيابة) توصيفا قانونيا لها،أي لا يوجد اتهام، أي لا يوجد قضية، أي براءة. هذا الخطأ يرتكبه معظم مثقفي العالم العربي، وهذا يعني أن فكر التنوير لم يتمثلونه، لا عقلا ولا علما، وهذه إشكالية، لها أسبابها ولا مجال لذكرها الآن. أما ملاحظتي الأساسية علي المقال فله تعليق آخر. تحياتي للجميع.